“مارتن إيدن” رواية جاك لندن الشهيرة في السينما

بعد عرضه في مسابقة مهرجان فينيسيا السينمائي وفوزه بجائزة أفضل ممثل نالها بطله الممثل الشاب لوكا مارينيللي، جاء فيلم “مارتن إيدن” Martin Eden للمخرج الإيطالي بيترو مارسيللو، للعرض في الدورة الـ 63 من مهرجان لندن السينمائي.

فيلم “مارتن إيدن” إعداد إيطالي عن رواية الكاتب الأميركي جاك لندن التي نشرت عام 1909. وقد عرف مؤلفها بانتمائه الاشتراكي. وتحمل الرواية الكثير من سمات “السيرة الذاتية”، فبطلها العامل ذو الأصول البسيطة الذي انتقل بين مهن عدة متدنية، ثم قرر أن يعلم نفسه بنفسه وتمكن بعد أن كان شبه أمي، من الإمساك بناصية اللغة ليصبح كاتبا مرموقا يشار إليه بالبنان، قد يكون هو نفسه جاك لندن. لكن الشخصية الرئيسية في الرواية أي “مارتن إيدن” تحمل ملامح أخرى مستقلة يتخذها المؤلف أساسا لتوجيه النقد الشديد لموقف بطله، الذي يعتقد أن “الثقافة أهم من التعليم” وأن “الإرادة الفردية أقوى من الطبقة”.

اختار مخرج الفيلم بيترو مارسيللو، أن ينقل أجواء الرواية من البيئة الأميركية في أواخر القرن التاسع عشر، إلى مدينة نابولي الإيطالية. ولكن بينما أبقى على اسم الرواية كعنوان لفيلمه، فقد تعمد ألا يحدد زمان وقوع أحداثها، فجعل الأحداث تنتقل صعودا ونكوصا بين فترات زمنية مختلفة، واستخدم الكثير من اللقطات التسجيلية (من الأرشيف) لكي يسلط الأضواء على بعض أحداث القرن العشرين، من دون ترتيب زمني، ولكنه استبعد منها أهم وأخطر ما شهدته إيطاليا، أي فترة سيطرة الفاشية.

ربما يكون المخرج قد أراد من فكرة عدم تحديد الزمن في فيلمه، أن يوحي لنا بأن هذه الشخصية الغريبة الأطوار، التي لا تشعر بالارتياح أو بالسعادة قط، وتظل دائما هائمة، حائرة، مضطربة، هي شخصية من عصرنا، من قرن الأفكار الأيديولوجية المتصارعة، أي أنها نتاج الاضطراب الفكري والتشوش، لكن هذا التعميم الزماني أفقد الفيلم الكثير من التأثير.كما أدت الإشارة المتكررة إلى بدء “الحرب” في الفيلم إلى وقوعنا في الحيرة، فأي حرب تلك التي كان يشير إليها دون أن نرى لها وجودا!

طبيعة الأماكن التي يدور فيها التصوير بل وأسلوب التصوير نفسه، خاصة في الثلث الأول من الفيلم، وتصميم الملابس وطرز السيارات والقطار.. وغير ذلك، تشير كلها إلى حقبة قد تكون في الأربعينات بعد الحرب مباشرة أو الخمسينات، لكن طبيعة المشاهد التي يصورها لإضرابات العمال وتجمعهم من أجل تكوين كيانات سياسية ونقابية تدافع عن حقوقهم يحمل سمات فترات زمانية أسبق كثيرا على الخمسينات، فهي تبدو كما لو كانت تنتمي لبدايات الوعي العمالي في إيطاليا بالماركسية، والموقف الحائر بينها وبين الفوضوية (تأسس الحزب الشيوعي الإيطالي عام 1921).

سحر الحب الذي لا يكتمل

قصة الصعود

بطلنا المنحدر من بيئة فقيرة، لم ينل شيئا من التعليم، ليس لديه سوى عدد محدود من المفردات اللغوية، ويخطئ في استخدام مفردات اللغة الإيطالية التي لا يعرفها بل يتحدث بلهجة سكان نابولي الشعبية التي تختلف في مفرداتها كثيرا عن الإيطالية، لكنه يطمح الى أن يصبح كاتبا عظيم الشأن. كيف يحدث ذلك وهل يمكنه أن يتحقق له دون السيطرة على اللغة؟

يبدأ الفيلم وصاحبنا البحار الذي يقدم نفسه باعتباره “مارتن إيدن” (إمعانا في تغريب الشخصية عن المحيط) ينقذ شابا ينتمي لعلية القوم من اعتداء تعرض له في الميناء، فتدعوه أسرة الشاب، عائلة أوسيني البورجوازية العريقة الثرية، إلى تناول العشاء في قصرهم. وهناك يقع في غرام ابنة العائلة الجميلة كالزهرة اليانعة “إلينا”.

وترى هي فيه شابا وسيما جريئا طموحا، يمكن أن يصبح رجلا ذا شأن إذا استطاع أن يتعلم. تحدثه عن الشاعر الفرنسي بودلير (صاحب ديوان أزهار الشر) لكنه لا يعرف عنه شيئا. من هذا اللقاء الذي يعصف به عاطفيا، ينطلق “مارتن” يسعى نحو التعلم. يشتري كتابا عن بودلير ويتعلم الأبجدية الإيطالية وتكوين العبارات، ثم يقتني عشرات الكتب يلتهمها، وبعد أن يفشل في اختبارات القبول في فصول التعليم، لا يفقد إيمانه بنفسه وبقدرته على أن يتفوق على الحاصلين على أرقى الشهادات. إنه يريد أن يثبت لحبيبته أنه جدير بحبها له.

يقيم مارتن مع شقيقته وزوجها الجاف الفظ الذي يعترض على انكباب مارتن على القراءة، بدلا من أن يعيش عالة عليهما، وينتهي الأمر بمشاجرة يطرد على إثرها من مسكن زوج أخته، فيلتقي في القطار بأرملة تكبره في العمر هي “ماريا” ذات الأصول الاجتماعية المتواضعة، تؤمن بعبقريته فتمنحه غرفة في مسكنها في قرية خارج نابولي. ومن هناك يواصل كتابة مقالاته وأشعاره وقصصه ورسائله الغرامية الى إلينا، يشتري الطوابع ويرسل كتاباته بانتظام الى الصحف التي ترفض نشرها وتعيدها إليه.

غموض الكتابات

رغم حب “إلينا” له إلا أن تفكيرها العملي يجعلها تشعره أنه يضيع وقته سدى، وأنه يجب أن يعثر على عمل جيد قبل أن تقرر الارتباط به. وبعد أن ينفجر في ثورة غضب على ضيوف العائلة البورجوازيين خلال دعوة عشاء معربا عن ازدرائه لقيم وأفكار طبقتها، تقطع علاقتها به، ليستمر في الكتابة والمحاولات إلى أن تأتيه الفرصة أخيرا فيعثر على من يؤمن بموهبته وينشر كتاباته. أما نوعية هذه الكتابات فيبقيها الفيلم في الظل. نحن نفهم أنه يكتب عما يشاهده في الواقع (ربما مثلما كان يفعل بودلير)، أي عن أقرانه من أبناء الطبقات الدنيا. لكن هذا الموقف الفكري المفترض، يتناقض مع رفضه الحاد للاشتراكية. يلتقي في حفل من حفلات الطبقة العليا برجل عجوز هو “روس” الذي يصبح بمثابة والده البديل، يصادقه ويؤمن بموهبته الأدبية لكنه ينصحه بأن يقبل على الاشتراكية التي يرى أنها الفكر الذي سيجعل لكتاباته قيمة ومعنى.

على هامش اجتماعات الاشتراكيين

مارتن إيدن يحضر اجتماعات الاشتراكيين ويخطب فيهم معلنا رفض ما يردده قادتهم، أي فكرة الجماعة ويصر أن الفرد هو أساس التقدم، ويلوح بكتاب هربرت سبنسر عالم الاجتماع الإنكليزي صاحب نظرية الفرز الطبيعي أو الداروينية الاجتماعية، كما يعلن انحيازه للإنجاز الفكري والجمالي للأرستقراطية وليس للطبقة العاملة. إنه يرفض البورجوازية دون أن يتخلى عن قيمها بل يبدي احترما كبيرا لمنجزاتها، ويرفض الاشتراكية لكنه يتمسك بانتمائه البسطاء. ونراه في أحد المشاهد يصحب “إيلينا” الى أحد الأحياء الشعبية حيث يعرفه الجميع وينادونه باسمه، ويصيح فيها: أما أكتب عنهم.. ما الخطأ في أن أكتب عن هؤلاء البشر؟

ما الذي يحتزنه مارتن؟ ماذا يريد بالضبط؟ هناك إحساس ما بأنه يرغب في تحقيق الصعود فقط بغرض الانتقام من البورجوازية التي يلعنها ويكرهها دون أن يقبل بفكرة الثورة عليها. إنه يتعذب بالحب بعد أن تتخلى عنه “إلينا”. يقيم علاقة مع فتاة جميلة، ساقية في مقهى، لكنه لا يبدو مقتنعا بها فقد سبق أن وصفها بأنها “لا تستطيع تركيب جملتين معا”. إنه يظل ينتظر “إلينا” ويفكر فيها. وعندما تأتيه بعد أن يكون قد أصبح كاتبا شهيرا مرموقا يتمتع بالثراء، يرفضها ويطردها من حياته بكل قسوة.

لمسات جمالية

هذا الصعود يتحقق في القسم الثالث حيث يقفز الفيلم في الزمن (دون تحديد دقيق للزمن) لنرى مارتن يقيم في قصر فخم، يتبرع بالمال الكثير لأصحاب “الدعوة إلى الثورة” ولكن أي ثورة بالضبط؟ لا نعرف ولا يهتم الفيلم بالتوقف أمام هذه المرحلة ويتعمق فيها كما كان ينبغي، وهي إحدى نقاط الضعف في الفيلم رغم جماله الشكلي واهتمام مخرجه كثيرا بمحاكاة أسلوب الأفلام الإيطالية التي تجمع بين الواقعية والرومانسية مع لمسات من سينما الحداثة وتفكيك الصور بين التداعيات الحرة بالكاميرا المهتزة، والمشاهد المصممة بدقة وكلاسيكية، كما تعمق الألوان من الإحساس بالتغيرات الدرامية. ويهتم المخرج كثيرا بأماكن التصوير التي تمنح الفيلم قوته وتشكل عالم البطل في انتقالاته المختلفة، من البيئة الفقيرة في حواري نابولي إلى الريف، ومن العمل في المغسلة، إلى قصور البورجوازية بما فيها القصر الفخم الذي سينتقل للعيش فيه بعد أن يحقق الثراء، يغدق على شقيقته، يمنحها شقة جديدة، ويشتري لها متجرا. وفي هذا الجزء تتغير ملامح مارتن، ولون شعره وملابسه بل وطريقته في الحركة والحديث، لكنه يظل ثائرا غاضبا حانقا، ينعكس الألم الداخلي على وجهه.

الحقيقة صادمة

في بناء الشخصية ما يجعلك تتعاطف معها رغم تناقضاتها. فلا شك أن للموهبة والعصامية احترامها. لكن مارتن لا يصل الى اليقين ولا السعادة بل يظل يشعر بالاضطراب الفكري والنفسي.ورغم صعوده الاجتماعي (وانتقاله من طبقة إلى أخرى) إلا أن شعوره بالاغتراب يتزايد، فيظل حائرا مترددا بين ما حققه ورغبته في العودة إلى أصوله وانتمائه الحقيقي. “لقد خان طبقته” حسب مفهوم جاك لندن، واستحق مصيره التراجيدي.

  روس.. الناصح الروحي لبطل الفيلم

 إن ما يحرك مارتن في الفيلم، ليس البحث عن الحقيقة. فهو ليس البطل الوجودي المعذب الباحث عن الحقيقة. إنه يرى أن الحقيقة صادمة، لذلك يهرب من مواجهة الذات، ويصبح مدفوعا بقوة عدمية تقوده نحو تدمير الذات. في الرواية يجعله جاك لندن ينتحر بالغرق في البحر. أما في الفيلم فيبقي المخرج عليه ويجعله يختفي من عالمه بحثا عن عالم آخر. هل سيلقي بنفسه وهو على ظهر الباخرة التي تنقله الى العالم الجديد؟

من ناحية الديكور والاكسسوارات والمونتاج والموسيقى ومستوى الصورة، يصل الفيلم إلى قمة الدقة والاتقان والرونق. لكن تبقى المشكلة الأساسية في غموض الكثير من النقاط في السيناريو رغم إخلاصه لرواية جاك لندن، ويعاني الفيلم كما أشرت، من الاضطراب نتيجة غياب تحديد الزمن، وغموض الفكر الخاص الذي يعبر عنه بطله، بل وقلة معرفتنا بطبيعة كتاباته نفسها وعلاقتها بالعالم اكتفاء بإشارات عامة واقتناص عبارات مبهمة.

ومن أبرز معالم الفيلم التي تفوق طاقم الممثلين جميعا ودقة اختيارهم، يتقدمهم جميعا لوكا مارينيللي في الدور الرئيسي. إنه ينتقل في سلاسة وبراعة وحيوية، من فترة البراءة الأولى ومن سذاجة الجاهل الذي يضحكنا عندما يعجز عن وصف لوحة يراها واضحة من بعيد ومجرد صبغات لا معنى لها من قريب، أو عندما يأكل بيديه على المائدة بطريقة همجية، إلى إصرار العاشق الذي يقرر أن يفتن حبيبته بتفوقه على المتعلمين، إلى بساطته ومرحه وملاطفته لأولاد “ماريا” التي أشفقت عليه وعلى وحدته وآوته لديها مؤمنة بموهبته وبأنه سيحقق النجاح ذات يوم. يحافظ الممثل على إيقاعه وحيويته كشخصية متمردة عنيفة، من مشهد إلى آخر، ينعكس على وجهه عذابه الداخلي، يعرف كيف ينفجر معبرا عن رفضه وغضبه، كما يعرف كيف يسمو ويتخيل ويحلم بحبيبته التي أصبحت بعيدة عنه. إنه ممثل من قماشة فريدة، ولا شك أنه سيكون له شأن كبير في السينما الإيطالية وما وراءها.

فيديو من الفيلم


Visited 83 times, 1 visit(s) today