ماذا يعنِي أنْ يحوي الفيلمُ كتابًا في النقدِ السينمائيّ!
في خريفِ هذا العام، عام كورونا، والحرائقِ، والإفلاسِ، واغتيالِ قاسم سُليماني، والانتخاباتِ الأمريكيّةِ، وهبنا الكاتبُ والمُخرجُ تشارلي كوفمان فيلمَه “أفكّر في إنهاءِ الأمورِ” عن روايةٍ بنفسِ الاسمِ للكاتبِ الكنديّ إيَن رِيد.
يحكي الفيلمُ عن الشابِ جايك (جيسي بليمنز) وحبيبته لوسي/لويزا/لوتشيا (جيسي بَكلي) في أوّلِ لقاءٍ لها مع والديه (توني كولِت وديفيد ثيولِس) في بيتِه الكائن في إحدى المزارع النائية، يختطفُنا الفيلمُ منذ الدقائق الأولى، ويتقاذفنا كمضاربِ التنس، ونعرفُ أنّ الأمورَ تقولُ أشياءً جسيمةً وهي في طريقِها لتنتهي.
عُرض الفيلمُ لأول مرةٍ في الرابع من سبتمبر/أيلول، ومن يومها سوّد النقادُ والمراجعون الكثير من الصفحات، في قراءاتٍ مُختلفةٍ تدّعي كُل واحدةٍ الإمساكَ بالخيطِ بين الوهمِ والواقعِ، وبين الواقعِ وخيالِ الخيالِ، وتتسابق في اصطيادِ الشيءِ/الفكرةِ/المشهدِ الذي يمنحنا مفتاح الفيلم: الخنزير الذي تأكله الديدان، القبو الذي يحوي غسّالة ملابس ولوحاتٍ تشكيليةً، الصبية الحائرة وهي تهبط السلالم غير المنتهية، السيارةُ التي شهدت أهم حوارات الفيلم، محل الآيسكريم الذي يُقدّم خدماتِه وسط الجليد، السلاسلُ التي يُصرّ جايك بأنّها معه، وغيرها الكثير جدًا.
بل حتى اسما المُمثليْن الرئيسييْن المُتطابقيْن في النطقِ رغم اختلاف التهجئة (جيسي وجيسي) يعني، حسب اعتقادي، إشارةً ما في التفسير وتفكيك الأحجية، لكنّ أهم شيء يُمكن أن يدلَّنا على مزاجِ الفيلمِ وأفكارِه، حسب اعتقادي أيضًا، هو الكتابُ القابعُ في أحدِ رفوفِ غرفة جايك: كتابَ الناقدةِ السينمائيّةِ الراحلةِ بولين كايل.
ماذا قالت!
ليس لبولين كايل (1919 – 2001) شهرةٌ كبيرةٌ في الشرقِ الأوسطِ والأسبابُ كثيرة، منها عدم وجودِ موقعٍ نقديّ باسمِها كموقع روجر إيبرت (1942-2013)؛ أشهر ناقد أمريكيّ في رقعتنِا الجغرافيةِ.
في العامِ الماضي وبمناسبةِ الذكرى المائة لمولدِها قدّم المُخرج روب غارفر فيلمَه التسجيليّ “ماذا قالت: فن بولين كايل” عن حياتِها المهنيةِ والمعاركِ التي خاضتْها ببسالةٍ، والتأثيرِ الذي تركتُه على قرّائها الكثيرين الذي كان بينهم، بالطبع، المُخرج تشارلي كوفمان.
بولين كايل، لم تكن ناقدةً ذكيةً وماهرةً فقط، بل كانت أيضًا شُجاعةً في قولِ ما تراه جديرًا بِذلك، تتكلّم في المقابلاتِ بثقةٍ مفرطةٍ، بشعرٍ بُنيّ ناعم وقصير، وأنفٍ حادٍ مثل الملقط، وعينين غائمتين بزُرقةٍ سماوية، وهناك شيء ما في صوتِها يجعلُ المُشاهدَ راغبًا في أن يُسعفها بكأسٍ من الماء، لكن كلماتها الجسورة تُنهي هذه الفكرةَ تمامًا، ولذلك فإنّ إدراجُ كتابِها ذي الـ 1340 صفحةً في الفيلم أكثر “المضبوطات” ذكاءً وغرابةً، وهو يحملُ أكثر من دلالةٍ، فتشارلي كوفمان يُقدم تحيةً إلى ناقدتِه المُفضّلةِ التي يقولُ بأنّها أذكى منه، وفي نفسِ الوقتِ ينطلقُ مؤكدًا بأنّ فيلمَه هذا سيدفعُ المشاهدين لقراءةِ النصوصِ النقديةِ الكثيرةِ التي تحاولُ شرحَ هذا الفيلمَ المُلغّز.
وقد يتذكّر البعض هنا فيلم “مُلهولاند درايف” جوهرة ديفيد لينتش الأكثر بريقًا، مع فارق المستوى لصالحِ فيلم لينتش بالطبع.
إنّ كُلّ الأفلامِ تستدعي النقدَ والتحليلَ، بطريقةٍ أو بأخرى، لكن “أفكرُ في إنهاءِ الأمورِ” يحتاجُ ذلك أكثر من غيره، بل يُمكن القولُ أنّ فيلم كوفمان قد أخذ الكثيرَ من سماتِ النقدِ السينمائيّ وصبغَ بها نفسَه.
لا يُتفق عليه/عليها
يعرفُ كُلّ النقّاد البارعين، والمشاهدين أيضًا، أنّ النقدَ السينمائيّ يأمرُ ولا يؤمر، يُفكّك ما يراه المشاهدُ ليُلحمه بما يعتقده هو، ويعرفون أيضًا ألّا نسخة نقدية وحيدة وناجزة لأي فيلم، كما لا يوجد طريقة مُثلى يُمكن للناقد أن ينتهجها فتتكشّف له خفايا الأفلام، كما أنّه لا يوجد نقدٌ مُتفق عليه.
“أفكّر في إنهاءِ الأمور” يُذكّرنا بذلك أيضًا، لقد تعددت الألسنةُ التي ترجمتْ تشارلي كوفمان، وكل تفسير يُكدّس الأدلةَ بأنّ مُحتواه هو الأقرب للصحةِ، مستعينًا بالروايةِ الأصليّةِ، وبأفلامِ كوفمان السابقةِ، وبالإشاراتِ المبثوثةِ داخل الفيلم، وبأفلام أخرى تتشابه معه، إنّه فيلم يُسيلُ لعابَ أيّ ناقدٍ سينمائيّ بمن فيهم بولين كايل نفسها. فمن هو صاحب الرأس الذي تدورُ فيه الأمور التي يجب أن تنتهي؟ هل هو جايك؟ أم عامل النظافة العجوز؟ أم الحبيبة؟ من هو الرجل العجوز؟ هل هو جايك نفسه؟
“أفكّر في إنهاءِ الأمورِ” يدعمُ ماهيّةَ النّقدِ السينمائيّ، ويعتمدُ عليها، للفيلمِ عدةُ تفسيرات وكُلّها مقبولة ومعقولة، لا إجاباتٍ شافية هناك، بل أسئلة تصطفُّ دون كللٍ كما أُريد لها أنْ تكون.
طعامٌ وفيزياء
أتت البطلةُ التي لا اسم محدد لها، بِعدّةِ وظائف واهتمامات؛ نادلة، وفنانة تشكيليّة، وشاعرة، درستْ الفيزياءَ وعلمَ الشيخوخة، واسعة الثقافة والاطّلاع، لو يصح أنْ أضيفَ لها مهنةً أو موهبةً أخرى، لاخترتُ لها النّقدَ السينمائيّ، وبالفعل، بعد أن يأتي كوفمان بكتابِ بولين كايل، فإنه يستحضرُ روحَها لتتلبّس البطلةَ، فتتحدّث مثلها مُقتبسةً آراؤها حول فيلم “امرأة تحت التأثير” لجون كاسافيتيس.
الناقدُ السينمائيّ، أيضًا، كاتبٌ بعشرات الـ”سيفيهات”، علم اجتماع، وتاريخ، وفلسفة، وآداب، وفن تشكيلي، إنّ كلّ المعارفِ، والقراءاتِ، والتجاربِ تُشكّل رؤيةَ الناقدِ السينمائيّ، بل حتى العمل كنادلٍ أو فيزيائيّ يُفيد الناقد/ة السينمائي/ة أكثر من المُتوقّع، ففي الأولِ احتكاكٌ رهيبٌ مع أمزجةِ البشرِ، واقترابٌ حميميّ يُتيح مُلاحظةَ الروابطِ الهائلةِ بينَ الطبخِ والكتابةِ، أمّا المعرفة الفيزيائية فتجعلُ الناقدَ يرى أفلامًا مثل “الهاوية” و”نظرية كل شيء” بعينٍ رابعة وخامسة.
تنوير/إضاءة/مشاعل
إن كان لابُدّ من اختزالِ وظيفةِ النّقد السينمائيّ في كلمةٍ واحدةٍ فلن تكون سوى كلمة التنوير، إنّها لفظٌ استُخدم آلاف المرات لكنّ بعض الكلمات الـ”كليشيه” لا مفر من استحضارِها أحيانًا، ولنا أنْ نتخيّلَ الناقدَ السينمائيّ شخصًا يُمسك بمصباحٍ يدويّ يتأملُ النقوشَ الصغيرةَ التي تصنعُ التحفةَ الأثريةَ الكبيرة، أو إنسانًا يضرمُ النارَ في العراءِ ليستدلّ بها من ضلوا الطريقَ، أو يوقدُ شمعةً ليلعن الظلامَ ويُريَه للآخرين، إنّ الناقدَ السينمائيّ يكشفُ، ويُعرّي، ويربطُ حينًا ويحلّ أحيانًا أخرى.
فيلم “أفكّر في إنهاءِ الأمور” يفعلُ بالجمهورِ شيئًا مُشابهًا، بغض النّظرِ عن التفسيرِ الذي صدّقه هذا المُشاهد أو ذاك، فهو فيلمٌ كاشفٌ مِن الدرجةِ الأولى، يحثّ المُشاهدَ للنظرِ في نفسِه نظرة الناقدِ إلى الفيلمِ، فيُحاولُ تفسيرَ العلاقاتِ، والتجاربِ، والأفكار الداكنة في حياتِه، وتدفعه الكآبة المُكتّلة في الفيلمِ للتفكيرِ في أمورِه هو وهل حان الوقتُ لإنهائها أم لا! وكما يوصل الناقدُ المخرجَ مع جمهوره، يوصلُ هذا الفيلم المشاهدَ مع نفسِه.
كهف تشارلي
تشارلي كوفمان ليس من مخرجييّ المُفضّلين، ليس حتى من بين أفضل عشرين مُخرجًا بالنسبةِ لي، لكن لا يُمكن تجاهلُ أصالةَ أفلامِه ولغتِها الفريدةِ، كُلّ الأفلامِ ذاتيّة، أو المفروض أنّها ذاتيّة، لكن يبدو أنّ أفلام كوفمان تأتي من مكانٍ أكثرَ غرابةً وسريةً، من كهفٍ مُنعزل، أو من درجٍ سريّ، أو من تحتِ فراشِه، إنّها أفلامٌ مُشوّهة لكن حسناء، ومهما ابتعد ذوقُ المُشاهدِ عمّا يُقدّمُه كوفمان لا يُمكن سوى الإشادة ببصمتِها وبقائِها في الذاكرةِ، لم أنسَ، حتى الآن، الأثرَ الذي تركه مرأى دُمية الغيشا اليابانيّة (فيلم أنوماليزا/ 2015) التي اشتراها الأبُ لطفلِه من محلٍ ألعابٍ جنسيّة، ثم في آخر الفيلم تقولُ الزوجةُ بأنّها تسرّبُ سائلًا منويًا!
يستمرُّ تشارلي كوفمان في هذا الفيلم بالكشفِ عن كهفِه العميق، بكل ما فيه من بردٍ، وجُثثٍ، وعطنٍ، وخرائطِ كنز، وضمُّ كتاب الناقدةِ السينمائيّةِ بولين كايل هو أكثر “الأمور” ذكاءً، وأكثر الإحالات وضوحًا في شرحِ المضمونِ عاقد اليدين.
لا شيءَ أكثر ذاتيةً من الفنونِ، لا شيء أكثر ذاتيةْ من النقدِ السينمائيّ، وربما هذا أفضل ما تعلمه تشارلي كوفمان من بولين كايل.