“ليس نوعي” أو كيف تجعل مصففة شعر تحب كانط؟
ماذا يتوقع أحدنا عندما يهدي كتابا مثل “نقد ملكة الحكم” للفيلسوف الألماني كانط لمصففة شعر يلتقيها قبل أيام قليلة عندما يدخل مصادفة إلى صالون حلاقة في مدينة أُرسل إليها للعمل مدة سنة واحدة ليعود إلى دياره بعدها؟
لكنّ كليمان لوغيرن (أدى الدور باقتدار لويك كوربري الممثل فيla comédie française) يملك القدرةَ على أن يتابع انطباعات المصففة على قراءة كتاب مثل هذا في الوقت ذاته الذي تتحول بسرعة إلى عشيقة تشاركه النوم في غرفة الفندق التي اكتراها لنفسه. كما كانت لديه القوة أنه يعيش بأفكاره المثالية التي يدافع عنها في كتبه ومحاضراته بوصفه “فيلسوفا” وأن يعيش كل متع الحياة بوصفه شابا وسيما لا يزال العمر الباذخ بالمتاحات أمامه.
السؤال الأساسي الذي يقوم عليه الفيلم بأكمله هل يمكن أن تنهار الحواجز بين الطرفين؟ بين كليمان الفيلسوف وجينيفر التي تقرأ الروايات الشعبية البسيطة ومجلات المشاهير وتعيش ليالي الكاريوكي مع صديقاتها بشربها ورقصها وغنائها؟
الفيلم هو “ليس نوعي” NotMy Typeا الذي أخرجه لوكاس بيلفو Lucas Belvauxوهو يتمتع بتكنيك عصري في تنفيذ المشاهد وتقديم كادرات احترافية في العمل الذي يدور في فلك الرومانسية وقد تم ترشيحه لجائزة سيزار وهو مأخوذ من رواية بالعنوان نفسه للروائي الفرنسي فيليب فيلان. هذا الروائي جيّد في كتاباته، أغلب رواياته تناقش قضايا العلاقات الإنسانية خاصة بين الرجل والمرأة، رواية “امرأة غير مخلصة”، رواية “فتاة سيارة الأجرة” عن دار روسيي الشهيرة، كلها كتابات خفيفة اللغة عميقة الأفكار تعطي الانطباع الأولي بإمكانية قراءتها لمرة واحدة، غير أنّ فيلان له القدرة على أن يجعلك تكتشف طبقات الواحدة تلو الأخرى في كل قراءة جديدة، وهذه هي ميزة الكتابات الجيدة.
فيلم في قيمة الفلسفة، وقيمة اليومي، في الجد والهزل، والعمل والمرح، في الصداقة والحب والجنس. في كتب كانط ودوستوفسكي وأفلام جينيفر أنيستون وبراد بيت في أغلفة المجلات. عن عالم الأفكار وعالم الحس. في هذا الفيلم نكتشف أنّ إنجاز قِصّة لا يختلف عن إنجاز قَصّة. الفيلم يظهر قسوة الرسمي أمام الشعبي والمثقف أمام العامي. الحب الذي كان يظهر أنه تحقق فعليا بين الطرفين انهار أمامها ولم تعد هناك جدوى من البقاء إذا كان يخجل أو يترفّع (فالأمر سواء) عن تقديمها لزملائه وتعريفهم بها. كأن العلاقة الباذخة التي عاشاها ليس لها محل إلا غرفة مظلمة في فندق وعلى سرير وربما في أحسن الأحوال في مطعم لكن المهم بعيدا عن الناس الذين يعرفونه كفيلسوف.
بكل بساطة تغادر جينيفر (أدّت الدور الجميلة إيميلي ديكان) بعدما تخبر حبيبها بأنها ستسافر إلى جزيرة جربة التونسية مع صديقاتها في محل الحلاقة، وبعدما تخبرهنّ أنها ستسافر معه هو إلى المكان ذاته. يأتي كليمان بباقة ورد في آخر مواعيد العمل وينتظر أمام المحل حتى تخرج آخر عاملة. يسألها عن البنت ويكتشف أنها كذبت على الجميع. لا أحد يعلم أين ذهبت ولا الفيلم يخبرنا عن مكانها. بكل كومة الحزن الذي سببه لها الرجل الفيلسوف كليمان.لم يعرف الفيلسوف أنّ كلّ الفلسفات تحاول أن تصل إلى سعادة الإنسان لكنه لم يستطع أن يسعد الإنسان الوحيد الذي عشقه بجد. بل جاء كالعاصفة فدمّر كل شيء. جعلها تستقيل من عملها، تغادر بيتها، وتغلق الاتصال بصديقاتها المقربات ولا يعرف أحد إلى أين ذهبت. الحب الكبير يولّد خيبة كبيرة وهي خبّات تلك الخيبة الكبيرة في قلبها فذهبت إليها أولا وأمضيت ليلتها الأخيرة معه ثم غنّت باقتدار مع صديقاتها في سهرة رائعة ثم انطفأت في كون كبير لا أحد يعرف فيه طريق أحد إن فكّر في المغادرة فجأة.
الأغنية القوية التي غنتها وهي في كامل زينتها للأمريكية غلوريا غاينور (وهي أشهر أغانيها فعليا إلى جانب Never Can Say Goodbye): هل تعتقد أنني أستلقي وأموت؟ أوه لا ، ليس أنا ، سأبقى على قيد الحياة، طالما أنني أعرف كيف أحب، أعرف أنني سأبقى على قيد الحياة، لقد حصلت على كل حياتي للعيش، ولدي الحب الكبير لإعطائه، سأنجو.
قد يكون الفن قادرا على ترميم الانكسارات وتجميع الشظايا ولو بشكل أوّلي غير كامل. على الأقل هذا ما بدا أنها تحاوله فعله. انتهت أغنيتها تلك السهرة بدمع يبدو أن رفيقتيها لم تلحظاه، حتى أنّ إحداهما (السمراء المتألقة ساندرا نكاكي) أخبرت كليمان -عندما جاء بباقة ورد في نهاية الفيلم- بأنهنّ غنين تلك الليلة كما لم يغنين من قبل، ولم تكن رأتها بتلك السعادة أبدا.
كان وجع جينيفر كبيرا، غير أنّ الحبيب لم ينتبه له ولا الصديقتين أيضا لذلك انطفأت في مكان ما مثل شهاب سريع في كون فسيح. كان على كليمان ألا يقسو هذه القسوة لكائن لطيف يحب الحياة والعطاء مثل مصففة الشعر التي كانت لها فلسفة في الحياة أهم من كل الفلسفة التي كان يكتب عنها وينظر لها.