“لم يحن الوقت لإنهاء الأمور” في عقل كوفمان

“ما أسوأ أن تكون ضعيف الحيلة وأنت تري أحد أحلامك يتراقص أمامك دون أن تستطيع الإمساك به أو حتى مناداته. في هذا العالم الواسع.. ثمة شيء يحدث لك ويجعلك أصغر من صدر عصفور!”

فهد العودة – روائي كويتي

“لا أعرف لماذا اعتقدت أنني أستطيع كتابة هذا”.. ربما يلخص هذا الاقتباس، المأخوذ من فيلم “تكيف / Adaptation“، خوفي العميق من الكتابة أو حتى الاقتراب من اشراقة عقل تشارلي كوفمان الأبدية. في حقيقة الأمر لا يتملكني الشعور بالخجل في الاعتراف بذلك على الاطلاق، فالرجل نفسه الذي قدم أكثر القصص غرابة وتفردا في تاريخ السينما يري أنه لا يمتلك موهبة الكتابة بل لا يعتبر نفسه كاتبا من الأساس.

نحن نتعامل هنا مع صانع أفلام يعتقد أنه من الغرور الظن أن أعماله هي نتاج أفكار ومفاهيم واعية حددها مسبقا وعلقها على جدار غرفته قبل أن يمسك بقلمه ويشرع في الكتابة. ولكن الأمور مع كوفمان لا تعمل بهذه الطريقة، فأفكاره أسيرة إلى ذلك القديس الأكبر الذي يسمي “اللاوعي”. فإذا كنت تعتقد حقا أن ما تراه في سينما كوفمان هو الوجه الحقيقي للأشياء، أنظر مرة أخري.

تشارلي كوفمان

منذ بداياته السينمائية المبكرة، ظل كوفمان مهووسا بمعضلة العقل والجسد والروح، يتطرق إلى قضايا نفشل جميعا في مواجهتها، يتحدث عن جرح كلنا مصابون به. لحظات سعيدة وأخري مخزية يصعب علينا تحملها، اختيارات معلقة بملايين الأوتار الصغيرة، وفرصة وحيدة للحياة لا تحتمل الخطأ. شخصيات تنقب في عمق وحدتها، وقصص حب تختبئ في مناطق الخجل كيلا تُمحي من الذاكرة، أناس يصارعون الموت والعجز والعمر الذي يمضي.

في فيلمه الأخير “أفكر في إنهاء الأمور” I’m Thinking of Ending Thing، المأخوذ عن رواية الكاتب الكندي إيان ريد، لم ينحرف كوفمان عن مساره المفضل، فنري شخوصه لا تزال تطارد أكثر ذكرياتها إيلاما وهذا ما يجعلها تسعي للهروب من لعنة الوعي، تحدق في اطلال الماضي وانتكاسات الحاضر، تحاول أن تراوغ الموت علي أمل نيل نجاح واحد حتى لو كان زائفا.

كيف بدأت الحكاية؟

“خطأ دائما أن تستقروا على أي تفسير لأي شيء، فمهما يكن ما تستقرون عليه تكونون على خطأ، حتى وإن كنتم على حق. ذلك أن كل شيء زائل، كل شيء في حالة سريان مستمر”.

تشارلي كوفمان

قد تبدو الطريقة التي قرر بها كوفمان سرد حكايته غريبة ومحيرة بسبب كثافة المعلومات التي لا يمكن من المشاهدة الأولي استيعابها. ولكن إذا قمنا بتفكيك القصة ستبدو أكثر سلاسة ووضوحا على المستوي السطحي لكنها محملة بطبقات لا نهائية من التفسيرات التي بناها، لا ليضعنا في حالة تخبط بل ليجعلنا نري الحقيقة كل حسب استنتاجه. فليس هناك في الفن ما يسمي بالحقيقة المطلقة.

صمم كوفمان سيناريو الفيلم ليسير في خطين متوازيين، كل منهما يدور في عالم مختلف. يحكي الجزء الأول قصة فتاة (جيسي باكلي) التي تذهب في رحلة بالسيارة إلى منطقة ريفية مع حبيبها جيك (جيسي بليمونز) كي تتعرف على أسرته، أما الخط الثاني فيدور حول رجل عجوز يعمل بوابا بمدرسة ثانوية.

في التسلسل الافتتاحي للفيلم، يقيدنا كوفمان داخل سيارة تسير وسط عاصفة ثلجية باردة وغائمة مع جيك وصديقته التي لا نعرف ما إذا كان اسمها (لوسي، لويزا، لوتشيا)، وربما تعمل (مدرسة فيزياء، نادلة، رسامة)، فهذا كله لا يهم لأنها افتراضات دون تأكيدات واضحة؛ ولكن ما نحن متأكدون بشأنه هو أن تلك الفتاة عالقة في قبضة يأس وجودي لا يمكن تفسيره. حتى أحاديثها الداخلية، التي يعجز جيك عن سماعها ونسمعها نحن، هي لا تعرف من أين تأتي، فتقول: “لا أعرف، مجرد أفكار مبهمة تدور في ذهني”. إلا أن هناك فكرة واحدة تظل ترددها باستمرار وهي الرغبة في إنهاء الأمور. ولكن أية أمور التي تريد هذه الفتاة إنهائها، هل هي علاقتها مع جيك ، أم علاقتها بالواقع أم كليهما؟

تتصدع موثوقية كل ما نراه ونسمعه منذ اللقطات الأولي، فصوت الفتاة يتداخل مع صوت رجل آخر عجوز– يراقبها من شرفة شقته- وكأن كل منهما يكمل حديث الأخر، ثم تتقاطع الصورة أثناء الحديث عن مسرحية “أوكلاهوما” الموسيقية، فنري البواب وهو يتابع تدريب الفتيات بمسرح المدرسة على نفس العمل بل وتردد بطلة المسرحية نفس المقطع الغنائي الذي يستمع إليه جيك والفتاة من راديو السيارة.

وفي مشهد آخر يصر جيك على سماع قصيدة لوسي الجديدة، فتلقي عليه كلمات حزينة تشير إلى أفكار معقدة تتعلق بهواجسه. من هنا نبدأ بالشك فيما يدور على الشاشة، فنحن لا نعلم ما إذا كان هذا هو الواقع أم الخيال، أم الاثنان معا.

يتساءل كوفمان في أفلامه دوما عن ماهية حقيقة الأشياء، يذكرنا بإعادة النظر في طبيعتها، يدفعنا للشك في كل ما يحيط بنا، ما تعلمناه وما نراه وما نعرفه ونجهله، وهي نقطة أثارها الفيلم مرات عدة. فلا نعلم ما إذا كانت هذه الأفكار التي تدور في عقل الفتاة، حقيقية، أصيلة، نابعة من داخلها، أم تم تطويرها سلفا وقام أحدهم بغرسها في ذهنها. ليس هناك شيء واضح ولا شيء مسلم به، وكل القراءات صحيحة. كوفمان لا يهمه التفسير، يهمه فقط طريقة التوصيل. فيذكر: “أترك الناس لتجاربهم، لذلك ليس لديّ توقعات حول ما سيفكرون فيه. أنا حقاً أؤيد تفسير أي شخص”. [1]

إنها تتطرق إلى موضوعات شتي، تارة في الفيزياء والشعر، وأخري عن الرسم والأدب والسينما. ومع ذلك، فإن علاقتها بجيك لا يمكن أن نعتبرها عاطفية أكثر من كونها سلسلة من الاهتمامات المشتركة.

ذكر “جويل” في فيلم “إشراقية أبدية لعقل نظيف” Eternal Sunshine of the Spotless Mind، أن “التحدث باستمرار لا يعني بالضرورة التواصل”. فهي تستمع، بل تشارك، لكنها ليست حاضرة بالكامل في العلاقة. إضافة أنها لا تستطيع حتى أن تتذكر كم من الوقت كانا يتواعدان: أربعة أسابيع أم ستة أم سبعة؟ لحظات مكثفة من الوضوح يليها شعور بعدم اليقين. تشعر بالغربة عن جيك وعن نفسها، لكنها لا تستطيع تفسير السبب.

يقول هنري ميلر: “نحن لا نتكلم، إنما نحن نلكم بعضنا البعض بمعلومات ونظريات نلملمها من قراءات عابرة لجرائد ومجلات ودوريات”. فالموضوعات التي انخرطت الفتاة في الحديث عنها وتتوهم أنها تخصها، هي في الواقع اقتباسات، كقصيدة إيفا اتش من كتاب “فم مثالي فاسد / Rotten Perfect Mouth“، وأراءها عن فيلم “امرأة تحت التأثير / A Woman Under the Influence” المقتبسة من مقالة بولين كايل، مناقشات كتاب جي ديبور “مجتمع الاستعراض”، نظرية جوته للألوان، وأحد مقالات ديفيد فوستر والاس. وهو ما قالته بالفعل في المشهد الأول للفيلم “معظم الآخرين، أفكارهم هي آراء لشخص آخر. حياتهم تقليد. عواطفهم اقتباس”.

لدي وصولهما لمنزل العائلة، يتعقد السرد وتأخذ الدراما شكلا سيرياليا مليئا بالفجوات الزمنية على طريقة أفلام “لينش”، حيث تتغير هيئة والدي جيك بصورة مستمرة ما بين الشباب والكهولة، نتبين علاقته المتوترة بأمه، وذلك القبو الغامض الذي يثير الريبة في نفسه.

بينما تتجول الفتاة في أرجاء المنزل يريها جيك صورة لطفولته لكنها عندما تمعن النظر تخبره أن الصورة تخصها هي، ثم تصعد إلى غرفة طفولة جيك وتري أكواما من الكتب والأفلام، فتقع عيناها تارة على مقالات بولين كايل وأخري على أشعار إيفا اتش التي رددت بعضها في السيارة.

أثناء تناولها للعشاء تخبر والدي جيك انها رسامة وتعرض صور رسوماتها الموجودة علي هاتفها لهما. في مشهد لاحق تنزل الفتاة إلى القبو وتكتشف أن لوحاتها هي في الحقيقة لوحات الرسام رالف ألبرت بلاكلوك، لكنها موقعة باسم جيك، ثم تلتفت لتري ملابس داخل المغسلة تخص عامل المدرسة العجوز. تغادر الفتاة مسرعة، تتملكها مشاعر الارتباك والذعر وتطلب من جيك العودة إلى منزلها.

في أحد المشاهد، يسأل جيك حبيبته عما إذا كانت قد قرأت رواية آنا كافان بعنوان “الجليد”، وفيها يحاول البطل ملاحقة امرأة مجهولة بينما كان يتصارع مع شخصيته المعقدة. وفي مشهد آخر، يبدي جيك اعجابه بفيلم جون كازافيتس “امرأة تحت التأثير”، لكنه يفقد القدرة على الكلام بعدما يسمع رأي الفتاة عن نفس الفيلم. وهذا كله يصب نحو فكرة واحدة وهي عدم قدرة جيك الحصول على أي شيء يريده.

يقول كوفمان: “لقد أحببت فكرة أنه حتى في خياله لا يمكنه الحصول على ما يريد. سوف يتخيل هذا الشيء، ولكنه لن ينجح، ستضجر منه الفتاة، ثم تعتقد أنه ليس ذكيا أو مثيرا للاهتمام بدرجة كافية”. [2]

في طريق العودة للمنزل، يمر جيك والفتاة بمدرسة جيك القديمة حيث يدخلنا كوفمان في متاهة كبري ستشكل تصدعا دراميا آخر حول حقيقة حدوث الأشياء في رأس الفتاة من عدمه. فأثناء الوصول لساحة المدرسة يحاول جيك تقبيل الفتاة ولكنه يلاحظ أن هناك من يختلس النظر إليهما من داخله، تماما كما حدث مع مالكوفيتش في فيلم “أن تكون جون مالكوفيتش” Being John Malkovich حينما شعر أن هناك شخصا آخر يراقبه من الداخل، فيندفع جيك لتوبيخ العجوز وتتبعه الفتاة للداخل، فتري ذلك العامل الذي تقاطعت مشاهده معها منذ البداية. هنا يعطينا كوفمان أدلة بأن جيك والبواب هما نفس الشخص، فالخفان اللذان يعطيهما العجوز للفتاة هما ذاتهما نفس الخفين اللذين أعطاهما جيك للفتاة في منزل عائلته، علب الأيس كريم التي تملأ حاوية القمامة في المدرسة، وكذلك مشهده وهو يسير عاريا خلف خنزير يتساقط منه الدود، كما لو أنه من الخنازير التي التهمها الدود في مزرعة منزل العائلة.

خلال لقائهما القصير، يسأل العجوز الفتاة عن جيك “كيف كان يبدو”، فتقول: “وصف الناس صعب، لا أتذكر شكله ولم أتذكر؟ أظنه أحد آلاف العلاقات غير التفاعلية في حياتي .. وكأنني مطالبة بوصف بعوضة لدغتني ذات أمسية قبل 40 عاما”.

هنا ندرك أن جيك لم يتجرأ على محادثة الفتاة حين رآها في الحانة خلال شبابه، لذلك توقف الزمن في خياله وعاد لتلك اللحظة التي قابلها فيها ليمضي في علاقة معها ويصحبها إلى منزل والديه، لكنه يفشل في إيجاد التوقيت المثالي الذي سيضع الفتاة داخله، لأن تلك اللحظة لم تكن موجودة أبدا في طفولته أو حتى شبابه. فهو لم يلق تفهما من والديه، تنمر عليه زملاؤه، ولم يكن له أصدقاء، فسلبه العمر أعذب لحظاته وصار كهلا يحاول التعلق بشظايا الماضي علي أمل أن يجد مفرا من كابوس الوحدة الذي بات يشكل روتينه اليومي.

لعنة الوعي وزيف الواقع

“هل لدي أفكار أصلية في رأسي؟ رأسي الأصلع. ربما لو كنت أسعد لم يكن شعري ليقع… أنا كليشيه يمشي.. أحتاج إلى أن أقع في الحب. أحتاج إلى حبيبة. أحتاج إلى قراءة المزيد وتطوير نفسي.. كن فقط حقيقياً وواثقاً من نفسك. أليس هذا ما تنجذب إليه النساء؟”.

يعكس هذا المقطع من فيلم “تكيف” سعي كوفمان الدائم نحو فكرة الأصالة فيما يكتب ويقدم للمشاهد. وهذه أزمة شخصية تكشف عن قلق وجودي عانى منه طويلا ومنعه من سلك العديد من الطرق. لذا جعل من بطل الفيلم تجسيدا لشخصيته الفعلية كي يكتب عن نفسه وعن أزمته وسط مناخ هوليوود الملوث بأفكار استهلاكية سامة.

مشكلة تشارلي الأساسية، في الفيلم السابق ذكره، تتمثل في محاولاته اليائسة حينما يقف وحيداً في وجه هوليوود التجارية. لعل كلماته في بداية الفيلم لخصت فكرته، حينما قال: “لم لا يكون هناك فيلم عن الأزهار فقط؟”. هو ككاتب أعجب كثيراً برواية سوزان أورلين “سارق الأوركيد” The Orchid Thief، لهذا لا يريد مزجها ببعض القوالب والكليشيهات الرخيصة كالمخدرات والجنس والأسلحة. فيقع تحت وطأة الحيرة والعجز إلى أن يأتيه الإلهام في النهاية.

هذه الإشكالية الهوليوودية التي يطلق عليها كوفمان اسم “الأفكار المدمرة”، ركز عليها بشكل أكبر في فيلمه الأخير، ليثبت لنا مدي قدرة الفن الرديء في تدمير النفس البشرية من خلال منحها مشاعر وأفكار مزيفة لا وجود لها في الحياة الواقعية. فبينما يتحدث جيك والفتاة عن قطار موسوليني، يخبرها بأنه يمكنك القفز من القطار في أي وقت، لكنها ترد بأن هذا لا يحدث إلا في الأفلام فقط. أما في الحياة الواقعية، من المحتمل أن تموت وأنت تقفز من قطار متحرك. هنا يعتقد جيك أنه يفرط في مشاهدة الأفلام كي يملاً عقله بالأكاذيب لتمضية الوقت، وتتفق معه الفتاة في هذه النقطة بأن كل شيء يسعى للحياة حتى أفكار الأفلام المزيفة الرديئة تريد أن تنمو داخل العقل وتستبدل الأفكار الحقيقية.

في لقطات أخري من الفيلم، غالبًا ما يظهر البواب بصورة سلبية، فهو يتناول افطاره في المنزل أمام التلفاز يشاهد أحد أفلام الرسوم المتحركة، ويكرر نفس النمط حين يتناول غدائه في المدرسة، حيث نراه يتابع فيلما رومانسيا مبتذلاً عن قصة حب بين شاب ونادلة في المطعم تنتهي باعترافه بحبه لها على الملأ مما يتسبب في طرد الفتاة من عملها.

يقول كوفمان: “هناك الكثير من البشر المعزولين أمام الشاشات. فهم لا يكلمون أحدا، وهذا جزء من ماهيتهم النمطية، ليس لهم أي أصدقاء. ولكنني أريد أن أعبر عن أفكارهم” [3] وهذا بالتحديد ما يتغذى عليه عقل ذلك العجوز الذي استوعب تمامًا وسائل الإعلام المحيطة به لدرجة أنها تتحكم في كل جانب من جوانب واقعه. وهذا ما يفسر استمرارية تغير اسم ومهنة الفتاة طوال الفيلم، لقد بناها العجوز من تلك الكتب والأفلام واللقاءات العابرة التي شكلت نظرته المنعزلة عن العالم.

خلال الجزء الأخير، يقدم جيك محاكاة لخطاب جون ناش (راسل كرو) في فيلم “عقل جميل” A Beautiful Mind وهو يتسلم جائزة نوبل. وفي وقت سابق، نري نسخة من نفس الفيلم في غرفة طفولة جيك، لذا فمن المنطقي أن جيك وجد الكثير من الأشياء ذات الصلة التي تربطه بقصة رجل يعاني من مرض انفصام الشخصية ولديه مشكلة في التعامل مع الواقع المحيط به.

أثناء مشهد تسلم الجائزة، نلاحظ أن جيك يقف أمام خلفية مسرحية “أوكلاهوما” الموسيقية التي دار حديث عنها في بداية الفيلم، وتتجلي نسخة مصغرة من غرفة نومه على المسرح. ثم يؤدي ذلك المنولوج من المسرحية والذي يعلن فيه جود فري عن نيته الزواج من لوري، ويتضمن سطراً معبرا عن الأحلام التي تراود جيك، يقول: “احصل على امرأة للاتصال بنفسي”.

وفي مشهد سابق يدور لقاء دافئ ما بين الفتاة والبواب ينتهي بوداع كل منهما الأخر مما يشير إلى أن جيك العجوز قد قبل أخيراً التخلي عن خياله، ويعقبه مشهد الباليه المستمدة فكرته من نفس المسرحية أيضا، حيث نجد فتاة المزرعة لوري وسط شجار بين أثنين ممن يحبونها وهما كيرلي ماكلين وجود فري، ينتهي التسلسل بموت كيرلي، مما يوحي بأن جيك قد قبل استحالة حبه من الفتاة.

يقول كوفمان: “هناك بعض الأشياء في مسرحية أوكلاهوما شعرت أنها كانت في الحقيقة متوازية من حيث الموضوع مع القصة التي كنا نرويها” [4] وهو ما يفسر تظاهر جيك بكونه شخص آخر غير الذي يوجد عليه، لذلك استخدم الإطار السردي للمسرحية للقضاء على هذا الوهم بعدما أصبح بطل قصته وفي نفس الوقت محاصرا بها.

بالعودة إلي خطاب جيك المقتبس من فيلم “عقل جميل”، يضع كوفمان نهاية سعيدة في خيال بطله المتوهم لكنها لم تكن موجودة قط على أرض الواقع. حيث تشير لقطة السيارة المغطاة بالثلوج إلي رحيل جيك بعدما شاهد إخفاقات حياته وهي تغادر جسده. إنها قصة مأساوية عن الوحدة وتداعي الذاكرة والعمر الذي يمضي، رجل يجر أذيال الخيبة في مواجهة الماضي، يتجول كطيف عابر أملا في انتزاع اعتراف من عالم لا يبالي بوجوده، لا يراه ولا يسمعه، فسطر نهاية ناجحة في خياله فقط.

المصادر

1- محاضرة تشارلي كوفمان في الأكاديمية البريطانية لفنون السينما والتليفزيون “BAFTA“.

2- حوار تشارلي كوفمان مع موقع “Indiewire“.

3-  المرجع الأول.

4- المرجع الثاني.

Visited 65 times, 1 visit(s) today