لمسة برجمان.. الحرية وفوضى الانانية
يروي فيلم “اللمسة” The Touch لإنجمار برجمان (1971)، حكاية زوجين سويديين يكونان أسرة مستقرة مع طفليهما ويدخل في عالمهما باحث آثار زائر يقيم علاقة مع الزوجة مما يخلخل تكوين الاسرة ويهدد وجودهما، وتكتشف الزوجة آثار الماضي على نفسية عشيقها وتأثيره على علاقته بها، وبعد معاناة طويلة يسافر الباحث إلى بلده تاركاً الزوجة وهي حامل منه، مفتقدة للسند العائلي وسنده هو، وبعد ان تلحق به تكتشف حجم مغامرتها الفاشلة وتعود ليكون طفلها منه هو المغزى الوحيد لتلك العلاقة ولينتهي الفيلم على اكتشافها لذاتها بعيداً عن زوجها وعشيقها معاً.
وحكاية الفيلم تنتمي إلى حكاية الثالوث الاوربي، الفرنسي الاصل، السائد : الزوج والزوجة والعشيق وهي في انتمائها هذا تبدو متبذلة جداً وتقليدية، وليس لها في مبناها الدرامي ما يسوغها او يفردها بعيداً عن تكراراتها في السينما والمسرح، ولكن برجمان ، بوعيه، يحاول ان ينقل هذه الحكاية من شكلها العابر إلى رؤية خاصة تمتلئ بموضوعات بعيدة تماماً عن هذا الشكل، ومغايره له في ماهيتها اصلاً، فهو يسعى إلى ان تجعل هذه الحكاية، بوصفها الانساني، من حيث هي تجربة تعاني منها الاطراف الثلاثة، مجالاً لعرض قضاياه الخاصة ذات المنحى التأملي الفلسفي، الذي قاد حكاية الثلاثي المألوف إلى مجهل عميقة في النفس البشرية، وصاغ من خلال وتحت غطاء نسيجها عناصر رؤيته الشاملة للحياة من خلال موضوعاته الملحمية: الحب والدين والاخر والنظام والملل والعزلة والفراغ الوجودي، وعلى ذلك تكون حكاية الثالوث مجرد عذراً، مفتعل احياناً لعرض قضايا لا صلة لها بهذه الحكاية، وهو ما يجعل الحكاية الفيلمية مبتذلة وغير مقنعة وفقيرة إلى روح الابداع، من حيث مبناها الحكائي وصياغتها الدرامية، ولكن برجمان لم يكن معنياً بهذا قدر عنايته بان تكون هذه البنية مجالاً مفتوحاً لمناقشة رؤاه الخاصة، وهو ما انقذ الحكاية ذاتها، جزئياً ن من ابتذالها العريق.
أن اسس هذه الحكاية ليست سوى مشاغل برجمان الفلسفية، التي افرغها في تتابع ملم في اعماله كلها وكأنه يصوغ اسئلة متتالية عما لا جواب له، او يضع أجوبة مشوشة شكاكة عن قصد، لسؤال يبدو بسيطاً وعابراً ولكنه في الصميم من ازمة الوجود. ولذا فإن البحث عن اسس الحكاية واصولها ن وهي مبنية على سيناريو اصلي من افكار برجمان سيكون امراً شاقاً لأنه يعني ببساطة فحص عناصر الوعي البرجمان ي المتعددة المتداخلة وغير المستقرة، ويمكن القول اجمالاً ان برجمان في اللمسة كان وفياً لعادته الاثيرة في جعل افلامه مجرد معارض فنية لافكاره ومشاغله الذهنية إلى الحد الذي يهمش فنيتها الظاهرة وان كان يمنحها فنية الذهن العميقة المتأملة الباردة في اغلب الاحيان ولذا فان توظيف حكاية اللمسة التي لا مظهر فيها للذهني اصلاً، لعرض قضايا ذهنية خالصة انما هو عمل برجمان ي خالص وهو تعبير اصيل عن اسس هذه الحكاية في وعي برجمان تلك الاسس التي تفارق في مضامينها واسلوب وعيها ما هو مألوف من اسس لمثل هذه الحكاية الشائعة في الوعي الغربي السائد.
ينفرد برجمان بالطبيعة الذهنية العميقة التي تحرك افكاره وافلامه بتأملها الفلسفي المستفيض في قضايا ليس من السهل نقلها إلى الشاشة في اداء بصري مقنع يمارس مهارة المحافظة على خطي الوعي اللذين يصعب جمعهما معا: متعة المشاهد ومساوقة الفيلم لما يريده من جهة، ورغبة المبدع في تشكيل عالمه البصري الخاص رؤية واداء من جهة اخرى. ولعل ما يميز برجمان في هذا الباب هو امتلاؤه الفلسفي معرفته العميقة وثقافته الواسعة التي وجدت في تأملاته الوجودية منفذا لها ومن هنا كانت افلام برجمان وقبلها سيناريوهاته تعد نصوصا ادبية عميقة وتعتمد على أكثر صور هذا العمق تجذرا وهي صورة الحوار التي تتخذ من موضوعات الوجود مدارا لها، وصورة اللقطة التعبيرية الكبيرة التي تماثل في هذه الافلام اسلوب التحليل الهادئ العميق للمشاعر الاكثر غموضا ورهافة في الوجود الانساني. ولان وعي برجمان منبن على هذا التأمل الدائم والانشغال المفرط في قضايا بعينها فيمكن القول ان افلام برجمان كما هو حال نشاطاته الابداعية الاخرى انما هي تنويعات ادائية على اساس رؤية خاصة نجد صدى مكوناتها في جميع اعماله مع ملاحظة تفاوت حضورها وتغاير هيمنتها بين عمل واخر وهذه المكونات انما هي محاور العمق الرؤيوي في الفكر البرجمان ي الذي ينطبق عليه التعريف الجدي للفلسفة بوصفها رؤية عميقة للعالم ومحاولة لسبر اغواره ووضع اجابات او اسئلة لما تثيره هذه الاغوار في الوعي المدرك لها.
الحرية والنظام:
ينطلق برجمان من رؤية وجودية محترفة لرصد العلاقة بين مفهومه للحرية بمعناها الوجودي الدقيق ومفهومه للنظام بوصفه معيقا لهذه الحرية وقيدا على انطلاقها وتحققها. وهذا المبنى الوجودي ذو النزعة التشاؤمية يبدو (سارتريا) في احساسه بالمفارقة العميقة بين الحرية والوجود ذاته، وهي المفارقة التي تؤلف اغرب انواع الجدل الوجودي في هذا الباب الذي عبر عنه سارتر بقولته الشهيرة (ولد الانسان محكوما بالحرية) فالحكم نظام والحرية نقيض له وجدل النقيضين هو الذي يمنح الحرية معناها او يجعلها بؤرة الاسى والقلق والخوف بمعانيها الوجودية. وهو ما يلمح في وعي برجمان بوضوح صريح ومتكرر دليلا على انشغاله بالمفارقة والسعي إلى التوفيق بين طرفيها. ان ما يؤسس لكينونة الحرية في وعي برجمان هو انتظامها الذي هو بالضبط مصدر الخطر الاول عليها، بمعنى ان الحرية لكي تتحقق لابد لها من انتظام واتجاه أي لابد لها من تحديد وهذا التحديد هو القيد الذي يحد منها اصالة، ويخلق مفارقتها الوجودية، وكينونة المرء انما تكمن في لحظة المفارقة هذه حين يشعر بقسوة طرفي الجدل عليه فحريته تريد، وانتظامه يريد، وكلاهما يفرض شروطه على الوجود الانساني مما يعطي هذا الوجود بعده التراجيدي العبثي الذي المح اليه فلاسفة الوجودية المعاصرة لاسيما سارتر وكامو والذي كان حاضرا بجلاء في وعي برجمان المثقف والمبدع منذ البداية.
ان انواع النظام التي رصدها برجمان بوصفها معيقات للحرية كثيرة وبعضها لا يمتلك الاصالة الوجودية ولا تتحقق فيه لذعة المفارقة، فقد تناول النظام السياسي الطاغي، والسلطة الدينية، والحرب واللغة والمجتمع، والمرض والجنس وغيرها من علامات على انظمة ظاهرة وخفية، واتخذ منها موقفا، غير ان اكثر الانظمة مفارقة في وعيه واعماله هو نظام الزواج لا بوصفه الديني او الشرعي بل بوصفه اختيارا – أي حرية، ينقلب إلى سلطة معيقة وضديد للحرية بمعنى ان برجمان عني بالزواج بوصفه الحرية التي تتحول إلى نقيضها رغم ان اختياريتها كانت شرط كينونة، وهو في هذا الشأن يفلسف ما يبدو مألوفا وعاديا ولكنه يمسك بأخطر مفاصله وانماطه اذ كيف يتاح للكينونة ان تولد من الحاجة لتفقد حريتها في ذروة التحقق حتى تأخذ شكل النظام ؟ وما الحل لهذا التحول؟ وهل هو عيب أصل في الحرية ذاتها ام في قرار الاختيار ام في المواضعات التي بني النظام عليها؟ قبل ملاحظة ذلك الامر علينا ان نؤكد ان هذه المشكلة حياتية اصلا في وجود برجمان الشخصي فهو قد تزوج عدة مرات وانفصل واقام عديدا من العلاقات، وهذا يعني انه تأرجح بين قطبي الحرية والنظام كثيرا وما تكراره تجربة الزواج في مجتمع مثل مجتمع السويد الحر جنسيا وغير المبالي بنظام الزواج اصلا، ما تكرار برجمان لهذا الامر الا تعبيرا عميقا عن أزمته التي تمتلك صورة فلسفية رغم مظهرها الشخصي.
ولقد كان فيلم اللمسة من اوضح اعماله تعبيرا عن هذه الازمة ففي العمق من رؤية الفيلم يمكن ان نتلمس فكرة برجمان عن الحرية وعن النظام وعن ماهية الوعي بهما، اذ يبدو جليا ان برجمان يعي ان بذرة موت الحرية كامنة في الحرية نفسها وان اختيار الشريك بوصفه فعلا حرا، هو نقطة البداية لنهاية هذه الشراكة مهما طال الامد ومهما استطاع الشريكان تأجيل لحظة النهاية لاسيما من خلال مفهوم الوهم الذاتي، وتأجيل محاسبة النفس ومراجعتها، وفحص قناعاتها.
فبرجمان في اللمسة وعبر جو عائلي نموذجي في ظاهره يكشف لنا عن محنة الاعتياد والسكون الوهمي والامتلاء الظاهري الذي يهتز من جذوره لمجرد هزة ريح بسيطة مع ملاحظة ان الريح ليست أكثر من سبب وهمي لهذا التداعي فهو موجود في الاصل ولكنه مؤجل ومواجهته معطلة حتى لحظة التحريك تلك التي تكشف عن ضعف المبنى وتهافته لا عن قوة الريح وامكانية تغييرها لاستقرار النظام. لقد كان استقرار العائلة المتفاهمة والسعيدة استقرارا كاذبا وكانت دموع الزوجة في المستشفى رغم غموض اسبابها علامة على الانهيار ولكن الوعي المعقلن اجل هذا الانهيار تحت ذرائع شتى وصار يجري حسابا ذاتيا وهميا يعطي فيه لنفسه الحق في كثير من تصرفاته ويحاول ان يبرر ويسوغ افعاله وهو في هذا كله يرزح تحت ثقل مواضعات انظمة خارجية، كالأسرة والمجتمع والاخلاق ومستقبل الاطفال محاولا ان يجعل من هذه المواضعات قناعات ذاتية وقرارات حرة اتخذها بملء ارادته وهذا الوهم هو الي قاد الجميع إلى الهاوية في اللمسة لأنه تضمن عدم فهم مأساويا للذات وعلاقتها بالآخر كما تضمن خوفا مرعبا من الحرية رغم التوق الشديد المهلك اليها.
ان قمة المأساوية في مفهوم برجمان للحرية والنظام وجدلهما العنيف انما تكمن في قناعته بالحلول التوفيقية التي هي نقيض للحرية اصالة، فقد سعى برجمان في حياته وفي اعماله على السواء ان يؤسس نقده العنيف على مقولة التجديد والتبديل وكسر الاضطرار والرتابة التي دخلت الحرية الاولى في متاهتها سعيا إلى ايجاد منفذ للحرية الجديدة، غير انه كان يقدم متاهة اخرى معلومة النتائج بوصفها بديلا أي انه كان يسعى إلى كسر النظام بنظام اخر متوهما انه يؤسس لحرية اخرى فلا يكون محصول متلقيه مما قدمه له الا وهم الحرية والا لذة التغيير والتبديل وهي لذة مؤقتة عابرة غير ذات قيمة في ذاتها اذ ان قيمتها الاصلية تكمن في مفارقتها الظاهرية للنفق الذي خرجت منه الروح، والحقيقة ان تبدل نوعية النفق واضاءته وحجمه فضلا عن التوق العميق للخروج هو الذي يوهم الروح انها وجدت منفذا إلى الهواء الطلق فيما هي تدخل نفقا اخر مختلفا سوف تغطيها اوحاله بمجرد وعيها به، وبانه ليس الطريق الصحيح إلى الهواء انما هو صورة اخرى للنظام الذي اثقلها بمواضعاته.
ولعل اغرب ما في وعي برجمان وابطاله ايضا تصديقهم بهذه الخدعة وتحسرهم على غياب الضوء وسعيهم اللا مجدي ولكنه المحموم ابدا إلى ايجاد منفذ اخر فقد فشلت الزوجة في ابتكار حريتها مع العشيق الذي تبين لها انه ظل باهت لزوجها وصورة اقل مصداقية منه وكان الاولى بها ان تعرف ذلك بدءا اذ ان مقدماته كانت واضحة تماما منذ لقاؤهما الثاني الذي انكشفت فيه ملامح المرض النفسي الذي يرزح تحت ثقله عشيقها ولكنها في الحقيقة لم تكن تنظر إلى العشيق بوصفه الانساني ولا تقارنه تبعا لذلك بغيره، وانما كان هو طريقها إلى حرية مفترضة بمعنى انه وسيلتها في الطريق إلى ما تريد وليس مهما، في التوق إلى الحرية، الا الحرية ذاتها وعليه فان تغييب الزوجة لوعيها وايهامها نفسها انها احبت عشيقها ليس الا اقناعا للذات كي تتجرأ على ما هو اخطر، في الفكر الوجودي، وهو القفز إلى الحرية عبر هاوية الاختيار والبدء وقلقها المر وعواقبها الوخيمة.
ولذا فان وعي الزوجة بخداعه الذاتي ومحاولته تغطية الحاجة إلى الحرية بصورة نظام اخر ما هو الا تعبير جلي عن مفهوم برجمان لهذه المحنة وهو في هذا التعبير وفيّ باجلى صور الوفاء للموقف الوجودي منها ذلك الموقف الذي يعد الحرية وهما لا يتحقق الا في القفز اليه، أي انه لا يتحقق الا ونحن نسعى إلى بلوغه فاذا بلغناه تحول إلى نقيضه في صور غولية تتبدل دون ان نستطيع الامساك بها مطلقا.
غير ان برجمان في الغائه الشخصي على الفلسفي انما يغفل متعمدا امكانية النقد الذاتي على اعادة تجذير الحرية او تدعيمها حتى في صورة النظام، وهذا يعني ان مفهومه الاصل عن الحرية يبدو غائما ومثاليا وهو يقرنها بفوضى الانانية، مما يجعلها غير متحققة اصلا في أي سياق تشاركي، اختيارا كان او قسرا.
وهو بذلك يؤسس لغياب الحرية في الاختيار وليس في الوعي بها، أي انه يقول ضمنا ان لا حرية موجودة اصلا وانما هي معطى للتأمل والوعي ولذا فان هموم ابطاله، ضمنا، لا تبدو حقيقية او هي تنبني على وهم الوعي بالشيء وليس الوعي حقيقة به. وهذا التأويل الذي يمكن ان نجد له ملامح واضحة في فيلم اللمسة يكشف لنا بجلاء أثر الشخصي في الوعي البرجماني فهو قد بنى كراهيته للزواج بوصفه نظاما على مقولة عائلية ليست دقيقة، هي علاقة امه بأبيه التي كانت محور وعيه بالزواج كما بنى هذه الكراهية على مفهوم ساذج للحرية وكان لهذين الامرين أثرهما في تأرجحه بين الحاجة إلى الزواج بوصف تحققا لحرية الاختيار والمسؤولية المترتبة عليه (وهي من مقدسات الوجودية) وبين خوفه المرضي من مصير كمصير عائلته ومن نهاية لحريته التي هي شرطه كفنان.
لذا فان جدل هذين القطبين في اعماله وفي حياته هو الذي صبغ وعي ابطال اللمسة بالتردد والمجانية، كما صبغ تصرفاتهم بالتهور والاندفاع رغم عمق وعيهم بذواتهم وسعيهم إلى تأمل ما هم فيه ومناقشته بعقل وحكمة.
الترميز والتماهي:
ان الطبيعة الذهنية التي ينبني عليها وعي برجمان تستلزم الترميز وتجاوز المستوى الاشاري البسيط في اعماله فهو لا يقصد المظهر الحكائي مهما كان عميقا، ومؤثرا، وانما يرمز عبره إلى العمق الخفي الذي لا تستطيع اللغة الاحالة اليه بوضوح ولا يمكن نقل مجرداته الفكرية ومضامينه العميقة إلى سطح الصورة البصرية بسهولة ومن هنا ينبغي لمن يقرأ اعمال برجمان السينمائية ان يضع في حسبانه رمزيتها المفرطة احيانا، والتي تقود ضرورة إلى قناعاته الفكرية والفنية دون شكلانية او غموض. ولعل من ابرز الافكار التي شغلت برجمان في رموزه قضية السلطة والألوهة، بوصفهما الابوي، وفقا لرؤية مزيجة ذات شقين: التراث المسيحي، والتحليل الوجودي لهذه الرؤية، مع خصوصية برجمانية مفادها ان برجمان ابن لقس مسيحي في السويد وهو وضع فيه الكثير من التناقضات والمفارقات التي لابد لها من التجلي في وعي برجمان وفي اعماله.
ولعل مما يفاجئ القارئ في فيلم اللمسة، تلك الرؤية الرمزية للتماهي بين عناصر الفيلم الرئيسية وبين الثالوث العائلي المقدس في الفكر المسيحي، مع خليط قصدي من الأوديبية والالحاد والوهة الامومة. فقد بدا ان العلاقة بين العشيق والزوجة ومنذ تأسيسها في زيارة الكنيسة انما هي مماهاة ذات طابع أوديبي معدل لصورة العذراء والطفل، التي كانت حجة وجود العشيق في السويد اصلا، وحجة الزوجة للقاء به على انفراد ثانية وهو اللقاء الذي اسس العلاقة الجنسية بينهما من مشهد تلامس الايدي والقبلة قرب الكنيسة. وهذا التماهي على وقاحته الواضحة يتساوق مع الموقف الملتبس لبرجمان من الدين، فهو يكرهه بوصفه الابوي انطلاقا من كرهه لأبيه القس، وهو يضفي عليه اعمق صفات الوجود : الحرية والحب، انطلاقا من ترميز الامومة في علاقة العشق بين بطليه، وليس في هذا التأويل معطى قرائي بل هو نص في اصل الرؤية اوضحه برجمان في حوار مهم جرى بين العشيقين بعد اكتشاف الزوج لعلاقتهما، وكانت اشاراته الخفية عميقة الدلالة اذا ما قرأناها وفقا لحركة الفيلم وسياقاته المتداخلة وتبعا لعلاقة التماهي(الزوج – الزوجة – العشيق [ تقابل ] يوسف النجار (او الرب) – العذراء – الطفل ) بحسب رؤية برجمان لهذا التماهي وعناصره التقابلية وهذا الحوار هو التالي : (الخطوط تشير إلى مواضع الترميز)
ديفيد – هل سمعت عن العذراء؟
كارين – كلا
ديفيد – حدث شيء غريب، شيء لا تفسير له قبل ادخالها في الحائط كانت تسكنها حشرة غير معروفة، كانت اليرقات نائمة في داخلها في الظلام منذ 500 سنة فاستيقظت وصارت تأكل الصورة من الداخل، حسنا على الطفل يوجد عش كامل منها. انهم غير متأكدين من امكانية انقاذها. في الحقيقة انها جميلة على اية حال بجمال الصورة نفسها أي ليس كذلك يا كارين؟ ما بك يا كارين؟
كارين – لقد فقدت السند كنت اشعر بالأمان في دنياي والان لا أمان لي في البيت ولا امان بجوارك.
ديفيد – هذا مؤسف جدا.
كارين – نعم لا وجود لي بدونك كل شيء يلف حولك انك في وجودي دوما كمولودي الصغير افهم ما تفكر به افهم ما تعاني منه افهم لماذا ترغمني واغضب جدا، ولكن ارتباطي بك يشتد.
ان هذه العناصر بمحيطها البصري الدال وتكرار الاشارة وتوظيفها انما يؤكد عنصر التماهي الذي رمز به برجمان للعلاقة بين العشيقين ترميزا دينيا اراد منه ان يشتغل على أكثر من محور فعلى مستوى الدين كان مجرد التماهي رمزا مهما، وعلى مستوى الالحاد كانت الاوديبية في العلاقة المتماهية رمزا مهما، وعلى مستوى الفكر الوجودي كانت محاولة انقاذ الصورة الموبوءة من داخلها رمزا مهما، وعلى مستوى اعمال برجمان كلها كان حضور هذه الرموز مهما في ذاته.
مهما كان موقفنا الديني او الاخلاقي مستنكرا ورافضا لهذه الرؤية. فالعلاقة التي بدأت بصورة العذراء والطفل بوصفها اكتشافا عصيا على الزمن، وعلامة على الخلود، وجدت مماهاتها الصريحة في التأسيس لعلاقة العشيقين التي بدت اول وهلة عصية على الزمن ودليلا على الخلود والحرية فضلا عن تناظرها الجمالي مع جمال الصورة المكتشفة، فكانت مفاجئة الخراب الذاتي للصورة وطفلها موقوتة مع بروز علامات الخراب الذاتي بين العشيقين وفيهما بعد ان جاء الزوج إلى الشقة التي يلتقيان فيها، وكان الحوار بيته وبين العشيق والذي سمعته الزوجة المختفية هو العنصر الاكثر خطورة في تبيان درجة الخراب المذهلة التي كانت عليها الصورة المماهية رمزيا.
ولذا لم يكن غريبا ان يكشف برجمان عن خراب الصورة الاصل في تلك اللحظة كما لم يكن مجانيا ان يؤشر على ان الطفل وحده يمتلك عشا كاملا من الحشرات، ولا امل في انقاذه او انقاذ الصورة كلها، فالجمال وحده لا يكفي لمقاومة الخراب الداخلي. وعلى الرغم من خفاء الطابع الاوديبي لهذا التماهي الا انه كان حاضرا جليا في وعي برجمان فقد سعى إلى توكيد الطابع الابوي لعلاقة الزوج مع العشيق منذ بداية لقاءهما عبر علاقة مشابهة هي علاقة (الطبيب – المريض) في جانبها الاحتياجي – الحاقد في آن معا.
وكذلك سعى برجمان وفقا لوعيه الرمزي إلى جعل العلاقة بالزوجة انتقاما خفيا من قبل العشيق من زوجها وطبقتها ومن محيطها كما صرح هو بذلك في مشهد مخاصمته لها بعد حفلة في بيتها وكان اصراره على اهمال البيت والزوج لكي تجيء اليه دليلا على هذا الحس الطاغي بالتغلب على الأب/ الطبيب/ الزوج.
ولعل اكثر المشاهد دلالة على هذه الرؤية المقارنة الجنسية التي عقدها برجمان بين مشهد العشيقين ذي الطابع الامومي بتركيزه على مداعبة الثديين ومشهد الاغتسال في الحمام وبين مشهد مضاجعة الزوج لزوجته ذي الطابع الاعتدائي الذي يشبه الخنق ويطفح بالسلطة في التعامل مع الجسد الاخر.
وفي العموم يمكن القول ان برجمان كان يقصد رموزه كلها عمدا، رغم طابعها الصادم ورغم ان مبنى الوعي الذي انتج هذه الرموز لم يكن متساوقا مع فكره الفلسفي وقناعاته بل هو اكثر اتساقا مع تعبيره النفسي لسطوة والده عليه فكأنه يلقي بثقل هذه السطوة على الرموز الدينية، سعيا إلى الانتقام من ابيه عبر الاساءة اليه ولكنه في التباس رؤيته واختلاط المداخل عليه يقع في خطأ فادح هو فصله علائق هذه الرموز وانتقائيته في التعامل معها وتحميلها رؤاه الفلسفية دون ان يكون لهذا التحميل مشروعية في الرموز ذاتها، ومن هنا كان موقفه من الأم – الزوجة والطفل – العشيق، متأرجحا بين الرفض والقبول والمناصرة والادانة وكانت حيرته الدينية هذه المرة رغم افتعالها وعدم مشروعيتها توازي حيرته الوجودية في محور الحرية والنظام ولعل هذه الحيرة هي ما يمنح اعماله هذا الطابع الخاص المميز لها.