لماذا نذهب إلى السينما؟
يتلقّى المشاهد العربي سنويًّا، فيضًا من الأفلام السينمائية، العربية والأجنبية، ليُقرِّر في كلّ مرة، رغم ضغوطات الحياة، الذهاب إلى السينما ومُشاهدة تلك العروض، في حين تُفضّل شريحة أخرى الانتظار ومُشاهدة تلك الأفلام من خلال الانترنت أو القنوات الفضائية.. ومن هنا نتساءل: ما الذي يُميِّز السينما عن التليفزيون أو الانترنت ويجعلها تأسرنا إلى هذا
يرى ريجيز دوبري (1940ـ ) أنّ التليفزيون، كالكمبيوتر، هو أداة للتشتيت؛ فبرغم إضاءته من الداخل، إلا أنّهما لا يعكسان شيئًا. ولكونهما نادرًا ما يُطفآن، فهما يبقيان ـ بلا مُبالاة في غُرف مُتنوِّعة من كلِّ منزل ـ جزءًا من البيئة.
ويجعل مُشاهدو التليفزيون والانترنت ـ الفيلم تحت رحمتهم؛ بمُشاهدته كيفما ومتى ما يشاؤون، بمفردهم غالبًا، أو بصُحبة أفراد العائلة والأصدقاء؛ حيث يُمكنهم إيقاف الفيلم، أو إعادة مشهد مُعيّن وفق اختيارهم
أبعد من ذلك، فلا يُشاهد الأفراد الأفلام على حواسيبهم الشخصية بطريقتهم الخاصة وحسب، ولكنّهم يُشاهدونها في نافذة واحدة من بين بضع نوافذ قد تكون عاملة في اللحظة نفسها (البريد الالكتروني؛ مدونة مفضلة؛ حالة الطقس… إلخ)، في حين تُشكِّل السينما نوعًا واحدًا فقط من محتوى البرامج المُتاحة لنظام “ويندوز”. ما يعني أنّه بانتشار الشاشات الصغيرة، بكلّ أشكالها، يتحكّم المُشاهد في التجربة، بشكل أو بآخر
وعلى النقيض ممّا سبق، يرى جان لوك غودار (1930 ـ ) أنّ السينما، بوصفها سينما، لا توجد إلا في فضاء عام؛ حيث يجلس جمهور مُتنوّع ساكنًا، بينما ترسل آلة العرض من فوق رؤوسهم صورًا تُصوِّر عالمًا مُكبّرًا. وأضاف ساخرًا: ينظر المرء لأعلى في السينما ولأسفل على التلفزيون.
إنّ الذهاب إلى السينما، بذاته، يُمثِّل نقلة دراماتيكية غير مُتاحة لمُشاهد التليفزيون في المنزل؛ إذ يتميّز العرض السينمائي بواقعية تتجسّد في: أحجام الممثلين التي تبدو كالحجم الطبيعي تقريبًا؛ التركيز والانتباه المُتواصل، وإن كان بوتيرة مختلفة بين بداية الفيلم ونهايته؛ إلى جانب انعدام الدعايات. كذلك فإنّ الشاشة المُسطّحة، ذات الحجم الضخم، كشاشات السينما، تفضي إلى بعدٍ ثالث كأنّه عُمقٌ أو زمن.
إنّنا ندخل الأفلام من خلال مجموعة من العتبات بدءًا من ديكور دور العرض والبهو الذي يحوي مُلصقاتها، مرورًا بالباب الذي يُفضي إلى قاعة العرض، لنجد مقاعدنا في ضوءٍ خافت بينما يبدأ عرض دعايات الأفلام التي تجتذب انتباهنا وتُركِّز رؤيتنا على الشاشة تدريجيًّا، وتُظلم القاعة كليًّا. وحتى في هذه المرحلة، يجب علينا المرور عبر شعار الاستوديو، وشارات البداية، ومجموعة من المُقدِّمات التمهيديّة النصِّية التي تُسمِّيها نظريّة السرد بدقّة “أدوات التأطير”. هذه الأدوات هي عتبات السينما التي نعبر من خلالها في طريقنا إلى ما تحمله الشاشة وما لا تحمله.
وبدخولنا دور العرض، كغيرنا، فإنّنا نعبر لعالم آخر من خلال طقس يُصبح فيه التماهي شديدًا. نرتاح من أنفسنا لِبُرهة، ونتواصل مع رفاقنا، ومع الآخرين الغامضين المُحتجبين وراء نطاق إدراكنا، ونعود في النهاية لحيواتنا حينما ينتهي العرض، مُتجدِّدين حسب ما هو مُفترض، وهو ما يعني مرورنا بحالة من التطهُّر ـ أو قريبة جدًا منها. وهو ما جعل السرياليّون ينظرون إلى السينما على أنّها مهرب الحداثة من الروتين الفاتر للحياة في العصر الصناعي للقرن العشرين.
يكمن جلال السينما في التوقُّعات التي تُيرها وفي الجهد الإدراكي الذي تتطلَّبه. وقد حذّر جون لوي فورنييه (1938ـ )، من أنّ السينما هي نموذج حديث لـ “كهف أفلاطون” حديث يُحدِّق فيه الناس في الظلال، مُقيّدين بسلاسل الأيديولوجيا. لكن لأنّ المُشاهدين يختارون دخول هذا الكهف ـ بل يدفعون المال ليدخلوه ـ فبإمكانهم تحويل افتتانهم بالشاشة إلى نقاش بشأن ما يرونه مُنعكسًا هناك: رؤية للعالم، وجهة نظر عن كيفية العيش فيه أو كيفية تغييره.
إنّ الذهاب إلى السينما، يعني، الذهاب مع “الفيلم”، ومُلاقاة رؤيته للعالم برؤية من عندنا. وشاشة السينما، هي مكان اللقاء الذي تُعرض عليه شظايا من عوالم غير محدودة؛ إذ تمتزج مجموعة من الأصوات والصور (رغم أنّه تمّ التقاطها وتنظيمها من أجل هذا) وتنصهر مع الأفكار والمشاعر المجلوبة من المُشاهدين القادمين من الشارع. وبذلك يعمل الفيلم، تمامًا، بالطريقة التي يصف بها بول ريكور (1913ـ 2005م) الاستعارة؛ فحينما يُفاجئ خطاب موضوع في نطاق لغةٍ ما بتعبير جريء دخيل، فإنّ مُفردات نطاق لغوي آخر ومنظوره يجرفان الأول، مُظهرين جوانب جديدة للموضوع.
وبعد انتهاء الفيلم، فإنّنا، سواء كُنّا نُقّادًا مُحترفين أم مُشاهدين عاديّين، سنُدخل ما شاهدناه وفهمناه ضمن نطاق ما نُدركه ونعقله، ونُوطّن الفيلم داخلنا بأسهل ما يُمكننا. وبذلك، فإنّ مُشاهدة فيلم ما تتبع سيناريو مُحبِطًا: يبدأ بالأمل، والاستثارة، والوعد بشيء جديد بالفعل، مع بدايات الفيلم، وتنتهي بنا على قارعة الطريق وليس معنا سوى قصة أخرى، يُمكننا الحديث عنها، وتصنيفها، أو نسيانها ببساطة.
إنّنا نلعب دور صُنَّاع الفيلم بِمُشاهدتنا للفيلم نفسه؛ فنحن لا نستقبل كلّ ما يُعرض على الشاشة بقدرٍ مُتساوٍ؛ ولكوننا كائنات أخلاقية، نقوم بتصفية الفيلم عند مُشاهدته، وبذلك، فإنّ عرض الفيلم، يتجاوز ما تمّ تصويره وتنظيمه، والرؤية “عبر” ما هو موجود، ليكون العرض بذلك مُركِّزًا الرؤية لتجاوز ما هو مرئي إلى القدرة على الرؤية والوصول إلى الخيالي. وبالتالي، فإنّ عرض الأفلام على المُشاهدين له تبعات سياسية اجتماعية لا يُمكن التنبؤ بها.
* باحث في الفلسفة والأخلاق التطبيقية ـ مصر