لبلبة: تلك الشيطانة التي احببناها
– من هي نيوشكا مانول كوباليان ؟
– انها فنانة”مصرية”شهيرة! الا تعرفها؟
– لا احد يعرف هذا الأسم!
– دعني اعطيك تلميحا بسيطا”لبلبة”
– يا إلهي..لا اصدق!!
–
لا احد من الأجيال الجديدة على وجه التحديد يصدق ان تلك الأيقونة التي اصبحت جزء من التراث السينمائي والأجتماعي المصري تحمل هذا الأسم الغير مصري, لقد تحولت لبلبة بحكم موهبتها الواسعة وتعدد امكانياتها الفنية من تمثيل وغناء ورقص وتقليد فنانين, وعبر محطات سينمائية مختلفة امتدت لقرابة الستين عاما من مجرد اسم إلى صفة فنية بل وانسانية, فحين نريد ان نطلق على هذه الفتاة او تلك انها متعددة المواهب وذات شخصية فنية تضج بالمرح والانطلاق نقول انها”لبلبة”.
في عام 1950 استطاع انور وجدي ان يخلق من الطفلة المعجزة انذاك فيروز او”بيروز ارتين كالفيان”(شيرلي تمبل)الشرق وذلك عندما قدمها لأول مرة في فيلم”ياسمين” وكانت نيوشكا أو نونيا -كما يطلقون عليها في العائلة-انذاك في الخامسة من عمرها, ترى ابنة خالتها التي تكبرها بعامين تصبح نجمة سينمائية, وتتحول في عام واحد فقط إلى”فيروز هانم”, في حين كان المعلم”صديق”متعهد الحفلات لا يزال يصطحبها إلى المسرح القومي لتقديم استكشات خفيفة لتقليد الفنانين, وهي الموهبة التي سوف تلازمها طويلا وتصبح بوابة دخولها إلى عالم الأفلام, كانت نونيا رغم سنوات عمرها الصغير تتمكن من اضحاك الجمهور بما لها من حضور مميز وروح قوية.
بعد عام واحد وبينما تجتاز سنوات عمرها اصابع اليد الواحدة يكتشف الكاتب”ابو السعود الابياري”الجوهرة التي تلمع في داخلها, لم تكن مجرد مقلدة جيدة للفنانين وهي موهبة تحتاج إلى ذاكرة جسمانية وتطويع للجسد ونبرة الصوت والملامح ولكنها ايضا تملك صوت جيد وقدرة كبيرة على التقمص, انها لهلوبة فنية صغيرة او”لبلبة”وهي الصفة المؤنثة المشتقة من الكلمة العامية”لبلب” وتعني الانطلاق والفصاحة وسرعة الحركة والكلام والبديهة.
يطلق عليها الأبياري الأسم الفني ويقدمها لاول مرة في”حبيبتي سوسو”عام 51, ولكن انطلاقتها الحقيقية تأتي على يد نفس الفنان الذي اطلق من قبل ابنة خالتها”انور وجدي”وذلك عام 54 بفيلم “اربع بنات وضابط”مع لهلوبة أخرى من لهاليب السينما المصرية”نعيمة عاكف”.
كان وجدي قد حقق نجاحا كبيرا مع فيروز قبل عام واحد بفيلمه المميز”دهب”53 ولكن كان الوسط الفني انذاك منفتح وعلى قدر من التحضر والليبرالية للدرجة التي من الممكن أن يستوعب أكثر من طفلة معجزة ولو من نفس العائلة ولو من ديانة واصول ثقافية وعرقية اخرى غير مصرية او عربية.
هذه العائلة الأرمينية الأصل التي استوطنت مصر وانجبت ثلاثة من اشهر اطفال السينما المصرية فيروز ولبلبة ثم لاحقا نيللي-شقيقة فيروز-وجدت في مصر الخمسينيات-وتحديدا قبل حركة الجيش في يوليو52- تربة خصبة للترعرع والنمو دون عوائق طائفية او عرقية او ثقافية من اي نوع, كان المجتمع المصري الكوزموبوليتاني قادرا على توفير سقف مرتفع من الحرية العقائدية والعرقية والثقافية بل وهضم هذه الاعراق والثقافات واعادة تشكيلها بنكهة مصرية خالصة ومميزة.
هؤلاء الصغيرات الثلاث الائي اكملت اثنان منهن طريق الفن واستطاعتا ان تحققا هذه الايقونية المصرية هم نتاج شكل مجتمعي منفتح وليبرالي وجمهور ذواقة بفطرته لم تتشكل لديه عصبية طائفية او ثقافية رغم انحسار مستوى التعليم وقتها في طبقات معينة.
محطات
نستطيع أن نلخص مشوار لبلبة في اربعة محطات رئيسية خلال ستين عاما من العمل بالسينما, المحطة الأولى تبدأ مع”حبيبتي سوسو”51 عندما كانت في السادسة من العمر وعلامة تلك المرحلة المميزة كما ذكرنا فيلم”اربع بنات وضابط “لانور وجدي الذي قدمت فيه دور صغرى الشقيقات الأربعة التي يقع على عاتقها كل الشيطنة والشقاوة, وتتميز تلك المرحلة بتركيز المخرجين على ان تقدم الطفلة الصغيرة او الفتاة فيما بعد اسكتش تقليد الفنانين داخل الفيلم مهما كانت القصة, المهم ان يقودنا السيناريو واغلبه لافلام كوميدية خفيفة او ميلودارمية إلى مساحة تقدم فيها لبلبة فقرتها المعروفة في تقليد الفنانين, هذه المحطة استمرت حتى منتصف الستينيات تقريبا وضمت افلام الحبيب المجهول 55 النغم الحزين 60 قاضي الغرام 62 وكانت لبلبة في تلك الفترة تظهر في بعض الافلام دون ان يكون لها دور تمثيلي مثل فيلم بنات بحري 62 حيث ظهرت في احد المشاهد لتقدم اسكتش تقليد كامل عبارة عن فقرة في ملهى ليلى يذهب إليه ابطال الفيلم ماهر العطار وعبد السلام النابلسي وفيه قدمت تقليد للمطربين مثل عبد المطلب وعبد الحليم حافظ وهدى سلطان وصباح.
المحطة الثانية هي محطة الشابة الجميلة التي تجاوزت العشرين ولم يعد تقليد الفنانين هو ميزتها الوحيدة بل لم تعد تقدم افلاما تحتوي على هذه الأسكتشات الخفيفة الضاحكة هذه المحطة تبدأ في السبعينيات مع افلام”رحلة شهر العسل”70 و”برج العذراء” 72 امام صلاح ذو الفقار في دور زوجة تعاني من هوس زوجها بقراءة الطالع والأبراج, واستمرت هذه المرحلة تقريبا طوال سنوات السبعينيات.
الملامح الأساسية للبلبة في تلك الفترة تبلورت في ادوار الفتاة المرحة خفيفة الظل الساخرة الجريئة في ملابسها صاحبة الموهبة الغنائية والاستعراضية ولم تخرج عن حدود الشخصية الطيبة سنيدة البطل او صديقة البطلة او احد ثلاثة بطلات داخل العمل الواحد, حيث تميزت السبعينيات بأفلام البطولة الجماعية والتي كانت تتكرر فيها وجوه واسماء بعينها مثل افلام”24 ساعة حب”و”في الصيف لازم نحب”و”البنات والحب”وكلها من إنتاج 74.
في”24 ساعة حب”قدمت شخصية احد الصديقات الثلاث الائي ينتظرن عودة عشاقهن الذين يعملون كبحارة على سفينة لا تمنحهم سوى 24 ساعة فقط كأجازة كل ستة اشهر, وفي”الصيف لازم نحب”هي احد ثلاثة شقيقات يعانين من تزمت ابوهن الرجعي الطريف عبد المنعم مدبولي او الاستاذ عبد الحفيظ المتحفظ.
وتستمر مرحلة البطولة الجماعية بالنسبة للبلبة في افلام”مولد يا دنيا”مع حسين كمال 75 كأحد افراد عصابة إجرامية طريفة يقوم أحد مدربي الرقص”محمود ياسين”بانتشالهم وتكوين فرقة استعراضية من خلالهم او في الكوميديا الاجتماعية”البعض يذهب للمآذون مرتين”78 في دور زوجة ولود هي واحدة من ثلاثة شقيقات يفكر ازواجهن في تطليقهن بسبب مشاكل الزواج والاطفال.
توتو
التقت لبلبة بعادل امام في اكثر من فيلم سواء من خلال شكل الثنائي داخل افلام البطولة الجماعية او عبر بطولات فردية مطلقة كان ابرزها”خلي بالك من جيرانك”عام 79 ولكن في عام 82 كان لقائهم الأهم في”عصابة حماده وتوتو”إخراج محمد عبد العزيز والمأخوذ عن الفيلم الأمريكي”مرح مع ديك وجين”.
كان من الممكن ان يكون هذا الفيلم فاتحة انطلاق جديدة بالنسبة للبلبة خاصة مع النجاح الجماهيري الكبير الذي حققه ومع وصول لبلبة إلى مرحلة النضج الانثوي التي استمرت تغلفه بالخفة والرشاقة والغناء الأستعراضي الطريف حيث قدمت اقصى طاقتها في شخصية توتو، ولكن كانت السينما المصرية في ذلك الوقت تمر بمنحنى خطير افرزته فترة الانفتاح السبعينية وتخلي الدولة تدريجيا عن دورها في إنتاج الأفلام وسيطرة ما عرف بسينما المقاولات والتي كانت احد افرازات عصر الفيديو واثرياء الخليج التي كانت تصدر لهم افلام رديئة الصنع معبئة في شرائط الفيديو بتكلفة قليلة وافكار مستهلكة ومستوى اخراجي وانتاجي متدني ووضيع.
انجرفت لبلبة في بعض تجارب هذه المرحلة في افلام لم تكن تليق لا بخبرتها ولا بموهبتها خاصة انها اثبتت ان تلك الخبرة والموهبة يمكن أن تقدم شئ مختلف مثل”احترس من الخط” ايضا مع عادل امام وسمير سيف 84 وهو احدي اهم الأفلام الكوميدية في سنوات الثمانينيات والذي لم يقل نجاحا وجماهيرية عن حماده وتوتو.
استمرت تلك المحطة حتى عام 1990 عندما قدمت اخر افلامها كفتاة شقية تغني وترقص وتمرح وتتشيطن على البطل امامها في فيلم “الشيطانة التي احبتني” مع محمد صبحي- وسمير سيف ايضا-في دور فتاة من تشكيل عصابي تقوم باغواء ضابط شرطة لينضم اليهم فيما يحاول هو أن يثبت انه لا يوجد مجرم بالسليقة بل كل مجرم هو ضحية ظروف مجتمعية مشوهة.
مع بداية التسعينيات تودع لبلبة صورة الفتاة المرحة, تلك الشيطانة الصغيرة التي استمرت تضحك وتغني وتقلد الفنانين طوال اربعين عاما كاملة لتبدأ مرحلة اخرى مختلفة تماما, حين التقطها رادار المخرج الراحل عاطف الطيب وقرر ان يسند لها دورا في فيلمه”ضد الحكومة” امام احمد زكي عام 92 ثم البطولة المطلقة امام نور الشريف في أخر افلام الطيب”ليلة ساخنة”94 في دور حورية العاهرة الشريفة التي تساعد سائق التاكسي على تجاوز محنته الليلية التي هي محنة الطبقة الدنيا التي كانت على وشك الأنسحاق تحت وطأة الظروف الأقتصادية والاجتماعية لمجتمع بلا قلب.
بهية
لا شك ان شخصية حورية في”ليلة ساخنة” كان مقدمة منطقية لاختيار لبلبة في احد اهم شخصيات عالم يوسف شاهين على الأطلاق وهي شخصية”بهية” التي ظهرت لاول مرة في فيلم العصفور وقدمتها محسنة توفيق ثم تغيرت البهيات وبقيت الشخصية تعبر عن الأم/ مصر في سينما شاهين.
كان هذا عام99 عندما قدم شاهين”الاخر”ورغم ان البطولة كانت لنبيلة عبيد في دور الأم المتسلطة الشهوانية”امريكا”وحنان ترك النجمة الصاعدة وقتها، إلا أن مشهد بكاء لبلبة عندما ابلغتها ابنتها”حنان”بأنها تحب وتزوجت في سيناء من حبيبها كان مشهدا رائعا حين طفرت الدموع من عيونها فجأة وهي تبتسم وتهتف “اشوفه” قاصدة زوج ابنتها.
سوف تعود لبلبة لتقديم بعض الأدوار الكوميدية في شكل اقرب للنوستالجيا في افلام “عريس من جهة امنية” مع توءمها المفضل عادل امام و”بوحة” مع محمد سعد و”وش اجرام” مع محمد هنيدي لكن تلك الأفلام لن تترك اثرا وسرعان ما سيفسرها البعض على انها مجرد محاولة لاستعادة امجاد الماضي الكوميدي الذي لم يعد قريبا.
لكن بلا شك ان لبلبة استطاعت ان تصنع لنفسها مساحة خاصة جدا بعيدا عن تلك التجارب العابرة وذلك على مستوى النضج الفني الحقيقي الذي يثبت ان الموهبة الاصيلة تتألق بتقدم العمر وتراكم الخبرات سجلت لبلبة اسمها كممثلة جادة ذات قدرات انفعالية وتمثيلية عالية في افلام “جنة الشياطين”مع اسامه فوزي 2000 في دور عاهرة شوارع تقع في حب رجل ميت, وفي”معالي الوزير”مع احمد زكي وسمير سيف في دور زوجة الوزير التي تعاني من فساده وكوابيسه الانهائية.
واستدعاها شاهين مرة أخرى لتقوم بدور زوجته في الجزء الرابع من سيرته الذاتية “اسكندرية نيويورك”وان لم يكن الدور بنفس ألق بهية في الآخر لكنها استطاعت تقديم دور زوجة المخرج العبقري التي تكتشف ان لزوجها ابنا من امراة اخرى بينما هي لا تنجب.
هكذا حملت سنوات الألفية الجديدة شكلا مختلفا للشيطانة الصغيرة ذات الألف وجه، كان اخرها دور الام التي تنتمي لبقايا الطبقة المتوسطة التي تحاول ان تمسك زمام اسرة مكونة من خمسة ابناءفي”عائلة ميكي” اخراج اكرم فريد وبهذا حققت تنوعا لم تحققه ممثلة من جيلها حيث وقفت امام عدسة خمسة اجيال من مخرجي السينما المصرية.
وبعيدا عن كونها تظهر بالحجاب لأول مرة لكن المشهد الذي تجلس فيه لتستعيد التفاصيل الحية من طفولة كل ابن من ابنائها وهي تبكي في حنان وامومة يكفي كي ندرك ان لديها المزيد لتقدمه طالما ظلت على الساحة او كما قالت في احد حواراتها “نفسي لما اكبر وابعد عن الوسط يقولوا الست دي كانت بتعمل شغل حلو”