لا تنظروا إلى السماء.. دعوة للنظر إلى السماء!

د. ماهر عبد المحسن

عندما أعلنت منصة نتفليكس أنها ستعرض فيلمها “لا تنظروا إلى السماء” Don’t Look Up في ٢٤ ديسمبر ٢٠٢١م، لم أتحمس لمشاهدة الفيلم في ذلك التاريخ، لأني لم أستسغ أن أرى ليوناردو دي كابريو في دور كوميدي، لكني بعد مرور ثمانية  شهور قررت مشاهدة الفيلم.

وأعترف أني كنت مخطئا في حساباتي، لأن الفيلم لا يقدم كوميديا هزلية بهدف التسلية والإضحاك، وإنما كوميديا سوداء تعتمد في بنائها على كارثة طبيعية تهدد الوجود البشري برمته، وتضع المشاهد في مأزق وجودي محير، بحيث يجد نفسه مدفوعا إلى أن يختار بين أن يأخذ قضية الفيلم مأخذ الجد ويدفع فاتورة القلق، أو يأخذه مأخذ الهزل ويعتبر أن المسألة كلها لا تعدو أن تكون عملا فنيا مسليا، ويكسب راحة باله بعد أن يسلم وعيه غير المبالي للخدر.

وعندما تمر ثمانية شهور على فيلم من إخراج آدم ماكاي وبطولة ليوناردو دي كابريو وجينيفر لورنس وكيت بلانشيت وميريل ستريب ومجموعة كبيرة من نجوم هوليوود، فمن الطبيعي، خلال هذه الفترة، أن تتراكم عشرات المقالات النقدية التي تدور حول هذا الفيلم، ومن الطبيعي أيضا أن يعود الناقد الذي تخلف عن الركب في مشاهدة الفيلم في تاريخ عرضه إلى الكتابات السابقة عليه حتى لا يقع في شرك التكرار الذي يفقد رؤيته، التي ظنها جديدة، جدواها.

والحقيقة أن مراجعات الفيلم، الكثيرة، كشفت عن أشياء كثيرة خفيه بالنسبة للمشاهد العادي مثل اهتمام ماكاي بنقد السياسة الامريكية والرأسمالية المتوحشة، وكذا اهتمام ديكابريو بقضية البيئة والتغيرات المناخية، وهي إشارات تعكس مدى الصدق الفني الذي يحمله الفيلم، لأنه جاء تعبيرا عن قناعات حقيقية يؤمن بها صانعوه.

غير أن الملاحظ أن معظم المراجعات وقفت عند النهاية الأولى للفيلم، ولم تتطرق إلى النهاية الأخرى ذات الدلالة التي عمد ماكاي إلى أن تكون بعد تتر النهاية الذي لا يصبر عليه معظم المشاهدين، علما بأن نهايتي الفيلم مفتوحتان، ولذلك دلالة أيضا سنتطرق إليها في السطور التالية.

تدور القصة حول اكتشاف باحثة الدكتوراه كيت ديبيسكي (جينيفر لورانس) لمذنب كبير يقترب من الأرض وأنه سيصطدم بها في خلال ستة شهور وسيؤدي هذا الاصطدام إلى تدمير الأرض والقضاء على الحياة تماما، ومن خلال سيناريو محكم، محمل بالعديد من الإسقاطات ذات الأبعاد السياسية والاجتماعية، تحاول ديبيسكي والدكتور راندال ميندى (ليو ناردو ديكابريو) الوصول إلى مقر الرئاسة الأمريكية لإبلاغ المسؤولين بالبيت الأبيض بخطورة الموقف من أجل اتخاذ التدابير اللازمة للتصدي للمذنب قبل وقوع الكارثة.

وتأتي دراما الفيلم من المواقف اللامبالية للمجتمع، حكاما ومحكومين، تجاه الكارثة الوشيكة الوقوع، فرجال السياسية والمال والإعلام يحاولون تجاهل الكارثة مادامت لا تؤثر على مصالحهم الخاصة، أو على أكثر تقدير محاولة الاستفادة من الموقف في دعم هذه المصالح، وبهذا المعنى تصير انتخابات الرئاسة وأرباح شركات المحمول وأخبار الفضائح المذاعة على الفضائيات أكثر أهمية من اكتشاف علمي يمكن أن يغير وجه الحياة على سطح الأرض أو حتى يقضي عليها تماما!

وكلمة السر في هذا الفيلم، من وجهة نظرنا، هو العنوان “لا تنظروا إلى السماء”، وهو أيضا الشعار الذي رفعته طائفة من المجتمع شككت في حقيقة وقوع الكارثة، وهي طائفة كانت حريصة على أن تمارس حياتها على النحو نفسه، وكأن شيئا لم يكن، إنها طائفة كبيرة ربما تمثل معظم سكان العالم الذين يسمعون يوميا عن أخبار الأوبئة والتغيرات المناخية والكوارث الطبيعية، بل والتحذير من اقتراب نهاية العالم، لكنهم يواصلون حياتهم بالوتيرة ذاتها. فالرغبة في الاستقرار الوهمي عند هؤلاء يفضل الشعور بالقلق أو الخوف الذي من شأنه أن يزعزع هذا الاستقرار ويخل بإيقاع حياتهم المتهافتة.

بهذا المعنى، لا يُفهم شعار “لا تنظروا إلى السماء” على أنه، بمفهوم المخالفة، دعوة إلى النظر إلى الأرض ولكن بالأحرى إلى دفن الرؤوس في الرمال، فربما كان النظر إلي الأرض خطوة نحو الاهتمام بالمصير الإنساني المعرض للضياع، في حين يعكس دفن الرؤوس فلسفة تتغاضي عن الكارثة وكأنها، بالمعنى الهيدجري، واقعة تحدث للآخرين!

 إن الذي ينبغي أن يستوقفنا أكثر هو الموقف العبثي للرجل العادي من الكارثة لا الموقف الأناني لرجال السياسة أو المال أو الإعلام، فسوداوية الكوميديا في الفيلم لا تأتي من قتامة المصير، وانما من عبثية رد الفعل الذي يجعل البعض يفكر في ممارسة الجنس كفعل أخير قبل نهاية العالم الوشيكة!

والحقيقة أن الدلالة الرمزية للسماء هي التي يمكن أن تفتح باب الأمل، وتقدم الحل النهائي لهؤلاء الذين يحتفظون بشيء من الوعي وقدر من الحكمة ومحبة خالصة للوجود. وهنا يجدر بنا أن نستحضر الآية الكريمة “وفي السماء رزقكم وما توعدون”، فالسماء التي تحمل نذر الخطر هي نفسها التي ترمز إلى الحقيقة الواضحة رغم إنكار الرافضين النظر إلى أعلى، وهي التي تحمل الخلاص لهؤلاء الذين يجدون العون في الإيمان، لا في العلم أو المال.

ليس أدل على ذلك من الكادرات البديعة التي صورها ماكاي تجسيدا للحظة إنسانية كونية فارقة فقد فيها الإنسان كل سبيل نحو النجاة من المصير المظلم عدا اللجوء إلى الله، من خلال عدة لقطات متتابعة لمشاهد تضع قوة الحياة التي وضعها الخالق سبحانه في مخلوقاته أمام احتمالات الفناء القادمة مع اقتراب النيزك العملاق من الاصطدام بالأرض. تبدى ذلك في ضحكة الطفل وطيران العصفور وسباحة الأسماك في قيعان البحار.

للفيلم نهايتان مفتوحتان كما أشرنا، الأولى تصور سكان الأرض الذين قرروا النظر إلى السماء والتضرع إلى الله، وفيها يصور ماكاي لحظات الابتهال والصلوات بشكل كونى بديع يضم الأديان جميعها في تناغم مع صلوات وابتهالات مخلوقات الطبيعة كلها. وفي مشهد معبّر يجلس ديكابريو في منزله بين أسرته وأصدقائه على مائدة العشاء قبل دقائق من قدوم النيزك، ويقررون الصلاة بعد أن تخلى عنهم المسؤولون في الدولة وهربوا مع رجال الأعمال في مركبة فضائية أعدت خصيصا لنقلهم إلى كوكب آخر أكثر أمانا. وفيه نكتشف أن ميندي رجل العلم لا يعرف الصلاة، وتقول الزوجة موضحة أن أسرة ميندى غير متدينة، وهنا يقول الشاب كوينتين (تيموثي شالاميت) أنه تعلم من أسرته الصلاة، ويبدأ في ترديد الدعوات وهم يرددون خلفه، وتأتي أهمية المشهد من أن دعوات الشاب وابتهالات الأسرة كانت منصبة على طلب المعونة من الله ومنحهم القدرة على التسليم بقضائه، مهما كان، في إشارة إلى أن العلم وحدة لا يكفي لسعادة البشر ونجدتهم دون الإيمان.

وفي ختام المشهد يدور حوار حميمي بين الأصدقاء حول مدى جودة الطعام داخل البيت وخارج البيت، وطقوس عمل القهوة وصنع الشاي، وعندما يختلفون، يقف ميندى وحيدا في كادر أخير وهو يردد “كنا نملك كل شيء”، في إشارة إلى البساطة التي غيبها الطمع والأنانية.

النهاية الأخرى تجد الحل أيضا في السماء، لكن ليس بالمعنى الديني الإيماني، وانما بالمعنى العلمي غير الإنساني، وفيها نشهد مركبة فضائية ضخمة تنطلق من الأرض مخترقة السماء، ثم تستقر، بعد مرور سنوات طويلة من واقعة النيزك، في كوكب بعيد يصلح للحياة، وفي مشهد معبًر يهبط رجال السياسة والمال عرايا تماما إلا من مشاعر باردة وحركة بطيئة وسط حديقة غناء، زاهية الألوان تسكنها حيوانات ملونة كالطواويس، وبينما يقف بيتر إيشيرويل (مارك رايلانس) صاحب شركات باش للذكاء الاصطناعي، معبرا عن نجاح رحلتهم الفضائية التي ضمت صفوة المجتمع ونقلتهم، عبر الزمن، إلي بيئة أخرى أشبه بالجنة، تحاول رئيسة الولايات المتحدة أورلين ( ميرل ستريب) أن تقترب من تلك الحيوانات، التي تبدو أليفة ومسالمة، إلا أنها تتعرض للهجوم والافتراس من قبلها، وعندما يبدى السكان الجدد دهشتهم، يحذرهم  إيشيرويل بكل برود، وبعبارة يختتم بها ماكاي أحداث الفيلم، قائلا: “مهما فعلتم.. لا تلاطفوا هذه الحيوانات”. إنه شعار تلك الطبقة الأنانية في عالمها الجديد، أي العداء مع الطبيعة، كما سبق وأن كان العداء مع البشر في عالمها القديم.

وفي الأخير، فإن للسماء رمزيتين في هذا الفيلم، واحدة للعلم والأخرى للدين وهما بعيدان عن بعضهما بعد الكواكب عن بعضها البعض، في زمن اقترب فيه العالم من نهايته، ولا سبيل للجمع بينهما سوى أن يكف العلم عن أن يكون خادما للسياسية أو المال، وأن يكف البشر عن عبادة آلهة العصر الجديدة، التي صنعها الإعلام وصدقها الناس!

Visited 3 times, 1 visit(s) today