كيف وضع ستانلي كوبريك بصمته على «سبارتاكوس»
رفع النجاح التجاري الكبير الذي حققه فيلم «سبارتاكوس» Spartacus في شباك التذاكر المخرج ستانلي كوبريك الى أعلى، كما وضعه في مصاف الأثرياء. ها هو مخرج في الحادية والثلاثين من عمره يثبت أنه يستطيع التعامل مع أكثر المشاريع السينمائية تكلفة وصعوبة، وأن يحقق «خبطة» سينمائية تجارية من الطراز الأول.
وقد أتاح له هذا النجاح الفرصة لكي يصنع أفلاما أخرى تالية ارتفعت في حساسيتها الخاصة تدريجيا دون أن تفقد القدرة على تحقيق النجاح التجاري. غير أن هناك شيئا ما في «سبارتاكوس» لم يكن لكوبريك يدٌ فيه، وكان بالتالي خارج نطاق تأثيره. والسؤال هو: ماذا يعني كوبريك بالنسبة إلى «سبارتاكوس» وماذا يعني «سبارتاكوس» بالنسبة إلى كوبريك؟
المؤكد أن ستانلي كوبريك عندما بدأ في إخراج فيلم «سبارتاكوس» كانت هناك خلافات تدور حول المخرج الذي يصلح لإخراج ذلك الفيلم الملحمي الكبير الذي رصدت له ميزانية من 12 الى 15 مليون دولار. وكانت الشركة المنتجة للفيلم قد طردت المخرج المخضرم مايكل مان بعد أن أكمل إخراج المشهد الأول في الفيلم الذي يصور سبارتاكوس، العبد الذي سيتزعم التمرد فيما بعد، وهو يعمل في خدمة الرومان في الصحراء الليبية. ولاتزال أسباب طرد مايكل مان غامضة حتى اليوم، ولكن من خلال المشهد الذي أخرجه بلقطاته الحية والذي ظل في مكانه في بداية الفيلم، يمكننا القول إن تمسكه الشديد برؤيته الشخصية للفيلم أزعج زملاءه ورؤساءه.
وقد امتد ذلك الإحساس إلى النجم كيرك دوجلاس الذي اشترك مع شريكه إدوارد لويس في إنتاج الفيلم من خلال شركة «برينا» التي أسساها سويا، فقد كانت لدى دوجلاس رؤية محددة عن الفيلم والشخصية الرئيسية فيه، وهي رؤية لم يتردد في الإفصاح عنها أو حتى فرضها.
وبسبب الميزانية الكبيرة للفيلم، فرض مديرو الإنتاج في شركة يونيفرسال إشرافا دقيقا علي تنفيذ الفيلم، وكانوا يواجهون مشاكل أخرى في ذلك الوقت، فقد كانت ملكية الشركة في مهب الريح، الى أن استقر الوضع فيما بعد خلال التصوير، بعد أن قامت وكالة «إم سي ايه» بشراء شركة يونيفرسال، وهنا أصبح ليو واسرمان الذي كان وكيلا لبطل الفيلم ومنتجه كيرك دوجلاس، رئيسا له.
وإذا كان هذا كله يأخذنا بعيدا عن الأسماء الأهم التي ساهمت في صنع «سبارتاكوس» فلعل هذا يوضح الى أي مدى وصل صراع القوى في ذلك الوقت.
أما المضمون السياسي للفيلم فهو يرتبط بإثنين من أعضاء القائمة السوداء في هوليوود هما هوارد فاست مؤلف الرواية وناشرها، ودالتون ترومبو كاتب سيناريو الفيلم.
وكان ترومبو وهو يقضي عقوبة السجن لمدة عشرة أشهر بسبب رفضه التعامل مع لجنة النشاط المعادي قد بدأ حملته ضد القائمة السوداء، فقام بتهريب سيناريو باعه سرا باسم مستعار. أما بالنسبة لسيناريو «سبارتاكوس» فقد قرر ترومبو استخدام اسمه الحقيقي للمرة الأولى منذ عشر سنوات لتحقيق هدفين: الأول تحدي القائمة السوداء (وقد شجعه على ذلك ما أعلنه أوتو بريمنجر من أنه سيضع اسمه الحقيقي على فيلم «الخروج» The Exodus، وثانيا، إعادة الخط اليساري الليبرالي الى صناعة السينما الشعبية في هوليوود.
ورغم أن سيناريو ترومبو كان يعتمد على وصف المواقع التاريخية القديمة، ويحتوي على بعض الصياغات اللغوية المعقدة، فقد كان في معظمه، أو على الأقل في الأجزاء التي تصور سبارتاكوس نفسه، يستند على دراما الأزمة الاقتصادية في تمسكه بتقاليد الحوار بين أفراد الطبقة العاملة في مسارح نيويورك وكذلك إتباعه مواصفات هوليوود للبطولة. فسبارتاكوس معادل لشخصية جون جارفيلد، أو صورة للرجل الذي يناضل ضد المؤسسة والأشرار ورجال السياسة الفاسدين، وهم في هذه الحالة نبلاء روما.
وكما في فيلم «ثلاثون ثانية فوق طوكيو» (1944) أحد أشهر السيناريوهات التي كتبها ترومبو قبل «القائمة السوداء»، فإن سبارتاكوس هو الرجل العادي الذي يلبي متطلبات الضرورة التاريخية بشجاعة بطولية ولكن بتواضع. وهو لا يحقق هدفه الأخلاقي بدافع مميزاته الشخصية ولكن بفعل قدرته على التعبير عن الآخرين.
إنها شخصية نمطية غريبة تماما على سينما كوبريك. وحتى فيلم كوبريك السابق «طرق المجد» الذي قام ببطولته كيرك دوجلاس أيضا، كان يسخر بشكل لاذع من إنعدام جدوى مقاومة قوة عظمى مقابل ذلك النوع من التفاؤل الذي يتمثل في البطل ـ الرمز في فيلم «سبارتاكوس».
إن اللقطات العامة الأولى في الفيلم التي نرى فيها سبارتاكوس من بعيد في الصحراء وهو يعمل تحت سياط الرومان، هي لقطات نموذجية تدلل على حميمية أنتوني مان في التعامل مع فكرة النضال الشرس للإنسان ضد قسوة الطبيعة. وحتى بعد أن يقوم تاجر العبيد «تاتياتوس» (بيتر أوستينوف) بنقل سبارتاكوس إلى غرفة تحتية داخل معسكر المصارعين، يصعب العثور على بصمة خاصة مميزة لكوبريك.
وتعتبر مشاهد العبيد أثناء تدريباتهم القاسية على المصارعة من أفضل مشاهد الفيلم. لكن عظمة هذه المشاهد تكمن في المونتاج، وفي السرد المقتصد، وهو ليس من وسائل كوبريك المفضلة.
وهنا تصلح المقارنة بين هذه المشاهد، وبين الخمسة والأربعين دقيقة الأولى في فيلم كوبريك «خزانة بندقية محشوة بالرصاص وجاهزة» Full Metal Jacket. ففي مشاهد «خزانة..» التي نرى فيها كيف تتحول مجموعة من المجندين الأمريكيين على يدي مدرب في قوات مشاة البحرية الى أدوات للقتل، يستخدم كوبريك طريقة المونتاج البطئ التفصيلي. لكن لا تمتلك كل لقطة على حدة، قوتها من احتوائها على عناصر خاصة بها تساهم في تصعيد البناء بقدر ما تُوظف اللقطات المتحركة التي تستعرض طبيعة المكان للسخرية من النشاط العسكري للجنود الشبان.
أما مشاهد التدريب في فيلم «سبارتاكوس» فهي أكثر دقة ووضوحا. ويأتي مصدر القسوة فيها من «استخدام» التدريبات وليس من التدريبات نفسها. فسرعان ما يستخدم العبيد الجدد مهاراتهم الحربية ضد أسيادهم. ولا يتكرر إيقاع هذا المشهد أبدا في أي فيلم من أفلام كوبريك التالية. ورغم أن مونتير الفيلم روبرت لورنس يرجع الفضل في التوصل الى الإيقاع العام للمشهد وشكله إلى كوبريك، الا أنه ليس من الصعب أن ننسب إيقاع ذلك المشهد بوجه خاص إلى روبرت لورنس نفسه (المونتير). وبالمثل يمكن القول إن مشهد اختبار صمود سبارتاكوس أمام الاغواء الجنسي ـ عندما يأتونه بالجارية الحسناء فيرجينيا (جين سيمونز) ـ يعكس الرؤية المثالية لكاتب السيناريو دالتون ترومبو.
وتتضح البصمة الشخصية لكوبريك مع وصول مجموعة من نبلاء روما الباحثين عن المتعة يتقدمهم كراسوس (لورانس أوليفييه). ورغم أن كوبريك معروف بلقطاته المتحركة فإن اللقطة الثنائية هي أكثر ما يميز أسلوب كوبريك البصري. وهذه اللقطة عادة ما تكون واسعة قليلا لكنها عند كوبريك تضم شخصيتين تتحاوران وتتخذان وضعين قريبين من بعضهما البعض بحيث يكتسب أي انحراف في نظرة أحدهما أو أية إيماءة، دلالة خاصة. وتتركز عادة نظرة المتحدثين خارج المنظور أو تبدو زائغة، دلالة على انشغال تفكير الشخصية بأشياء بعيدة تماما عما يدور في المجال البصري.
عندما يصل كراسوس مع أصدقائه يتم إدخالهم مباشرة الى صالون باتياتوس (تاجر العبيد) حيث يبدأون في تناول الشراب والثرثرة حول ما يمثله عدوهم المشترك جراسيوس (تشارلز لوتون) من خطر عليهم وتهديد لوضعهم المتميز. أما أوليفييه الذي يتلذذ عبر الفيلم بأداء دور الشرير على نحو ميلودرامي، فإنه يبدو واثقا من نفسه وهو يواصل توجيه نظراته الحادة نحو منتصف الفضاء. وتتحرك السيدتان الأرستقراطيتان في الحفل وهما نموذجان للأثرياء العاطلين، إلى الخارج بعد أن عرفتا أن هناك مبارزة ستتم حتى الموت بين العبيد، حيث تتفحصان طويلا العبيد المسجونين في الكهوف. وفيما يحاول باتياتوس تاجر العبيد أن يبيع لهما بعض بضاعته، نرى المرأتين المنحلتين وهما تحدقان في اشتهاء جنسي في اتجاه العبيد خارج الكادر.
هذا المشهد الذي يستخدم فيه كوبريك بشكل ناجح فكرة «الناظرين والمنظور إليهم» واستخدام طرف ثالث يحاول تشتيت الأنظار، سيتكرر في فيلم كوبريك التالي «لوليتا» الذي يعتبر دون شك أفضل أفلام مخرجه.
وبشكل عام، يتكون «لوليتا» من سلسلة مشاهد يتكون كل منها من لقطتين، وهي مشاهد مرتبة من وجهة نظر البطل همبرت همبرت (جيمس ماسون) أثناء مطاردته المشبوبة للفتاة المهووسة جنسيا لوليتا (سو ليون). فبعد أن يجد نفسه محاصرا من قبل أطراف غير مرغوب فيها (شارلوت والدة لوليتا التي تقوم بدورها شيللي وينترز) يحاول همبرت باستمرار إزاحة شخصية أو أخرى (أحيانا بشكل جسدي) خارج الكادر وجذب لوليتا داخله. ولا يتحدد الفضاء الذي يشغله همبرت (ولوليتا كما يأمل هو) كثيرا بما يحتويه، بقدر ما يتحدد بما يبقى خارجه، كما في حالة نبلاء روما من ناحية والآخرين الذين لا يمكن السيطرة عليهم من ناحية أخرى.
وعندما يتبع همبرت لوليتا الى حفلة رقص مدرسية، فإنه يجد دائما من يقطع عليه انفراده بمطاردة فريسته سواء كانت الأم أم بعض الأصدقاء الذين يحاولون جذب أنظاره بعيدا عن هدفه الملتهب الى أشياء أخرى أقل جاذبية. ويدور همبرت في المحيط الدائري حول حلبة الرقص كما لو كان معزولا عنها بسياج من الأسلاك الشائكة حتى يتمكن من العثور على زاوية أخرى يتطلع من خلالها إلى الفتاة. إن مكانته العالية تتعرض للغزو والإنتهاك لكن نظراته تظل متركزة خارج الكادر. وليس مشهد الرقص هذا، وهو مشهد متدفق الايقاع وأنيق من ناحية التصميم المعماري، إلا نسخة أكثر دقة وروعة من المشهد الذي يدور قرب حلبة المصارعة في فيلم «سبارتاكوس».
بعد الحرية
يصف المونتير روبرت لورانس الذي ساهم في إحياء النسخة الحديثة من فيلم «سبارتاكوس» كيف يتضح من خلال التصوير في الفيلم أن شخصية سبارتاكوس بدأت تمثل مشكلة بعد نجاحه في تحرير نفسه في انتفاضة حلبة المصارعة، فيقول، إن العبد الذي تحرر لم يعد بالضرورة شخصية درامية بعد أن عثر على حل لمشكلته بالطريقة التي كان ينشدها.
ورغم ضخامة وإبهار المشاهد التي نرى فيها سبارتاكوس يقود جيشه من العبيد الذين يتزايد عددهم ويصبحون أكثر قوة وعدة، يبدو صناع الفيلم وقد استسلموا لبعض الحيل للاحتفاظ باهتمام الجمهور.
يتمثل هذا أحيانا في تضخيم مشاهد عادية مثل مشهد الحب بين سبارتاكوس وفيرجينيا بعد أن يراها وهي تستحم في البحيرة. أما الحيل الأخرى فإنها تبدو مكشوفة أكثر.. مثل ظهور القرصان هربرت لوم، الذي يساعد في ترتيب هروب العبيد من إيطاليا، بملابسه المزركشة المرصعة بالمجوهرات كشخصية تجذب اهتمام المشاهدين
ويتضاءل الاهتمام بسبارتاكوس خلال الفيلم تدريجيا، إلى أن يصبح مجرد دافعٍ لتصرفات كراسوس مع تركز اهتمام الفيلم أكثر على رد فعل نبلاء روما بعد هروبه.
وتتحول شخصية سبارتاكوس، الذي يجسد من خلال سيناريو ترومبو وأداء كيرك دوجلاس، رمز الحرية و«الرجل من العامة»، تتحول شخصيته على يدي كوبريك الى رمز للفوضى ولكل شئ لا يمكن السيطرة عليه. إنه يعكس ضعف كراسوس وإحساسه الشخصي بعدم الأمان كما يصبح كابوسا لنظام روما بأسره.
إن سبارتاكوس كنموذج للمتمرد الخارج على النظام، وكراسوس كنموذج للنظام، هما نمطان للبطل ولنقيض البطل anti hero. وهما نموذجان سيتكرر ظهورهما في أفلام كوبريك التالية. في فيلم «لوليتا» فقط استطاع كوبريك جمع الشخصيتين معا في شخصية واحدة لا تعثر على الخلاص أبدا. وقد حقق ذلك مرتين: في شخصية همبرت همبرت ونقيضه الشرير كلير كيتلي. وفيما عدا ذلك فكل أبطال كوبريك ترديد لنموذجي سبارتاكوس وكراسوس: نموذج سبارتاكوس يتمثل في: (عالم الفلك كلود دوليا في فيلم «2001 أوديسا الفضاء»، ومالكولم ماكدويل في «البرتقالة الآلية»، والقاتل جاك نيكلسون في «لمعان» The Shining والمغامر رايان أونيل في «باري ليندون»، والمجند ماتيو مودين في «بندقية معدة للاطلاق»). أما نموذج كراسوس فيتمثل في (كل شخصيات فيلم «دكتور سترينجلوف» تقريبا)، والكومبيوتر هال في «2001 أوديسا الفضاء»، والعلماء والسياسيين في «البرتقالة الآلية»، والإبن بالتبني في «باري ليندون»، والطفل ذي القدرات الخارقة في «لمعان»، والجندي الشرس في «خزانة بندقية محشوة».
صور من الجحيم
في أفلامه، لا يتضح التغير في الشخصيات كما يتضح في سلوك كوبريك الذي يصبح معاديا للجنس البشري. ويتميز فيلما كوبريك السابقان على «سبارتاكوس» وهما «القتل» و«طرق المجد» بنفس مناخ العبثية واللا جدوى. ويقترب فيلم «طرق المجد» Paths of Glory بوجه خاص كثيرا من العدمية، وهو عبارة عن سلسلة من اللقطات المتحركة (تراكنج) عبر الخنادق وقاعات الطعام. هذه الدراما من الحرب العالمية الأولى تنتهي بصورة للموت: ثلاثة رجال مقيدون الى أعمدة، أجسادهم مثقوبة بفعل الرصاصات التي أطلقتها عليهم فرقة الإعدام. لقد ماتوا عبثا ضحية لتفاهة الانسان وأخطائه.
انه موقف أخلاقي بارز. وإذا كان هذا الموقف يتوافق مصادفة مع نوايا كيرك دوجلاس، فإن كوبريك هو المسؤول عن حدته. وعلى مرور السنين بدأت نظرة كوبريك الى المتمردين والثائرين في أفلامه تتطابق مع نظرته الى خصومهم القمعيين. وإذا كان من الممكن تصنيف «سبارتاكوس» على نحو ما، في إطار المثالية الضبابية، فإن متمردي كوبريك في معظمهم سيصبحون فيما بعد أشرارا صارمين. والحقيقة أن الصورة الأحدث التي تركها لنا كوبريك في فيلمه «خزانة رصاص كاملة» هي صورة الجحيم، لشبان ينشدون أغنية من أغاني الأطفال وهم يخوضون تجارب الحرب الفظيعة، دون نساء ولا أطفال.
ويالها من نهاية تختلف تماما عن نهاية «سبارتاكوس» التي نرى فيها عشرات المصلوبين الأبرياء بينما يحاول رجل التخفيف عنهم، وتسير امرأة تحمل طفلا في اتجاه الافق. ربما أراد كوبريك الابتعاد عما يكمن في تلك الصورة الفنية «الرخيصة». ولكن ربما يكون قد ابتعد أيضا عن أشياء أخرى كثيرة.
ترجمة: أمير العمري
مجلة «سايت آند ساوند» أغسطس
1991