“كليك ودكليك”.. الناقد السينمائي ليس مبدعا فاشلا
في جريدة “الحياة” (عدد الجمعة 03 يونيو) نقرأ مقالا بقلم الناقد المغربي مبارك حسني (الاسم حقيقي وغير مقصود به اللعب على اسم الرئيس المصري البائد حسني مبارك!) حول الفيلم المغربي القصير الذي يحمل اسما غريبا هو “كليك ودكليك” للناقد عبد الله الجوهري الذي يجرب الاخراج السينمائي للمرة الأولى في هذا الفيلم.
منذ البداية في هذا الفيلم نشتمّ رائحة سينما راقية مختزنة صوراً وموضوعاً. السينما كملمح حداثي والموضوع كحامل صراع في مجتمع يقاوم نزوعَه الحداثي شكلٌ سلوكي ماضوي مؤسس على تصور خارج الزمن يتضمن تعاملاً مضنياً للتحقق الذاتي.
يتعلق الأمر في فيلم “كليك ودكليك” بحكاية رجل بلحية كثيفة يرتدي لباساً خاصاً يغطي اغلب الجسد ويُحاول أن يلتقط له صورة وجهية نصفية لزوم جواز السفر داخل علبة تصوير آلية كبيرة في بهو صقيل ومفتوح لمركز تجاري ضاج وصاخب. يقوم الرجل بكل ما هومطلوب من إعداد جسدي وانتباه وتصويب وتسديد وضغط على الأزرار اللازمة، لكن الشريط الورقي الحامل صورته والذي يحصل عليه في الأخير يطلع أسود قاتماً من دون وجهه المفترض مضيئاً وأبيض.
فكرة سيناريو طيبة معبّرة ومنخرطة. من تلك التي يمكنها أن تمنح شريطاً كامل التحقق تتوافر فيه الرؤية والمعالجة التقنية الناجحة. وهذا حصل إلى حد كبير. لأنه ليس المطلوب من عمل سينمائي هو باكورة صاحبه في المجال التخييلي، بغض النظر عن كونه فيلماً قصيراً، أن يكون تحفة بقدر ما يجب أن يبرهن عن وجود شروط “فيلميته” وسينمائيته.
وهي أمور خبرها عبد الإله الجوهري، صاحب الفيلم، كناقد ثقافة وكتابة وإعلامي لعشرات السنين. فهو ليس بالغريب الطارئ على المجال. والسينما في متناول الجميع شريطة التمكن والثقافة وتوافر الرؤية. والمخرج جعلنا نتأكد من أمر كهذا بألق ومتعة، بل وجعلنا نسجل هذا المرور من النقد والكتابة إلى الإبداع والكتابة بالضوء. لا، ليس الناقد مبدعاً فاشلاً، بل هو الرافد للإبداع الإخراجي.
ويتأكد ذلك أصلاً من اختيار الصورة كموضوع وليس كقصة منتقاة من ريبرتوار مجهول أو تبعاً لصدفة التقاء مع فكرة سيناريو جاذبة كما يحدث للكثيرين المفتقدين للأفكار الأصلية.
لقد تخير المخرج الموضوع الذي يسكن مخيلته ويشكل عصب اهتماماته. فالصورة هي المحدد المركزي للفن السابع، وهي حامل الحداثة بامتياز، وهي مفجرة التناقضات الخفية، بخاصة في مجتمع تتنازع ساكنته ومعتقداتهم أهواء التحديث وحبال التقليد.
فالبطل الملتحي لا يفهم لماذا لا تلتقط له الصورة في شكل اوتوماتيكي عادي. لماذا يحصل في كل مرة على سواد شامل. وكي يُعضد الأمر يتعمد المخرج تكرار الأمر كأنما لترسيخ ما يحمل من تناقض صارخ ومؤلم للعين في ذاكرة المشاهد، وأيضاً لخلخلة هناء البطل الظاهري وقناعاته عبر ما يحمل وضعه من عدم اتزان وتنافر مع المحيط العام.
وبعد أن يتحقق المراد من التكرار، يتم خلق الصدمة، بإقحام وجود أنثوي صارخ الأنوثة، من خلال دخول فتاة بفستان أحمر حد الركبتين. الرجل يجد نفسه في تماس كهربي مع عري مرتاح في وضعه، في مجال ينتمي إليه تنطق به حركات الفتاة المتهادية، الواثقة. اللذة تتفجر، والإثارة تقع، العين تعيد اكتشاف وظيفتها، والـ “كليك” كطفرة مفاجئة يرن في ذهن الرجل.
وحينها يدرك أن الإشكال مُرسخ فيه، وأن الصورة كي تلتقط لا بد لها من التوافق مععالم ومحيط وفكر. الصورة، وفق ما يريد المخرج قوله، هي ضد السواد ومع البياض والصفاء، ومن يحمل في دخيلة نفسه وعلى مستوى سلوكه غير ذلك يكون منبوذاً وغير مقبول.
التكرار الأليم والصدم القاسي هما الوسيلتان الكفيلتان بإحساس الناس بوضع مختل وفكر سلوكي عير سوي. وهو جوهر ما يكشفه شريط “كليك ودكليك” بعنوانه المحيل على الضغط على زر المُصورة، وبصوره المجزأة ما بين اللون الصافي واللون الداكن في جزء منها، وبحكايته الرمزية برائحة “العجيب” على مستوى القفل الحكائي، هذا الشريط القصير نوعاً، العميق طرحاً، يشكل مساهمة في الحوار المجتمعي الكبير لبلداننا العربية.
يطرح لنا هذا الفيلم القصير سؤال النقد حين يقارع الكاميرا، ويؤكد لنا مجدداً أن تجربة النقاد المغاربة والعرب في مجال إخراج أفلام سينمائية، والذين عاينا تجارب بعضهم من خلال المهرجانات، تجربة ناجحة وممكنة إلى حد بعيد.. الثقافة السينمائية تمنع صاحبها من الانزلاق والسطحية. وعبد الإله الجوهري مثال دال على ذلك. فقد قدّم عملاً يستحق الاحترام الكبير، وما حصوله على جائزة خفقة قلب القيمة في مهرجان جنيف السينمائي للفيلم الشرقي في دورته السادسة إلا دليلاً واضحاً على هذا.