“كلاب شاردة”.. دمعة الإنسانية المعذبة
إذا كنت قد قررت ان تشاهد فيلم المخرج التايواني تساي مينغ ليانغ “كلاب شاردة” Stray Dogs، متوقعا الحركة والحوارات وسرعة الإيقاع، فعليك ان تترك هذه التوقعات جانبا.
لا أحد يشاهد الفيلم يستطيع أن ينسى كيف يبدأ. إنه لا يبدأ بحدث أو بتفجير درامي، أو بتجوال الكاميرا هنا وهناك، بل يبدأ بلوحة تشكيلية متحركة بإيقاع بطيء، تغرق لحظات فى السكون. لوحة تدفعنا لسؤال فورى وعملي عن جماليات الحياة، وهل تستحق الحياة ان تعاش وسط الظروف الأشد قسوة؟
اللقطة الافتتاحية هى لأم تجلس على حافة السرير، وتمشط شعرها، بينما طفليها غارقان فى النوم.
جماليات المشهد
جماليات المشهد تنبثق من الدفء الذى يشع من الاستغراق فى النوم الهادئ للطفولة، والشكل الجمالي للمرأة، الشعر الناعم المنسدل على الوجه، والساقان شبه العاريان ودقة ملامح الوجه الأنثوي. وهى بأبعادها الجمالية تبدو كطيف يحل على المكان وليست جزءا منه. ومن خلال كل حركة من حركاتها الناعمة، يسرح بنا الخيال ونثار ونتمتع بسبب ذلك البهاء الكامن في حركاتها، ومواطن السحر فيها، أنها توحي لنا بهمس رقيق يتجاوز النظر، ويستقر في القلب، ويثير الخيال ويداعب المشاعر، مع ترقب مثير للحركة القادمة.
المشهد فيه بساطة وايضا يحتوى على الحزن والتعاسة والهدوء التام والفقر، فالمكان بناء من البوص، اضاءة خفيفة مركزة بوسط المشهد على الأم والطفلين كرمز لجماليات الحياة، لكن الظلام يحيط بالجوانب، موحيا بالبعد المظلم والقسوة، مع الشعور بالمعاناة.
الألوان الداكنة تضفي أجواء خاصة مزعجة، وتكثف شعوراً كلياً بالقلق والضياع.
اللوحة كلها تطرح سؤال المصير: لماذا ملامح الأم تعبر عن التعاسة والانكسار ونظراتها لأولادها تعبر عن الألم؟
بمتابعة الفيلم نكتشف ان هذه هى اللقطة الوحيدة التى تظهر فيها الأم فلا نراها بعد ذلك.
والظاهر انها لم تختف بالموت، بل بالهرب من التعاسة وعدم قدرتها على التحمل.
باقي المشاهد اغلبها كلوحات تشكيلية بدون حوارات، لكننا نحس بصخب الصمت. الصمت يملك هنا لغته لكنها لغة المقصود بها تمكين المشاهد من الانصهار فى عناصر التكوين الفني، فى الألوان والظلال، فى الإيماءات وحركة الجسد، فى دمعة تسقط معبرة عن المرارة، ان تلك الايماءات العميقة، مع الاستغراق الكلى فى السكون،هى التى تفجر لحظات الصمت الدرامية.
اما الحوارات القليلة فشديدة الايجاز، ولا توجد كلمة ليس لها معنى. أو قصة بالمعنى المتعارف عليه، او تسلسل فى الاحداث. نحن نجلس ونشاهد احوال ناس تجرى امامنا من حالة الى اخرى، الاب يقف حاملا اعلانا لعقار ما وهو يرتجف فى البرد العاصف، من خلفه الابنية الفاخرة وامامه تتحرك السيارات بلا انقطاع، بينما الابناء يتجولون بدون هدف، فى الشوارع، فى الغابات،فى السوبر ماركت، ثم يجتمعون بالمساء على رصيف شارع ما لتناول الطعام، و بعدها الاستحمام فى الحمامات العامة ، ثم النوم فى مكان فقير مهجور.
هكذا حياة الاسرة بأفرادها الثلاثة: الأب “كانغ شنغ لي”، الابن”يي تشنغ لي”، الابنة “يي تشيه لي”.
العزلة والغربة
ترتبط المناظر الطبيعية مع المخاوف الانسانية العميقة، العزلة والغربة، الانكسارات المريرة. هناك استدعاء دائم لشعور عميق بأن الحياة لم يعد لها معنى. في كل مشهد شعور بالضياع يصفع الإنسان في وجهه. هكذا بحياته المثقلة يندفع الاب فى اشد المشاهد حزنا ليتلى ابياتا من الشعر، وهو حاملا اعلانه مرتجفا من البرد والريح، وعلى وجه دمعة حزينة تسقط بصمت:
” بغضب يقف شعرى بلا نهاية
وبينما يتوقف المطر
أطلق صرخة مدوية فى السماء..
قلبي الشجاع يفقد الأمل..
بطولاتي تافهة، ليست سوى طين وغبار..
وجولاتي، ليست إلا غيمة تحت القمر..
أندم على حالي، رأسي الرمادي الذى لازال شابا
أيها الألم المغرور!
عار الهزيمة لم يمحى بعد..
متى سينتهي حزن الإمبراطورية؟
في عالم يتشظى فجأة بالخسارات، يشعر الاب بأنه مهزوم ومغترب، هذا الانفصال بين الرجل وحياته، هو بالضبط شعور الضياع، شعور الانفصال في وطن مألوف، ولكنه أصبح الآن فجأة غريبا وقاسيا ومهددا.. انه انسان بلا اسم.. فلا وجود له ككائن الإنساني… مجرد مادة مستغلة.
بالتالي، فإنه في سياق الضياع يُطرح سؤال الانتحار، طالما كان الانتحار عند الاب يمثل الهروب من الضياع، وهكذا يأخذ اولاده فى رحلة للموت، وتظهر هنا لوحة تشكيلية اخرى:
الأعشاب الطويلة والاشجار واهتزاز اوراق الشجر بفعل العاصفة ونقاط المطر. يصور المخرج شخوصه فى محيط مظلم، بينما الأب يتحرك غير منتصب وانما بشكل منحنى كشخص مقهور، وتختفى الملامح من المنظر كله. ثم تظهر المركب والمياه الرمادية للنهر والكل يغطيه الظلال السوداء. مشهد المركب والنهر تم تصويرهما من منظور علوى ليوحي لنا باننا امام هاوية الموت التى ستبتلع الجميع. وهكذا اوجد المخرج جوا دراميا محيطا يتحد وانكسارات الاب فنفذ إلى أعماقه الغارقة في تفكير حزين بلا نهاية أو أمل.. وساعد الظلام المحيط بالمشهد على إبراز قدر كبير من الدراما.
يغلف المشهد كله نوع من العذاب، فليس سهلا ان يقود اب اولاده للموت… وبدا المطر كأنه بكاء حزين للحباة.
الإضاءة والأمل
ومن الملاحظ إن المخرج حرص على إضاءة اجزاء من المشهد بمصباح صغير يمسكه الرجل بيده اليمنى، لكن هذه اليد طول الوقت مستنده على كتف الفتاة الصغيرة، تماما كلوحة تشكيلية غارقة فى الظلام يشقها شعاع من الضوء ربما لمنح الأمل.. لكن كما سيأتي فالفتاة الصغيرة ستكون سببا فى انقاذ الأسرة.
فى هذه اللحظات الدرامية، يطرح المخرج اسئلته الفلسفية:
– هل نترك المواجهة والكفاح عندما يسيطر علينا شعور الضياع؟
– أم نتمسك بالأمل حتى لو كانت الرغبة فى التهرب من قسوة الحياة متجذرة فينا؟
فى سياق الأحلام يقتحم الاب فى مشهد سابق، شقة فاخرة فى احد العقارات التى يعلن، هناك يتأمل الشقة الفاخرة ثم ينام على الفراش الوثير غارقا فى حلم الهروب من الشقاء. يظهر هنا بالضبط بؤس الانسان ليس من خلال الحلم والواقع، بل من خلال تناقض الواقع والواقع، فعمل الاب هو الاعلان عن الشقق الفاخرة. شقق يبنيها اغنياء ويحصل عليها موسرين، وواقعه انه هو نفسه لا يحصل على شىء، واقعه هو البؤس، والاطفال مشردين طول اليوم كالكلاب الضالة، بلا تعليم او هدف او رعاية أم.
وفى أحد المشاهد يجسم الاطفال رغبتهم العميقة فى الدفء الإنساني، فيصنعون بديلا لشخصية الام، من رأس ملفوف وملابس مهترئة بينما يرسمون الفم والعينين على الملفوف، ثم يغطونها بالغطاء. وفى احد المشاهد الموجعة يكتشفها الاب، وبانفعال لم نراه سابقا او لاحقا فى الفيلم يمزق الملفوف ويلتهمه ثم يبكى وهو يشعر بالاختناق، لشعوره بانه خارج الحياة،منبوذ بلا أمل ولا مستقبل ولاحب ولا جمال.. مجرد الضياع فى العدم.
فى لحظة ركوب المركب، تأتى امرأة لتنقذ الجميع من الموت، ثم تنقذهم من الضياع بمنحهم الامل فى الحياة.
هذه المرأة تعمل ب “سوبر ماركت”،وتجمع الطعام المنتهى صلاحيته، لتضعه ليلا امام بعض الكلاب الشاردة يعيشون بالأماكن المهجورة، كرمزية موازية لحياة الأب والابنة والابن.
في السوبر ماركت تعرفت المرأة بالطفلة وبدأت تمنحها رعايتها، وحبها وصداقتها وأمومتها، وهو احياء للفلكلور التايواني، فالأصدقاء المقربين ومن يمنح الاهتمام، يتم ادخاله ضمن دائرة الأقارب فيما يسمی بنظام “القرابة من خلال الصداقة” و يتضمنُ ذلك “الالتزامات العائلية بدون أن تجمعهم صلةُ الدم.” ولذا كانت المرأة تأتى احيانا في ظلام الليل لتراقب الطفلة عن بعد من فوق شجرة وتطمئن عليها،وهكذا لحقتها مع شقيقها قبل ان يأخذهما الموت، ودافعت عنهما بشراسة ومدت يدها اليهم جميعا بالمساعدة.
دموع الأحزان
فى حياتهم الجديدة تحت سقف بيت المرأة الذى يحوى شقوقا سببتها دموع الأحزان، نتابع الحياة الجديدة للأسرة وقلوبنا تخفق بالأمل المعذب أبدا، والحب الظامىء للحياة، حتى يتضح أن الوجود الإنساني في الواقع والمصير، لا تتحقق مواجهته إلا من خلال مقاومة جدلية.. والصراع الأبدي بين اليأس والأمل، وبين الإنسان والعالم بما فيه من حيوانات، وطبيعة، وبشر حيث تقوم حركة الوجود الإنساني في جوهرها صدورا عن العذاب والألم.
يقدم لنا المخرج التايواني تساي مينغ ليانغ فى “كلاب شاردة” لوحات تشكيلية، ملونة بألوان الوجود، مانحا لها ظلال الملاحم، ورؤية تؤكد على الانتصار الإنساني على الضياع.. فالنور الذى ينطفىء برحيل الأم يضيء بواسطة امرأة اخرى، وهى بمساعدتها للكلاب الشاردة والأسرة، ووقوفها طويلا غارقة فى سحر جمال الفن التشكيلي بلوحة جدارية، تعبرعن رمز لنور يفسح المجال للرؤية الحقيقية في دروب غير واضحة، وغير يقينية.. وهو ما تحقق فعلا في الفيلم بدفء العطاء الذى قدمته المرأة، هناك تجاوزا للضياع، وليس الوقوف عنده، آو الاستسلام له. فالصراع ضد القهر، والظلم، واليأس، والظلام.. لن ينجح ابدا الا من خلال التضامن الإنساني.
انه الأساس الذي لابد من التسليم به فى عزلتنا ووحدتنا، لإدراك معنى تجاوز لحظات اليأس والخوف، والجمود، والموت. وهو التأكيد الوحيد الفذ والعظيم للإنسان في وجه الشرور التى تنبثق من العالم.
* ناقد من مصر