“كدبة بيضا” تجربة أولى تنبض بالحياة

رغم مرور أكثر من خمس سنوات على إنتاجه، أقامت شركة إيبلا الدولية للإنتاج السينمائي والتلفزيوني عرضاً خاصّاً لباكورة إنتاجاتها من الأفلام الروائية الطويلة وهو الفيلم المصري – الأمريكي المشترك “كدبة بيضا” أو “مصريكاني” في ريل سينما – دبي مارينا موول.

والفيلم من تأليف لؤي السيدَّ وإخراج نور أرناؤوط في أولى تجاربها الإخراجية، والتي آثرت التنويه في كلمتها المقتضبة قبل العرض إلى مرور خمس سنوات على إنتاج الفيلم.

والحقيقة أنني لم أجد داعٍ للتذكير بهذه المعلومة طالما أن الفيلم يحتفظ بطزاجته وصلاحيته لكل زمان ومكان، خاصّة أنه ينطلق من ثيمة أساسية هي التباين الحادّ بين عالميّ الشرق والغرب بمفهومنا ومنظورنا نحن العرب، وبفهموم الأمريكيين أنفسهم، وإن كان ذلك بدرجة أقل.

هذه الثيمة تذّكرنا بالفيلم المصري الشهير “عسل أسود” (2010) بطولة النجم أحمد حلمي ومن تأليف خالد دياب وإخراج خالد مرعي، خاصّة أنه لا يفصل بين هذين الفيلمين سوى سنوات قليلة للغاية، ولكن وإن كان الفيلمان ينطلقان في الحقيقة من ثيمة واحدة إلا أنهما يفترقان بكل تأكيد في طريقة المعالجة.

فبينما كنا في “عسل أسود” نتابع المفارقات الساخرة أحياناً، والمريرة أحياناً، والتي يعيشها بطل الفيلم الأمريكي ذو الأصول المصرية المولود في أمريكا والعائد إلى بلاده للزيارة، فإننا في “كدبة بيضا” نجد أنفسنا إزاء عائلة أمريكية الأصل والجنسية بالكامل، تقرر قطع المحيط وصولاً إلى مصر برفقة ابنتها كريستي استعداداً لحفل زفاف الأخيرة من أحمد وهو شاب مصري عاش لفترة من الزمن في أمريكا ثم قرر العودة إلى مصر ليتزوج ويستقر صحبة زوجته الأمريكية.

وهكذا نجد أنفسنا أمام عائلتين – مجتمعين يحاول أفرادهما تفهم وتقبّل الآخر وتحطيم الصورة النمطية الراسخة في الأذهان بتأثير من الإعلام بالدرجة الأولى، ثم بجملة من المعطيات الكثيرة الفاعلة في ترسيخ الأفكار المسبقة والأحكام القطعية الجاهزة والمختزنة، بلا شكّ، حتى في وجدان أكثر أفراد هذين المجتمعين انفتاحاً.

يضعنا الفيلم منذ البداية إزاء معالجة وشخصيات مختلفة كفيلة بدحض شبهة الإستنساخ، ثم تعزّز مخرجة الفيلم أصالة هذه المعالجة بأسلوبها الذي يبدو منتمياً للسينما الأمريكية أكثر من انتماءه للسينما المصرية أو العربية عموماً، وهنا يُحسَب لصنَّاع الفيلم إصرارهم على استخدام اللغة الإنجليزية في الحوار بين الشخصيات الأمريكية، وبين بطليّ الفيلم أحمد المصري وكريستي، رغم الصعوبات التسويقية التي قد تنجم عن مثل هكذا خيار، إن أردنا الحديث هنا بلغة الصناعة، خاصّة أن الفيلم ينتمي للسينما التجارية.

إلا أن ذلك النوع من السينما التي لا تُعنى فقط بمغازلة الجمهور أو تلبية رغباته فحسب، إنما تسعى بجدّية ومسؤولية إلى طرح مواضيعها وقضاياها حتى وإن قُدِّمَت ضمن قالب لا يخلو من عناصر جذّابة ومحبّبة للجمهور، أو كما تُسمى في القول الدراج الخلطة السحرية التي تضمن تفاعل الجمهور، ولكنها هنا خلطة أعدها صنَّاع الفيلم بمهارة واحترافية واضحة مع المحافظة، في آن واحد، على الخصوصية التي تغلّف هذه التجربة لتجعلها متفردة عن مثيلاتها، خاصّة أن الفيلم سبق وأن عُرِضَ في دور العرض المصرية خلال العام 2018 ليخوض منافسة شباك التذاكر مع عدّة أفلام مصرية طُرِحَت آنذاك.

وقد ساهم السيناريو الذي كتبه لؤي السيد في تعزيز أصالة المعالجة عبر جملة من المفارقات الكوميدية الناجمة عن تعامل واحتكاك أفراد العائلتين مع بعضهما البعض في شؤون الحياة اليومية، والحقيقة أن الفيلم وإن كان يتطرق ظاهرياً لقضية غاية في الأهمية والحساسية في ظلّ التداعيات السياسية والإجتماعية الكبرى لجملة من الوقائع والأحداث التاريخية التي ألقت بظلالها على العلاقات العربية – الغربية، والعربية– الأمريكية تحديداً.

إلا أن الفيلم، وفي العمق، يغلّف قضيته هذه بلبوس العلاقة الإنسانية، والتي هي جوهر القضية، بأسمى مراتبها ودرجاتها ونقصد قصّة الحب الكبيرة التي تجمع أحمد بكريستي، فالأهم في هذا الصدد هو كيفية معالجة هذه القضية وليس القضية بحدّ ذاتها، رغم أن مثل هذه القضايا تغري كثيراً للوقوع في مصيدة الخطابة والمباشرة، ورغم أن الفيلم نفسه كاد أن يقع في هذه المصيدة خاصّة في الربع الأخير لمّا يقرر والد كريستي، وهو أمريكي متعصّب، الاعتراف بالتغيير الذي أصابه عبر رحلته الدرامية.

وكان الأجدى، من وجهة نظرنا، الإكتفاء بمشاهدة هذا التغيير دون البوح به على لسان الشخصية صراحةً، خاصّة أنه بدا مفهوماً ومحسوساً منذ مشهد تحدّي شرب الكحول الذي يخوض غماره برفقة أحمد ضدّ بعض الشبان المصريين المتواجدين في البار، ومنذ أن قبل بتناول الفطور المصري التقليدي على عربة الفول في الشارع مع ساعات الفجر الأولى، رغم أن نظرته الأولى والمسبقة، والتي بَدَت ثابتة وغير قابلة للتبديل، كانت تتحمور حول فكرة واحدة مفادها أن المصريين، والعرب عموماً، ليسوا أكثر من قوم يمتطون سنان الجمال!

هذه الفكرة بحدّ ذاتها، تبدو ساذجة ومثيرة للضحك والسخرية، خاصّة في ظلّ سيطرة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي على حياتنا وسهولة الوصول إلى المعلومات، إلا أن المبالغة هنا، وهي مقبولة بلا شكّ في سياق الكوميديا، تأتي ككناية أو استعارة عن جملة المفاهيم المغلوطة الساكنة في العقول المغلقة، وهذا بالتأكيد مجرد تفصيل واحد من جملة تفاصيل يزخر بها فيلمنا بشخصياته المرسومة بوضوح واحتراف، والنابضة بالحياة وبالتعقيدات الإنسانية التي قد تصل أحياناً إلى تفجّر عنيف كما هو الحال في مشهد الشجار بين الجدّة المصرية والأب الأمريكي بسبب شرب الأخير للكحول.

وحتى هذا الشجار، الذي يأتي بالطبع منسجماً مع القالب الكوميدي للفيلم، يجيء هنا كإستعارة عن صراعات تتخذ في الحياة أشكالاً مغرقة في العنف والدم والقتل، ولكنها تأتي في سياق دراما الفيلم منسجمة مع بداهة الشخصيات المحكومة بتركيبات نفسية واجتماعية واضحة المعالم.

وإذا كان الخط الدرامي الرئيسي للفيلم، أو بؤرة السرد، هي العلاقة بين أحمد وكريستي وصراع أحمد الداخلي من أجل إقناع خطيبته بالبقاء في مصر بعد إخفاءه عنها لحقيقة تصفيته لأعماله في أمريكا، فإن التشعب الذي تقصّده السيناريو بين عدد كبير نسبياً من الشخصيات، كان منسجماً أيضاً مع بنية الفيلم الكوميدي الذي يتحمّل بطبيعته ما لا يتحمّله سواه من الأنواع، خاصّة أن المشاهد ذات الصلة بالشخصيات الثانوية، كانت بمثابة مشاهد تفريغ بعد لحظات ذروة درامية يعيشها الأبطال، فكريستي الذي ستعلم يوم زفافها، وعن طريق صديقتها الواصلة لتَّوها من أمريكا، بحقيقة نوايا أحمد حول الإستقرار في مصر وما قام به من تصفية لأعماله في أمريكا، لن تغفر له كذبته البيضاء تلك.

 أما حفل الزفاف نَفسَه فسرعان ما سينقلب رأساً على عقب بعد كشف العروس لهذه الحقيقة، ليخيّم شبح الفراق والانفصال على مصير هاتين الشخصيتين، رغم بعض المحاولات التي سيبذلها أحمد لإقناع خطيبته بأسباب رغبته بالبقاء في مصر، إلا أن النهاية تجيء، على مجرى العادة، سعيدة ولصالح انتصار الحبّ بين البطلين رغم كل الذي جرى.

تكاملت لإنجاز هذا الفيلم جملة مقومات لا بدَّ من الإشارة إليها، بدءً بمدير التصوير المتميّز فيكتور كريدي، مروراً بالمونتير البارع أحمد حافظ، وانتهاءً بشركة الإنتاج التي وفرّت بلا شكّ كافة مقومات النجاح.

إلا أنه لم يكن لكل هذه الجهود أن تتكامل على النحو النهائي لولا قيادة المخرجة نور أرناؤوط التي درست الإخراج السينمائي في أمريكا وعاشت هناك لفترة طويلة، ثم جاءت في فيلمها الروائي الطويل الأول لتطرح قضية عانت منها على مستوى شخصي بحكم توزعها بين الثقافتين، ولتعبّر عنها بلغة بصرية متفردة لا تشبه سواها، وبإحترافية تُحسب لها في تجربتها الأولى على صعيد التقطيع وتنفيذ المشاهد، خاصّة تلك المشاهد التي تعقب تناول العائلتين لحلويات محشوة بمخدّر الحشيش حيث يندمج العالم الواقعي بالمتخيل بسلاسة ونعومة ليبدوان وكأنهما كلُّ واحد لا ينفصل.

في هذه المشاهد تنكشف المكنونات الحقيقية للشخصيات التي ظهرت في بداية الفيلم كأنماط ثابتة متلبّدة المشاعر وباردة الأحاسيس، ويبدو أنها غير قابلة للتغيير، ولكن سرعان ما يُسفَر النقاب عن حقيقة هذه الشخصيات وما يعتمل في أعماقها من أحلام وسمات بسيطة تناقض الصورة الخارجية الحادّة والصارمة إلى درجة النفور، كالجدّة المصرية المتعنتة والتي تحلم بعودة الزمن الجميل وبمعشوقها الأبدي رشدي أباظة، أو مدّرس الرسم الشاب الذي يحلم ببيع نتاجه الفني من لوحات وبورتريهات كان يظن بأنها مجرد كراكيب لا تصلح للبيع.

والحقيقة أن الحرفية الواضحة في رسم الشخصيات الثانوية بتركيباتها النفسية المميّزة هي ما يشفع ربما للسيناريو في كثرة عدد هذه الشخصيات، وفي المحصلة نجحت المخرجة بإنجاز فيلم لايت كوميدي لا يقلّ إطلاقاً عن الأفلام الأمريكية التي تُعرَض كل سنة في مواسم الكريسماس والأعياد، والأهم في رأينا أن كل ذلك يجيء بعيداً عن الابتذال أو الإسفاف الذي قد ينجر إليه بعض المخرجين في تجاربهم الأولى بهدف تحقيق المزيد من الإيرادات أو التريندات، حسب موضة هذه الأيام.

وعلى العموم ثمّة في الفن قول مفاده أن العمل الفنّي يشبه صاحبه، وانطلاقاً من هذه المقولة يبدو كدبة بيضا ببساطته وعفويته ونبضه بالحياة ودعوته للسلام والتآخي بعيداً عن الأحكام المسبقة والتهم الجاهزة شديد الشبه بمخرجته التي تنوع عملها، ولا يزال، بين الإخراج والتمثيل والغناء وإدارة الإنتاج، والتي استطاعت عبر فيلمها هذا وضع اسمها، إن صحَّ التعبير، ضمن قائمة مخرجي الأفلام العربية – الأجنبية المشتركة، والحقيقة أن هذا الفيلم وإن كان مصرياً في بعضه، وأمريكياً في بعضه الآخر، فإنه يتجاوز هذه التصنيفات ليصبح فيلماً إنسانياً عن أزمة التواصل بين المجتمعات، وهو إن نَظرنا إليه من هذه الزاوية، يعدّ فيلماً عالمياً بإمتياز.

https://www.youtube.com/watch?v=bMHZw_wRp7o
Visited 85 times, 1 visit(s) today