“كثبان” مشهد سينمائي خلاب ينقلب للعكس
بقلم اوين جيلبرمن
ترجمة رشا كمال
عن مجلة “فاريتي” الأمريكية
في المعالجة الحديثة المنتظرة والمبهرة لفيلم ” كثبان- Dune” للمخرج دينيس فيلينوف، المقتبس من رواية الخيال العلمي للكاتب فرانك هربرت الصادرة عام 1965، نرى الشخصيات تحلق في طوافات ذات ثلاث مجموعات من الأجنحة، يرفرف كل منها بسرعة كبيرة، وهي تبدو مثل الحشرات.
ويوحي عالم الفيلمالذي شهد مهرجان فينيسيا السينمائي عرضه العالمي الأول، أن المركبات الطائرة قد تطورت في مجال الكواكب الاخرى، بينما نحن على كوكب الأرض مازلنا نصمم طائراتنا على هيئة طيور. أما في فيلم “كثبان-Dune” فهي على شكل حشرات، وتُحدث رفرفة مخيفة.
“كثبان-Dune” فيلم من نوع الخيال العلمي، كئيب، مبهر، ضخم، وغني بالمعارك الطاحنة التي تدور بين العشائر والجيوش المتوحشة، وفيه نرى شخصية الحاكم المستبد، والبطل الذي يبدو كالمسيح المخلص، وهو بهذا يشارك نفس روح وتصميم أفلام اخرى مثل “حرب النجوم-Star Wars، و”سيد الخواتم-Lord of the rings“، ولكن بطابع مشؤوم يميزه عنها.
ضخامة الفن المعماري للكوكب الصحراوية تشبه الأحجار الرملية لحضارة المايا، والسفن الفضائية تبدو مثل الصخور الطافية بحجم مدن كبيرة. اما الأسلوب السينمائي فهو مزيج من “لورانس العرب – Lawrence of Arabia“، و”انتصار الإرادة-Triumph of the will” وأفضل فيلم خيالي لم يحققه أبداً المخرج ريدلي سكوت.
ويبدو الفيلم مفتونا إلى حد كبير بفكرة عمل النظام الداخلي للفاشية، وهو يسعى إلى إبهارنا، وينجح في ذلك في بعض الأحيان، إلا أنه يريد أن يترك أثره على المشاهد مثل لدغة البعوض السام، ويستمر في المحاولة إلى أن يعجز.
هناك تعريف واحد يفيد في تحديد أفضل أفلام الخيال العلمي، وهو أن تكون تفاصيل العالم الخيالي فيه مبهرة، ولكن بحيث لا يطغى الإبهار على أهمية السرد. وقد تحقق هذا التوازن في أول فيلمين من سلسلة أفلام “حرب النجوم-Star Wars“. وتكرر الأمر مع افلام “فارس الظلام- The Dark Knight، وماكس المجنون- Mad Max“، أما فيلم “الجاري عل الحافة- Blade Runner” فهو مميز على طريقته الخاصة، ولكن هذا لا يمنع أنه تفوق في الاهتمام بتفاصيل العالم المرئي أكثر من محاولته الارتجالية المتميزة في نمط النيو- نوار.
ومن هذا المنطلق فإن فيلم “كثبان-Dune” يستحق تقييم خمس نجوم على بناء العالم الخيالي، ونجمتين ونصف من أجل سرد الحكاية.
وإذا ما قورن بالنسخة الكارثية التي قدمها المخرج ديفيد لينش عام ١٩٨٤، تبدو هذه النسخة تحفة فنية، وباتت تفاصيل الحكاية الآن مفهومة، وواضحة. والفيلم مبهر الى حد كبير لمدة ساعة أو أكثر، ونحن نرى لمحات الخيانة في حكاية بول اراتيدس، الذي قام بدوره الممثل تيموثي شالاميت، وريث منزل اراتيدس، ووالده الدوق ليتو اراتيدس، وقام بدوره الممثل أوسكار إيزاك، الذي تولى قيادة ما بدا كما لو كان فرصة، ولكنه في الحقيقة أمر محفوف بالمخاطر .
يخضع الكوكب الصحراوي المنيع آراكيس طيلة ثمانين عاماً لحكم عشيرة هاركونن، الذين حكموها بيد من حديد، وسيطروا على إنتاج أحد التوابل النفيسة الموجودة في الرمال والهواء. ويطلق على هذا التابل في الرواية اسم ميلانج، وهو مجاز للبترول والمخدرات، أما هنا في الفيلم فهو مادة خام براقة. ولقد أصدر الإمبراطور أوامره لهاركونن ان يغادر آراكيس، وولى القيادة بدلا منه لآل اراتيدس، الذين وصلوا على هيئة جيش آخر محتل جديد، ولكنه في الحقيقة تنصيب مزيف لهم كالبلهاء.
يحاول فيلينوف جاهدا أن يظل أمينا لجو المؤامرات في مخيلة المؤلف هيربرت عن الكوكب الرملي، حتى بعد تبسيطه للخطوط الدرامية في الكتاب القابلة للتصوير. شالاميت، طويل ونحيف، ووجهه بريء تحت شعره المجعد، كما لو كان نسخة أكثر رشاقة من “إدوارد ذو الأيدي المقصات-Edward Scissorhands“، يلعب شخصية بول، البطل الغض، الذي يتمتع بقدرات لا يكاد يستوعبها، ورثها عن والدته ليدي جيسيكا قامت بالدور الممثلة ريبيكا فيرجسون، مساعدة الكاهنة بيني جسيريت قائدة الطائفة الصوفية الأموية، وهي تريد مساعدة ابنها على التواصل مع مخلصه الكوني الداخلي.
يحتوي الفيلم على عدة مشاهد جيدة مثل المشهد الذي يتعلم فيه بول كيفية التخاطر الذهني والتحدث مع والدته، أو الدرس الذي يتلقاه من والده ليتو العطوف، ضعيف الشخصية، عندما يحدثه عن الاختيارات الإنسانية الغامضة، أو الاختبار الذي يخضع له تحت إشراف عمته غايوس هللين موهين، وقامت بدورها شارلوت رامبلينغ.
نعم هذه الأسماء، مثل الاسماء المزعجة للشخصيات في الأجزاء السابقة لأفلام المخرج جورج لوكاس “حرب النجوم-Star wars“- وتطلب منه أن يضع يده داخل صندوق الآلام، وعليه أن يتحمل ويصمد. فمن الأفضل له ذلك، وإلا ستحقنه بإبرة قاتلة في رقبته.
أما الممثل ستيلان سكارسغارد يفبدو في هيئة غير مألوفة يصعب التعرف عليه في دور البارون فلاديمير هاركونن، وهو مخلوق إجرامي بجسد يطفو مثل شخصية جابا في فيلم “حرب النجوم- Star wars” ، أضف عليها شخصية هنري الخامس، وشخصية الوغد السمين من سلسلة أفلام “أوستن باورز- Austin Powers“، وهو المحرك الدافع للأحداث، يحاول استعادة السيطرة على آراكيس، ويقتل أي شخص يلفت انتباهنا ويعترض طريقه، ونجاحه في هذا الأمر يثير المخاوف.
تمتاز مشاهد القتال بالأيدي في الفيلم بلمسة إبداعية، فبدلا من استخدام السيف المضيء، تتشاجر الشخصيات باستخدام أسلحة أخرى تحول أجسادهم إلى إطارات كهرومغناطيسية مجمدة. ومن الممتع أن نرى دنكان ايداهو- الي يقوم بدوره الممثل جيسون موموا، في شخصية الملاكم، المثير، الوفي، وهو هنا الشخصية الموازية لشخصية هان سولو في فيلم “حرب النجوم-Star wars“- وهو يتغلب بمفرده على جيش صغير من الأعداء.
ولكن ما الهدف من كل هذا؟
يستمر تنبؤ الفيلم بلحظة انضمام بول الي “الفريمن”، أي السكان الأصليين لصحراء آراكيس، وهم يتمتعون بعلاقة حيوية مع طبيعة المكان المحفوفة بالمخاطر، وكذلك عنصر التابل، أكثر من أي حاكم آخر. ولكنهم يعيشون في تناحر مستمر في انتظار مخلصهم، الذي يبدو أن بول هو هذا الشخص المختار، كما ظهر في النبؤة من خلال عدة مشاهد لتوقع المستقبل، تتقاطع بالتزامن مع رؤية الوسيطة تشاني وهي إحدى المحاربات المواليات لفريمن، وتظهر في الفيلم كما لو كانت إحدى أميرات الصحراء.
يفتتح فيلم “كثبان –Dune” بجملة واحدة وهي “كثبان- الجزء الأول”، وهناك وعد افتراضي تتضمنه هذه الكلمات: فبعد ساعتين وخمس وثلاثين دقيقة، سنظل متلهفين لما يمكن أن تقدمه لنا هذه الملحمة في الجزء الثاني. وهذه هو الحال المتبع مع أي سلسلة افلام. ولكن مشكلة فيلم “كثبان-Dune” هي أنه يشبه في كثير من النقاط المختلفة أي سلسلة افلام أخرى.
على مدار عدة عقود استوحى كثير من المخرجين افلامهم من رواية هيربرت، على سبيل المثال الفصل الافتتاحي من فيلم “حرب النجوم –Star wars“. وكان هناك سبب وجيه بأن يكون الجزء الأول من الفيلم في الصحراء لأنها تعتبر مكانا غير ملائم لفيلم من نوع الخيال علمي، وتبدأ الأحداث ببطء مقصود في فيلم “حرب النجوم-Star wars“، لأنه يكشف لاحقاً في نصفه الثاني عن تفاصيل سينمائية مبهرة. بينما فيلم “كثبان-Dune” غني بالمواضيع، والعناصر المرئية المتكررة، ويتحول تدريجيا ليصبح فيلما يدور حول شخصية بول الذي يقود مركبته الحربية عبر العواصف الرملية، وينضم إلى متمردي الصحراء، وهم في الفيلم أكثر نبلاً من اللازم.
الحكاية لا تفقد حماستها فحسب، بل ونفقد معها أيضا اي شعور بالتواصل مع الفيلم. الديدان الرملية العملاقة، التي تحمي عنصر التابل، تشق طريقها عبر الصحراء كما لو كانت اعصارا مشئوما تحت الارض، الي ان تظهر على الشاشة تبدو مثل خياشيم أحد الوحوش التي تمتص كل من يقف أمامها، وهذا يبدو جيداً بين لحظة واخرى، لفكرة مخلوق قديم يثير الهلع، ولكن ما الجدوى من ورائها في الفيلم على أي حال؟
فيلم “كثبان-Dune” يجعل من الديدان، والكثبان، والمشهد العسكري المهيب، وحكاية الصبي الذي يخوض المغامرة ويتكيف مع الصعاب، والحبكة، أمرا ممتعا لوهلة قصيرة، ولكن عندما يستنفذ الفيلم كافة الحيل المتاحة أمامه يصبح مشوشاً، باهت الملامح.
هل مع كل ذلك سيكون هناك جزء ثانِ؟
أمر وارد، إذا حقق الجزء الأول نجاحا كافيا، ولم يذهب طي النسيان. فمن الصعب أن نبني امالاً على كثبان رمال متحركة.