“قرن الماعز”.. المقاومة والتمرد النسوي

مشاهد من القتل المتكررة لرجال الخلافة العثمانية، ونية مستميتة للتخلص من كل ما هو عثماني يحكم ولايات البلغاريين في القرن السابع عشر، فتاة تستحوذ علي صمت جمالي في صورة مشهدية، فاستطاع المخرج البلغاري ميتودي أندونوف ذوع النزعة الاشتراكية وصاحب الصورة الخالصة المقتصدة ان يجعل الصمت الانثوي، علامة جمالية لا تتوقف عن النضب، فهذه الانثي الجميلة هي ذات روح رجوليه في القتال وملمح ذكوري حيث انتوي والدها في الفيلم التاريخي النسوي البغاري “قرن الماعز” المنتج عام 1972، أن يجعلها فتي وليس فتاة، أن تكون مقاتلا حربيا ضد الوجود العثماني بكل تنويعاته حتي فنونه المختلفة.

ملامح الصورة

اعتمد المخرج علي الروح الواقعية في عرض الصورة، والاقتصاد في كل شئ، فليس هناك أحداث ينتظرها المشاهد تثير مخياله البصري والمتعي، ولكن هناك قصة مقتصدة واضحة تسترسل نفسها في صورة جمالية مقتصدة للغاية، حيث يحكي الفيلم عن ولاية بلغاريا في القرن السابع عشر، عندما كانت تحت الحكم شبه الإقطاعي للعثمانيين. ويبدأ الفيلم  باغتصاب زوجة المزارع كارايفان وقتلها من قبل بارونات الأراضي القمعية المحلية، فيشعر بالغضب ويحرق المنزل ويخفي ابنته ماريا في صورة صبي ويدربها في فن اغتيال العثمانيين اينما حلوا بدون اي رحمة او شفقة.  

وليس هناك جماليات مفرطة او جماليات بصرية، او جماليات متكلفة كما هو معتاد في الافلام السينمائية العظيمة والصورة الجمالية المميزة والنادرة، فالتشكيل الصوري، هو تشكيل الطبيعة، وهناك حالة كرنفالية للغابات والشجر، وحيوانات الماعز، وبعض الاحتفالات البلغارية، والتقاليد والثقافة البلغارية وقت هذه الفترة من التاريخ الانساني، بالاضافة إلي ان المونتاج كان مريحا وليس متكلفا او سريعا لتتبع الحدث، او طويلا لافراز اللقطة الطويلة الجمالية، فكانت الصورة متوازنة للغاية، ومريحة الي ابعد حد، فالمشاهدة ليست متعبة، وايضا ليست محفزة او جاذبة للجمهور.

يلاحظ ان سمة التناثر حاضرة في الفيلم، فالقطع في اللقطة قد يوحي بأنه هناك حدث منفصل ولكنه متتبع، فالأحداث متواصلة ولكن هناك تناثرا ما في روح الصورة لدي الفيلم، وهي سمة مميزة لدي المخرج ميتودي، وقد أجاد توظيفها طوال الفيلم، وهي التي زادت من تقشف واقتصاد الصورة، كما ان الحوار بين المزاع كارايفان وبنته ماريا يتسم ايضا بالتناثر والبرود والاوامر والعنف، فهناك دموية لا حدود لها لدي بطلي الفيلم، فالاشتياق لدماء العثمانيين لا ينقطع لديهم، فهم دائما يخططون لمزيد من جثث الاقطاعيين.

 صورة متفردة

وقد قارن الكثيرون فيلم “قرن الماعز ” بالواقعية الايطالية الجديدة في ذلك الوقت من حيث اعتماد المخرج ميتودي علي الصور المقتصدة والجيدة والتأثيرات الطبيعية لتحقيق التأثير، ولكن الحال عند المخرج البلغاري مختلف، فلديه الروح الواقعية، ولكنها مختصة بفكره السينمائي، وايضا بالثقافة والفن البلغاري، والثقافة الشرقية السوفيتية الاشتراكية، ويمكن مقارنته بفيلم سارق الدراجة، التي جاء به اقتصادا للصورة ولكن اقل من فيلم ميتودي، حيث هناك جماليات للصورة تثير مخيال المشاهد، بجانب ان القصة بها اثارة وحدث شيق الي حدا بجانب واقعيته، فالمشاهد منتظر ما يحدث دائما، بخلاف فيلم “قرن الماعز” حيث هناك حدث، ولكنه حدث بارد مقتصد به تطورات للحكاية، وتغييرات في مجري القصة، ولكن ليست الاساس، فالسؤال هل يمكن اعتبار فيلم ميتودي اعلي في المستوي من حيث النواحي الفنية الجمالية والسردية والواقعية من فيلم دي سيكا؟.

نسوية كلاسيكية

تميزت شخصية ماريا ابنة المزراع البائس المقاوم للعثمانيين، بالروح النسوية الكلاسيكية، فهي رغم انها تعامل كفتي خفي يقاتل الاقطاعيين، إلان انها فتاة لديها روحها الامومية، وروح الانثي المعتادة، فهي تبحث عن عالم مستقر وامان بخلاف عالم والدها الشرس العنيف، ولكنها تعتاد علي عالم العنف والقتل واثارة الدم، والانتقام للأم البريئة المهدر دمها، وهي فتاة نسوية لديها طموح ماركسي، فقد ساعدت رجلا اغتصب منه حصانه وقاتلت العثماني السارق وردت له حصانه بابتسامة هادئة اثنوية، كما انها تراجعت عن القتل اكثر من مرة نظرا لظروف انسانية بحتة، فالقتل لديها كان له حسابات انسانية بخلاف والدها المزارع. بجانب انها بحثت عن ملابس واحتفالات النساء، وقد سرقت ملابس رائعة الجمال انثوية لكي تتزيين بها لحبيبها، فهي ايضا ارادت ان يكون لها حبيبا تحبه فهي تشعر بداخلها بعوالم الانثي، ولكنها ايضا انثي محاربة شديد البأس، فقد قامت بمزيد من قتل العثمانيين نيابة عن والدها المزارع.

ماركسية تاريخية

روح الفيلم تتسم بروح المقاومة والانتقام للحق، دون الاعلان عن مقاومة الاستعماري العثماني صارحة او بشكل مباشر، فكان دافع المزارع كارايفان لقتل العثمانيين هو الانتقام لما حدث لزوجته، من اغتصاب وقتل، فتعددت مشاهد القتل، وكثرت الجثث، الا ان الصورة تعلن عن ثورة من فردين لقتال المحتل العثماني والدفاع عن الوطن البلغاري الام بكل جسارة وشجاعة لا مثيل لها، وهو امر مكلف جدا ويحتاج الي ادوات قتالية وروح ثورية وافرد كثيرون، ولكن فرديين فقط استطاعوا ان يحملوا مشروع ماركسي للمقاومة ضد العثماني الغاصب لارضه بكل غشومية وسيطرة لا رحمة لها. واستمر منحي المقاومة لحد اخر احداث الفيلم، فعمليات القتل لم تتوقف، وكانت تزداد تطورا، والفيلم يمثل احد الاعمال الوجودية التي عبرت عن الفن خلال فترة السبعينيات من الحكم الشيوعي للوطن البلغاري.

 ايروتيك بدائي

في احدي لحظات الفيلم تحولت روح الاب المزراع الي قاتل حبيب بنته ماريا فهو يري انها فتي وليست فتاة فهو لا يري نساء في الحياة، فهو اصبح قاتل وروح البدائية حلت بدمه، ولا مكان في عالمه للحب. وماريا خالفت رغبة الاب واستسلمت بشكل رائع تحت الماء للحظات الحب مع حبييها بضحكات وابتسامات بدائية، وفي مشاهد متتالية قامت ماريا بارتداء ملابس نسائية، وقد احتفلت مع حبيبها بالزواج بينهم بشكل شخصي بينهم، في لقطات تعبر عن حب ابدي مع حبيبها، قام الاب بقتله، لتقوم بحرق المنزل وحرق نفسه، وينتهي الفيلم نهاية دموية عنيفة بدائية. فالوحشية تمكنت من الاب المزارع في كل شئ وليس فقط ضد العثمانيين، وانما تجا كل شئ حوله حتي بنته اعز ما يملك في عالمه البائس.

Visited 34 times, 1 visit(s) today