قراءة في أفلام مسابقة المهرجان الدولي للفيلم بمراكش
الدورة الثانية عشر (30 نوفمبر – 8 ديسمبر)
خمسة عشر فيلما كانت حصيلة الأفلام المشاركة في المسابقة الرسمية بالدورة الثانية عشر للمهرجان الدولي للفيلم بمراكش والذي شهدته المدينة الحمراء في الفترة من 30 نوفمبر لغاية 8 ديسمبر وضم اكثر من 80 فيلما في برامجه المختلفة.
توج الفيلم اللبناني “الهجوم” إخراج زياد الدويري بجائزة النجمة الذهبية اكبر جوائز المهرجان وهو فيلم متعدد الجنسيات حسب ما ورد في الكتالوج، فإلى جانب لبنان هناك قطر وبلجيكا ومصر ضمن أسماء الدول المشاركة في الإنتاج.
ضمت الجوائز ايضا جائزة لجنة التحكيم الخاصة التي تقاسمها كل من الفيلم الإيراني “تابور” اخراج وحيد مكليفيفار، والدنماركي “اختطاف” للمخرج توبياس لندلوم والذي سبق وأن فاز بجائزة الأسكندر الذهبي في مهرجان سالونيك للعمل الاول في دورته الأخير.
كذلك حصل الممثل الدنماركي بيتر لودفنسن على جائزة احسن ممثل عن نفس الفيلم وحازت الممثلة الأستونية الينا رينولد على جائزة احسن ممثلة عن دورها في الفيلم الأستوني “جمع الفطر” إخراج توماس هوسار.
وخرجت المغرب بلا جوائز رغم مشاركتها بفيلمين هامين الأول هو”يا خيل الله” إخراج نبيل عيوش والذي سبق وان شارك في دورة مهرجان كان الأخيرة والثاني هو “زيرو” إخراج نور الدين لخماري صاحب التجربة الشهيرة” كازانيجرا”.
وكانت المسابقة الرسمية قد ضمت الفيلم الهندي المميز”هوية” لكمال .ك.م. والكندي”شاحنة” ومن التشيك “براعم الزهور”، ومن فرنسا “الأسد الصغير”، ومن كوريا الجنوبية “محتوم”، ومن تايوان” لمسة ضوء”الذي عرض في افتتاح الدورة، ومن المانيا “ياولد”، ومن بريطانيا “اغنية لماريون”. وجاء أضعف افلام المسابقة الفيلم الكوبي “ليلة واحدة ” للمخرجة الوحيدة المشاركة ضمن أربعة عشر مخرجا لوسي ميلوي.
والآن صرت مبصرا
في تقديمه لفيلم الافتتاح “لمسة ضوء” قال المخرج التايواني الشاب تشانك جونك ان الفيلم يدور حول فتى أعمى العين لكنه يرى بقلبه وفتاة ترى بعينيها لكنها عمياء البصيرة. ونستطيع أن نجزم ان الكثير من افلام المسابقة هذا العام كانت تدور حول فكرة البصر والبصيرة بشكل كبير رغم تنوع الموضوعات والتيمات والأشكال السينمائية والدرامية للأفلام.
تتقاطع الأفلام التي تتعامل مع الفرضية التي نطرحها عبر عدة عناصر:
أولها: ان البطل او اللا- بطل غالبا ما يكون شخص على قدر من الأنانية او التمحور حول الذات او ضعف الأرادة أو التعامي او الأستغراق في قضايا ذاتية.
ثانيها: ثمة حادثة او موقف او لقاء أو شخص ما آخر يصبح هو السبب في بداية رحلة التبصر التي تقوم بها الشخصية سواء بإرادتها بحثا عن حقيقة واستكشافا لقضية وهربا من ازمة، أو بغير ارادتها كأن تجبره الحياة وتصاريف القدر على أن يتورط في تلك الرحلة التي تنتهي به إلى البصيرة المقدرة.
ثالثا : كل الأبطال المعمين أو فاقدي البصيرة يجب ان يقوموا برحلة مادية أو معنوية للوصول إلى البصيرة والرؤية التي هي ذروة التيمة الفكرية والدرامية للتجربة، هذه الرحلة تتنوع في اشكالها وتفاصيلها لكنها في النهاية اطار واحد لعملية التبصر والاكتشاف.
لمسة ضوء
في الفيلم التايواني “لمسة ضوء” يقدم لنا المخرج لمحات من حياة شاب أعمى منذ الطفولة لكنه موهوب في العزف على البيانو مما يجعل امه تقرر الحاقه بأكاديمية موسيقية دون أن يكون مؤهلا للتعامل معها، وهناك يتعرض للكثير من المضايقات النفسية تزيد في داخله من ترسبات الشعور بالعجز لكنه وسط كل هذا يلتقي بفتاة تعمل في مهنة التوصيل المنزلي بينما حلمها ان تصبح راقصة.
وعبر علاقتهما التي تنمو ببطء يتمكن الشاب من اجتياز شعوره بالعجز وتسري موسيقاه الراقصة في روح الفتاة التي تقرر ترك كل شئ وتحقيق حلمها، عملية التبصير هنا متبادلة ما بين الشاب والفتاة، فعلاقتها به تبصره بقوة روحه وموهبته وايمانه بذاته وعلاقته بها تجعلها تبصر مدى قوة الارادة التي تحتاجها كي تحقق حلمها.
في مشهد الذروة بالفيلم يذهب الشاب مع فرقته البدائية لمسابقة المواهب ويبدأ في العزف في مونتاج متوازي مع تقدم الفتاة لامتحان الرقص برقصة صامتة دون موسيقى وهكذا ينتقل الصوت من مشهد عزف الشاب إلى مشهد رقص الفتاة وكأنه يعزف لها ويستلهم من حركاتها موسيقاه، وكأنها هي الأخرى ترقص على موسيقاه البعيدة وعندما تلتقيه بعد ذلك عند صدور اول البوم له تقول له كنت اعلم انك تعزف لي ويقول له لقد كنت أراك.
وفي الفيلم الألماني “يا ولد” ليان أولي كليستر نتابع من خلال شاب وحيد عملية تشريح المجتمع البرليني من خلال مجموعة علاقات ولقاءات متتالية يطغى فيها الحوار بشكل كبير نظرا لان السيناريو يعتمد على تقنية رسم البورتريه المكثف للشخصيات سواء التي على علاقة بالشاب او التي يلتقيها مصادفة عبر رحلته مفلسا في الشوارع بعد ان فقد مورد رزقه وانقطعت عنه مساعدات ابيه وهجرته حبيبته.
انه لا يتبصر فقط بالواقع الأجتماعي لمدينته ولكنه يتبصر ايضا بواقعه في الحياة، ويستخدم المخرج موتيفة بصرية كلاسيكية وهي فكرة القطارات التي تمر امام الشاب وهو يراقبها يوما بعد يوم من شرفة شقته الجديدة، انها رمز قطارات الحياة التي تمر عليه دون أن يركب أحداها، قطار الحب وقطار الزواج وقطار العمل, حتى شقته الجديدة نجدها مليئة بالكراتين المعبأة التي لم يفضها بعد وكأن حياته كلها لاتزال في تلك الصناديق تحتاج إلى اخراجها واستعمالها.
وفي النهاية وبعد لقاء طويل مع احد السكاري في البار الذي اعتاد أن يسهر فيه يخرج العجوز السكير ويموت بعد أن روى للشاب قصة مؤثرة ويصبح موت العجوز طاقة نور تتفح في روح الشاب لكي يبصر نهايته المرتقبة لو استمر على تلك الحالة من الخمول والكساد الروحي, وينهي المخرج فيلمه بالشاب جالس يحتسي قهوة الصباح ويفكر في القطارات التي تمر امامه وكيف يمكن ان يلحق بها.
ولا ننس أنه قدم لنا الفيلم بالابيض والاسود حيث تغلب الرمادية على كل شئ وحيث يتطلب التبصر بالأشياء والمشاعر والعلاقات مجهودا أكبر نظرا لغياب الألوان. انها ليست فقط حياة باهتة وكئيبة لكنها ايضا تحتاج إلى تبصر من نوع خاص كي يعثر فيها على اللون.
جمع الفطر
وفي الفيلم الأستوني “جمع الفطر” للمخرج توماس هوسار ومن خلال كوميديا سوداء يكتشف السياسي الكبير كيف أن الحزب الذي يعمل من اجله يحاول استغلاله كأنه مجرد دمية او قطعة شطرنج دون اي اعتبارات انسانية او اخلاقية وذلك عندما يخرج لممارسة هوايته المفضلة في جمع الفطر من الغابات هو وزوجته وصديقه مطرب الروك فيضل الطريق ويضيع داخل الغابة لعدة ايام لا ينقذه فيها سوى لقاءه بشخص مختل يسكن الغابة في بيت عجيب.
صحيح أن الفيلم يحمل اسقاطات واضحة على المجتمع السياسي الأستوني لكنه يتمكن من الخروج إلى افق اوسع عبر شخصيات فيلمه التي تتحول إلى نماذج عن لعبة السياسة في المجتمعات الحديثة, وفي مشهد الذروة نرى السياسي الكبير بعد أن هاجمته صحف المعارضة نتيجة توريط الحزب له في قضية مالية واستغلالهم لمسألة اختفائه، في هذا المشهد الذي هو عبارة عن مؤتمر صحفي يعلن السياسي أنه ادرك عبر تجربته تلك أن جوهر السياسة لا يكمن في العبارات الفخمة عن خدمة الجمهور والنزاهة المالية والنفوذ ولكن جوهرها هو الأنسان, هو المواطن الذي يجب أن تكون له كل القيمة وكل الأهتمام, لقد شعر عندما ضاع في الغابة بشعور المواطنين العاديين الذين ينتظرون من يعثر عليهم كي يرشدهم إلى الطريق وهذه هي وظيفة السياسي الحق في اي وطن كان.
وفي الفيلم الكوري “محتوم” للمخرج لي دون كو يتبصر الشاب ضعيف الشخصية بحقيقة ان الأستسلام للشر وعدم القدرة على مواجهته قد يؤدي إلى عواقب وخيمة ولا نهائية لقد استسلم بحكم ضعف شخصيته وخنوعه في مراهقته وشارك في عملية اغتصاب فتاة بريئة مع اصدقائه وبعد عشر سنوات التقى هذه الفتاة بالصدفة اثناء دعوتها له ان يذهب للكنيسة وهو لا يؤمن بالله, وهناك لا يتعرف الشاب على الله فقط ولكنه يتعرف ايضا على خط سير القدر في الحياة.
انه يتبصر بقسوة ما للأفعال من عواقب وخيمة، لقد وقع في حب الفتاة التي اغتصبها قبل سنوات وشعر كم هي جميلة وكم ان روحها الرقيقة تحطمت من جراء الفعل القاسي الذي تعرضت له, وكيف أنها ترغب في قتل وحرق كل من فعل بها هذا, وفي لحظة تبصر هستيرية يرى الشاب نفسه كأنه المسيح وامامه اصدقائه الثلاثة عرايا يرجون تخفيف العذاب عنهم لكنه بدلا من ان يفدي خطاياهم يقرر تحطيمهم عبر عمليات قتل قاسية.
ولكنه يكتشف أن العقاب طالما نالهم على يديه يجب أن يناله هو الاخر فينهي حياته منتحرا بعد رحلة جحيمية من العذاب النفسي بعد أن ابصر عاقبه ضعفه وخنوع ارادته.
وفي الفيلم اللبناني “الهجوم” الفائز بالجائزة الكبرى للمهرجان، نتابع كيف يتبصر أمين الجعفري عامل الجراح الاسرائيلي من أصل فلسطيني بحقيقة وضعه كشخص لا منتمي ولا يحمل اي انحياز سوى لذاته عندما يكتشف تورط زوجته في عملية استشهادية وهي المسيحية الجميلة المحبة التي تعيش في مستوى اجتماعي مترف وليس لديها اية اسباب من وجهة نظرة كي تقوم بهذه العملية.
في رحلته للبحث عن الأسباب التي دفعتها لذلك يكتشف ما يمكن أن نطلق عليه ضرورة الانحياز اي ان زوجته انحازت إلى القضية، فالانحياز السياسي لا يحتاج أن تكون ذكرا كي تنال حور العين في الجنة ولا ان تكون مسلما كي تدخل الجنة ولا ان تكن عاقرا او مطلقا فتذهب كي تنتحر على حد تفسير ضابط الموساد في الفيلم لتصرف الزوجة، ان الصدمة التي يتلقها الزوج من موقف زوجته ثم رحلته في البحث عن الاسباب هي ما تبصره بحقيقة ان العالم اكبر من مجرد نجاحه المهني كجراح وان العداء الذي ظن انه تلاشى بينه وبين الإسرائيليين بعد أن صار العدو ينام على طاولة الجراحة في تل ابيب على حد قوله في البداية.
هذا العداء لا يزال مستمرا وكامنا تحت السطح فالأرض لم ترجع والوطن لم يسترد وهناك من لا يزالوا يؤمنوا وينحازوا ويضحون بأنفسهم من اجل اثبات موقف أو تغيير نظرة.. لقد قدمت الزوجة نفسها قربانا على مذبح العاطفة عندما قررت أن تقوم بتلك العملية ليست فقط من الناحية السياسية ولكن لأنها كانت تؤمن أن زوجها لن يتغير موقفه ولن ينحاز إلى قضيته دون أن يتلقى صدمة هائلة كتلك، تفتح عينيه على الواقع والحقيقة انه عدو يعيش بين اعداء.
موت الأب
وفي الفيلم المغربي “زيرو” للمخرج نور الدين لخماري نتابع شخصية الضابط زيرو الذي يعيش هو الاخر لامنتميا ولا منحازا لشئ سوى لمشاعر البنوة التي يكنها لابيه المقعد وزجاجة الخمر التي تنسيه شعوره بالضياع والأقيمة اي كونه زيرو=صفر، هذا اللابطل العاجز عن الفعل او تغيير اي شئ من حوله والغير قادر حتى على ممارسة مهنته بشكل طبيعي حين يطلب منه البحث عن فتاة قاصرة جاءت لتعمل في المدينة الكبيرة وضاعت بين جنباتها، هذا الزيرو يتلقى صدمتين متتالتين هما موت والده وفقدانه الطبيبة التي احبها وصارت اول امرأة تدخل إلى روحه البائسة.
فرغم كل ما حاول تقديمه إلى ابيه إلا أن الأب يموت لانه لم يكن راغبا في الحياة على كرسي متحرك بعد أن كان اشهر لاعب كرة في المغرب، أما الحبيبة فتدخل مع زيرو في قصة حب مشبوبة بعاطفة وشهوة وجنس ثم يراها في مشهد مؤثر وقد عادت إلى خطيبها الأول مرة اخرى هاتين الصدمتين المتتالتين تفتحان عيونه على واقعه الخرب والبائس فيقرر أن ينهض من خموله ليطهر هذه المدينة عبر مهاجمة وكر شبكة الدعارة الذي يستقطب الفتيات الصغيرات ويحولهن إلى فراشات ميتة في بيوت زجاجية تماما مثل راسم الوشوم المريض بالمازوخية والتي تستخدمه شبكة الدعارة في وشم الفتيات برسوم الفراشات نزولا على رغبة الزبائن من المسؤلين الكبار واصحاب النفوس المريضة.