“رحلة الزمن”.. تأمل صوفي في بداية ونهاية العالم

Print Friendly, PDF & Email

لم يرق بعض ما عرض من أفلام في مسابقة مهرجان فينيسيا السينمائي الـ 73، إلى مستوى العرض في مسابقة مهرجان كبير بهذا الحجم والتاريخ، فهناك ما أدرج بالمسابقة حسب مقتضيات التواجد “الضروري” بأكثر من فيلم من جانب الدولة المضيفة إيطاليا التي تتمتع بسينما ذات تاريخ طويل، وبعدد كبير من الأفلام التي تنتج سنويا، لكن الأفلام الإيطالية في المسابقة الرسمية لا ترقى بالقطع إلى مستوى التنافس. ولاتزال أفضل الأفلام الإيطالية تأتي بكل أسف، من مخرجي الجيل الأسبق ومعظمهم تجاوز السبعين من عمره، باستثناء باولو سورينتينو (46 سنة) الذي عرض الجزءان الأول والثاني من أول مسلسل تلفيزيوني يخرجه وهو “البابا الشاب” خارج المسابقة في فيلم واحد يستحق أن نخصص له مقالا منفردا.

ولم يبرز ما يستحق التنويه كثيرا من بين الأفلام الأميركية السبعة المشاركة بالمسابقة (حتى الآن) باستثناء فيلم “حيوانات ليلية” لتوم فورد الذي يتميز بمحاولة لخلق بناء جديد في السرد، وفيلم الافتتاح “لا لا لاند” وهو من أفضل ما عرض من أفلام، ولكن ربما يكون الأقرب إلى الحصول على إحدى الجوائز الرئيسية إن لم يكن “الأسد الذهبي”، هو الفيلم الأرجنتيني البديع “مواطن متميز” الذي اشترك في إخراجه مخرجان هما ماريانو كوهن وغاستيون ديوبارت، وهو عمل يستحق أيضا وقفة خاصة. 

رحلة الزمن

غير أن “المفاجأة المتوقعة” – إذا جاز التعبير- جاءت مع عرض فيلم “رحلة الزمن” للمخرج الأميركي تيرنس ماليك (72 سنة). هذا هو الفيلم الثامن لماليك خلال 43 سنة، وقد صرح غير مرة بأن فيلمه هذا اقتضى منه العمل لمدة 40 سنة، منذ أن كان الفيلم فكرة على الورق، إلى أن انتهى منه أخيرا وأصبح جاهزا للعرض في نسختين: الأولى نسخة قصيرة (40 دقيقة) بتعليق صوتي من الممثل براد بيت، والثانية نسخة طويلة (90 قيقة) بتعليق صوتي من الممثلة كيت بلانشيت، وهي النسخة التي عرضت للمرة الأولى عالميا في مسابقة مهرجان فينيسيا في السابع من الشهر الجاري.

ماليك لا يظهر في مهرجانات السنيما العالمية، ولا يشارك في مؤتمرات صحفية ولا ندوات لمناقشة أفلامه، ولا يدلي بمقابلات تليفزيونية، وهو بالتالي غير متواجد في فينيسيا، فهو يفضل ان يترك أفلامه تتحدث عن نفسها وتتحدث عنه أيضا. إنه في دور الغائب – الحاضر هذا يتشبه بإحدى صفات “الخالق” العظيم الذي لا تراه لكنك ترى خلقه ومخلوقاته.

تيرنس ماليك الذي تربى على فلسفة هيدغر الباحث عن ماهية الوجود من خلال خوف الإنسان من العدم أي الموت، مهموم بالبحث في المصير الإنساني، في علاقة الإنسان بالكون، في مقاربة الإنسان بالطبيعة، وتصوير عجزه عن الإحاطة بأسرارها، وكثيرا ما يصور أيضا غضب الإنسان واحتجاجه على القدر بقوة وقسوة، في نوع من الاندفاع الانتحاري الذي يؤدّي إلى الهلاك..

يمزج ماليك في أفلامه، بين التسجيلي والروائي، وبين الدرامي والواقعي والسوريالي، في سياق شعري “تأملي” ذهني، كما أنه مغرم بتصوير علاقة الإنسان بالطبيعة التي يراها أقوى من الإنسان .وليس من الممكن وصف فيلمه الجديد “رحلة الزمن” بأنه مجرد “فيلم وثائقي” أو “تسجيلي”، بل ولا يصلح حتى وصفه بأنه فيلم “غير خيالي”. صحيح أن يتضمن الكثير من المشاهد التسجيلية والوثائقية لكنه يجمع بين الوثائقي (مشاهد محددة يعود فيها بالصورة السينمائية على الشاشة إلى المقاييس القديمة أي بنسبة (العرض إلى الارتفاع) 1 إلى 1، قبل أن يرتد إلى المنسوب الحديث لصورة الفيلم أي 1.85 إلى 1) وبين التسجيلي (يتضمن مشاهد تسجيلية حيث يتدخل المخرج فيما يصوره)، ولكن الفيلم بأسره عمل تشكيلي فني رفيع يجمع بين التسجيلي والخيالي وغير الخيالي والوثائقي، ويصل في الكثير من لقطاته إلى السوريالية. ولاشك أن بعض لقطات الفيلم تذكرنا بالمشهد الشهير الذي يستغرق نحو 20 دقيقة من فيلم ماليك “شجرة الحياة” الذي فاز بالسعفة الذهبية في مهرجان كان 2011، وهي لقطات اختارها ماليك مما كان قد صوره لحساب فيلمه هذا “رحلة الزمن”.

رحلة الخلق

ولعل المعنى الأقرب إلى مغزى الفيلم ومحتواه الفلسفي هو “رحلة الخلق” من المنشأ إلى المنتهى، فهو أفضل من “رحلة الزمن”، فهذا ما يصوره ماليك في فيلمه الذي يتضمن الكثير من التكوينات البصرية الممتعة، واللقطات الفريدة من عالم الحيوان، من عالم الأسماك والكائنات البحرية التي تعيش تحت سطح الماء، ممزوجة بموسيقى تعتمد على نغمات قريبة من الابتهالات الدينية والأناشيد الكنسية، غير أن ماليك رغم تأمله العميق في معنى الوجود يقف أمام الطبيعة خاشعا، غير قادر على سبر أغوارها، وهو يعبر عن هذا العجز من خلال التعليق أو بمعنى أدق- تلك المناجاة التي تتردد على لسان كيت بلانشيت، وهي تناجي الطبيعة، تخاطبها مباشرة معبرة عن ضمير ماليك نفسه عندما تستخدم كلمات مثل: مثل “من أنت؟ يامانحة الحياة.. ياصانعة الضوء..  إنك تمنحين دون أن تسألي.. وتجددين شكلك دوما.. أماه.. إنك تخلقين ثم تدمرين ثم تخلقين وتجددين مرة أخرى؟ لماذا أنت صامتة؟ هل تخليت عن أبنائك؟

وهكذا في سياق فيلم تيرنس ماليك الباحث عن حقيقة الوجود، المؤمن بوجود القوة العظمى الخارقة الكائنة فيما وراء الطبيعة، لا ترد كلمة “الله” مرة واحدة في سياق الفيلم، بل إن المناجاة كلها تتجه للطبيعة، فما الذي وصل إليه ماليك وهو يصور قصة الكون من بدايتها، من أول الانفجارالعظيم إلى التفاعلات الكوكبية التي تتشكل في لقطات متعاقبة بألوانها المذهلة، ثم إلى كوكب من صحراء جرداء مهجورة نائية مليئة بالبراكين ثم تأتي الحيوانات الأسطورية (هناك مشهد لديناصور ووليده) ثم يظهر الإنسان البدائي ويتشاجر مع أقرانه من أجل الطعام، ثم يكتشف الماء والزراعة ثم ينحت البيوت في الجبال، ثم يعمر العالم ويشيد المدن العظيمة بقلاعها العملاقة وأضوائها المتألقة.

أثناء تصوير أحد المشاهد

تتداخل في الفيلم بعض المشاهد الوثائقية المستمدة من الواقع لكنها تبدو كما لو كانت تأسى لمصير البشرية وما بلغته من تدهور: مظاهر الكارثة الاقتصادية، الجوع، البحث في القمامة (في الهند مثلا)، ثم الثورة والاحتجاج والصراخ ولو على نحو غامض (كما في مشهد لجانب من ميدان التحرير أثناء انتفاضة يناير 2011). ويبقى المعنى الأكثر رسوخا هو أن الإنسان بحماقته يساهم في تدمير كوكبه وتدمير ذاته من خلال اعتدائه على أمه التي صنعته، أي على الطبيعة.

سينما خالصة

هذه المعاني تتجسد في الفيلم من خلال لقطات ومشاهد نراها تارة من زاوية مرتفعة، من عين طائر، من طائرة تحلق، تنتقل بنا من حال إلى حال، ومن مكان إلى آخر في سلاسة وانسيابية وايقاع شعري يمتزج بالموسيقى الكلاسيكية التي ترتفع مع بلوغ المشهد ذروته. وفي لقطة ذات دلالة خاصة، تنطلق قذيفة، تعبر سماء الكوكب، تخترق الشهب وتنفجر في الأفق ليتحول الكوكب إلى صحراء مليئة بفوهات تتصاعد منها الأبخرة، والكاميرا تحلق مرة أخرى، ترتفع فوق المأساة ترصد حجم ما سببه الإنسان من دمار، بينما الطبيعة تتلقى الضربات صامتة، فهي قادرة على إعادة الخلق والتجدد. ورغم كل تشاؤمه ونبءته بنهاية العالم، إلا أن ماليك ينتهي فيلمه بنغمة متفائلة تؤكد على أن بوسع الإنسان أن يخلق عالما جديدا بالحب، وبالحب وحده.

الملاحظة السلبية أن الفيلم كان يمكن أن يستمر هكذا من خلال آلاف اللقطات، لساعات وساعات بلا نهاية فبناؤه الفني يفتقد إلى التوازن الدقيق المحكم، وانتقالاته تبدو مفاجئة، ولقطاته غامضة في الكثير من الأحيان، وكان يمكن أن يقسم ماليك فيلمه إلى فصول محددة، كما أن التعليق الصوتي يعاني من التكرار وربما كان من الأفضل الاستغناء تماما عنه وترك الصور تتحدث عن نفسها، لكن ماليك شاء أن يجسد الصوت الإنساني ويجعله صوت العقل أو صوته الشخصي وهو يتضرع قبل النهاية المحتومة كما يرى.

رغم كل نواقصه، ينتمي فيلم “رحلة الزمن” إلى “السينما الخالصة” التي تعتمد على الصورة والمونتاج والحركة والموسيقى، والمرء يشاهد الفيلم كما لو كان يشاهد لوحة فنية تتجدد أمامه باستمرار، تخرج منها لوحات أخرى، تفور بالحركة والحياة، تتناغم اللقطات حينا، وتتنافر حينا آخر، ثم تتصادم لتعود إلى هارمونيتها، من خلال المونتاج، الوسيلة الأكثر تأثيرا في السينما والتي تميزها عن غيرها من الفنون. ولاشك أن السينما الخالصة تقتضي مشاهدا من نوع آخر، لا يلهث وراء الحبكة ولا يبحث عن الدراما المباشرة، بل يكتفي فقط بالتأمل والاستمتاع.

(ينشر بالاتفاق مع جريدة “العرب” الدولية)

Visited 40 times, 1 visit(s) today