“قتل غير قانوني” الفيلم الوثائقي الجديد عن اغتيال الأميرة ديانا
أمير العمري
جاء الفيلم التسجيلي الطويل (85 دقيقة) “قتل غير قانوني ” The Unlawful Killing الذي عرض مؤخرا على هامش مهرجان كان السينمائي، بمثابة قنبلة نسفت كل ما ظهر من قبل من أفلام وتحقيقاتتليفزيونية حول الموضوع الذي يتناوله الفيلم بالتحليل والعرض والتعليق، وهو مقتل الأميرة ديانا وصديقها عماد الفايد، ابن الملياردير المصري محمد الفايد، في حادث سيارة داخل نفق بالعاصمة الفرنسية في 31 أغسطس/ آب 1997.
الفيلم يسبح في الاتجاه المضاد تماما للرواية الرسمية الشائعة التي خلصت إلى أن مقتل ديانا كان نتيجة حادث اصطدام لسيارتها المرسيدس بسبب أن سائقها هنري بول كان قد أفرط كثيرا في الشراب، ومطاردة المصورين الصحفيين للسيارة داخل نفق آلما الشهير في باريس، مما أدى إلى اصطدام السيارة بأحد الأعمدة السفلية داخل النفق.
يعتمد هذا الفيلم على البناء الحديث للفيلم التسجيلي الذي يقوم على الطرح المضاد استنادا إلى الأبحاث العميقة والاستجوابات المكثفة للكثير من الأطراف المحيطة بالقضية، التي تعد عن حق، إحدى أكبر قضايا الرأي العام في عالمنا، والتي كلفت دافعي الضرائب البريطانيين عدة ملايين واستغرقت ستة أشهر كاملة وملأت تفاصيلها آلاف الصفحات. كما يعتمد أيضا على التمثيل وإعادة تجسيد الحدث وعلى الرسومغير أن الفيلم الذي أخرجه الممثل والمخرج البريطاني كيث ألين Keith Allen وجاء نموذجيا في عمقه وثرائه وقدرته على الإمتاع، ينقسم إلى عدة أقسام، يحمل كل قسم منها سؤالا محددا أو عنوانا من العناوين المثيرة للاهتمام، ويقدم بحثا تفصيليا في العديد من الجوانب التي يرى المخرج أنها لم تلق اهتماما يليق بخطورتها وأهميتها من جانب القاضي الذي يتهمه الفيلم بوضوح بالانصياع لرغبة “المؤسسة” في التعمية على القضية وتغطيتها وصولا إلى الحكم بتبرئة تلك المؤسسة نفسها من القتل العمد في حين أن هناك الكثير من “الأدلة” كانت تستدعي المتابعة أو على الأقل سبر أغوارها وتقديم إجابات شافية عنها إلى الرأي العام.من هذه الأسئلة التي يطرحها الفيلم مثلا ويضعها فوق عناوين فصوله:
هل صحيح أن ديانا كانت حامل من دودي الفايد، وأنها بالتالي دفعت حياتها بسبب رفض العائلة المالكة وعلى رأسها الأمير فيليب دوق إدنبره وزوج الملكة إليزابيث الثانية، الرضوخ لأدنى احتمال لأن يأتي أخ غير شقيق لولي العهد البريطاني لأب “مسلم”؟
وهل كانت ديانا تمثل خطرا حقيقا على وجود العائلة المالكة أو النظام الملكي في بريطانيا، ولماذا كانت تحركاتها مراقبة من جانب المخابرات الأمريكية ولماذا رفضت تلك المخابرات الكشف عما في سجلاتها من معلومات حول الأميرة، وما الذي كانت تعلمه عن وجود “مؤامرة لقتلها”، وما السبب الذي جعل المحققين الفرنسيين يقومون بتدمير العينات التي أخذت من دم السائق هنري بول الذي قيل إنه كان ثملا ليلة الحادث رغم ما ثبت بالأدلة كما يظهر الفيلم ، من انه لم يتناول أكثر من مجرد قدحين من الشراب ليلة الحادث أي أقل كثيرا من الحد الذي يبيحه القانون الفرنسي في حين أن التقرير الرسمي ذكر أنه تناول كمية من المخدر والخمر كانت كفيلة بتخدير “جمل”، بل وجاء التقرير الأول لتفتيش منزل السائق يقول انه لم يتم العثور سوى على كمية ضئيلة للغاية في منزله من الخمور، ثم بعد أن أعادت الشرطة تفتيش المنزل بناء على طلب المحكمة، قالت في تقريرها الثاني إنها عثرت على كميات تكفي لافتتاح حانة كاملة للمشروبات الكحولية، ومن أين جاءت هذه المشروبات بعد وفاة صاحب المنزل؟ ولماذا رفضت الشرطة الفرنسية متابعة خيط يشير إلى وجود سيارة من نوع “أونو” بيضاء كانت داخل النفق وقيل إنها كانت تطارد سيارة المرسيدس واصطدمت بها مما أدى لوقوع الحادث (حسب ما ذكره الشهود) ولماذا انصب التركيز على المصورين الصحفيين بدلا من البحث عن صاحب هذه السيارة، وقد ثبت في النهاية أنه كان عميلا للمخابرات الفرنسية، وقد قتل بعد ذلك في حادث قيل أنه انتحار بإشعال النيران في سيارته، في حين يثبت الفيلم أنه عثر على رصاصتين في رأسه، فهل يعقل كما يقول التعليق الذكي في الفيلم، أن يكون الرجل قد أطلق رصاصتين على رأسه ثم أشعل النار بنفسه في السيارة؟
لماذا قامت الشرطة الفرنسية بتنظيف مكان وقوع الحادث بسرعة قبل الانتهاء من رفع كل الأدلة الجنائية المحتملة، وهل حدث ذلك لأنها كانت تريد إخفاء الأدلة أو التخلص منها؟ومن أهم النقاط التي يتوقف عندها الفيلم ويوليها حقها من الاهتمام، تلك المتعلقة بتعطل (أو تعطيل) كاميرات المراقبة داخل النفق في حين أنها تعمل عادة بلا توقف، وهل تم هذا العطل عمدا، وأيضا الاستعانة بطبيب (بريطاني) بعد وقوع الحادث للتعامل مع حالة ديانا ولم تكن قد فارقت الحياة بل أصيبت فقط في الحادث، وقد قام هذا الطبيب بإبعاد الجميع من حولها ورفض نقلها إلى المستشفى فظلت تنزف على الأرض بعد إصابتها ولم تنقل إلى المستشفى القريبة سوى بعد مرور أكثر من 80 دقيقة، أي بعد أن أصبح مؤكدا أنها فارقت الحياة.
أما أخطر النقاط التي يحقق فيها الفيلم فهي دور رئيس الشرطة البريطانية الذي قام بالإشراف على التحقيق الجنائي، وكيف انه أخفى (واعترف بهذا لاحقا) أدلة تتعلق بوجود تسجيلات تليفونية صوتية ورسائل خطية من ديانا إلى أكثر من صديقة مقربة لها تتحدث فيها عن الطريقة التي سيتم بها قتلها بل وتشير تحديدا إلى الأمير فيليب والأمير تشارلز باعتبارهما وراء التخطيط للتخلص منها. ويوضح أيضا كيف أن الرئيس التالي للشرطة البريطانية ظل يخفي أيضا نفس الأدلة لمدة ثلاث سنوات أخرى بعد ذلك، وكيف أنه بدوره اعترف فيما بعد بما فعله وهو أمر يتعارض مع القانون، ودون أن تتم مساءلتهما قضائيا، بل على العكس تماما، حصلا من الملكة على لقب “لورد” أي تم تكريمهما رسميا بعد تقاعدهما!
ويقول الفيلم أيضا إن الحملة الدولية التي كانت تتزعمها ديانا للتخلص من الألغام المضادة للأفراد مما كان سيؤدي إلى خسائر هائلة لشركات صنع ألغام في أمريكا وبريطانيا والغرب عموما، ربما كانت أيضا وراء تعاون أجهزة مخابرات دولية (الأمريكية تحديدا والفرنسية ثانيا) في المساعدة على التخلص من ديانا، والتخلص منها في ذلك التوقيت تحديدا، أي قبل 19 يوما من انعقاد أول مؤتمر دولي كبير للتخلص من الألغام في أوسلو، وكان من المقرر أن تحضره ديانا، ولم يحضره أحد تقريبا من الزعماء الغربيين.
يعتمد الفيلم على شكل شديد الجاذبية يقوم على ظهور المخرج- كممثل يؤدي دورا داخل الفيلم هو دور القاضي الممثل للضمير الشعبي- الذي يحاسب ويطرح التساؤلات، ويظهر أمام من يمثلون الأطراف المختلفة وأهمهم بالطبع القاضي الذي حكم في القضية أو الذي ساق المحلفين للحكم فيها بما لا يتعارض جذريا مع الرغبة العليا من جانب المؤسسة البريطانية (والمقصود بالمؤسسة هنا، القصر الملكي والمخابرات والحكومة بل وأجهزة الإعلام التي يتهمها أيضا بالتستر رغبة منها في عدم إغضاب القصر) كما يكشف تناقض وزيف الكثير من الشهادات التي قدمها كبار المسؤولين، ومنهم على سبيل المثال، السكرتير الخاص للملكة إليزابيث الذي قال أمام المحكمة إنه كان في إجازة رسمية من العمل بالقصر منذ ما قبل وقوع حادث مقتل ديانا إلى ما بعد دفنها بأسبوع، وهو ما يرد عليه الفيلم ويكشف كذبه باستخدام مذكرات اليستر كامبل المستشار الصحفي لرئيس الحكومة البريطانية الأسبق توني بلير (وقت وقوع الحادث) وهي المذكرات التي صدرت في أوائل عام 2011 والتي يتطرق فيها كامبل بالتواريخ، إلى الاجتماعات التي تمت بينه وبين سكرتير الملكة للتنسيق بينهما، أي بين القصر والحكومة، في التعامل مع الحادث وما نتج عنه من بلبلة، وذلك في نفس الفترة التي يقول الرجل إنه كان في إجازة وقتها مما يؤكد كذبه!
ويستعين الفيلم بأخصائي في الطب النفسي الحديث، ومسؤولين سابقين في المخابرات يؤكدون استخدام المخابرات للقتل، وذلك في تناقض مع شهادة رئيس المخابرات في المحاكمة الذي زعم أن المخابرات البريطانية لم تقتل أحدا منذ 50 سنة.
ويستعين المخرج أيضا برأي السياسي البريطاني المخضرم توني بن صاحب الموقف الصارم في نقد المؤسسة الملكية، وبأحد دعاة الجمهورية في بريطانيا، وبمؤلف أصدر كتابا عن القضية، وبقاض سابق، وصديقة مقربة للأميرة ديانا، ويوثق أيضا لشهادة مصورة مع الممثل الأمريكي الراحل توني كيرتس الذي كان صديقا لدودي الفايد (عمل الفايد لسنوات في مجال الإنتاج السينمائي وأنتج 4 أفلام بارزة في السينما البريطانية منها “عربات النار” عام 1984 وكان مغرما بالتمثيل) كما يكلف مخبرا خاصا بمتابعة طريقة تغطية الصحفيين البريطانيين للحادث الذي يظهر في الفيلم ليقدم شهادته عليهم التي يؤكد فيها أن أهم هؤلاء الصحفيين وهو المراسل المتخصص في تغطية الشؤون الملكية لتليفزيون بي بي سي كان ينام أثناء متابعة التطورات، ولم يكن مهتما بالبحث في الأفكار الأخرى المضادة أو الاحتمالات الأخرى لأسباب وقوع الحادث، بل يؤكد أن كل من كان يطرح تساؤلات في هذا الإطار كان ينظر إليه باعتباره شخصا متطرفا، ويتم استبعاده تماما واستبعاد ما يطرحه.
ويقول الفيلم إن رجال الصحافة أدوا أدوارا لا تتعارض مع مصالح أصحاب الصحف التي يعملون لها، بل يثبت أنهم جميعا، بما في ذلك البي بي سي الذي يدعي الحيادية، قد انتهوا إلى إدانة المصورين الصحفيين (البابارتزي) في القضية الذين كانوا يتابعون ديانا أثناء وجودها في فندق ريتز في باريس، رغم أن الحكم النهائي الذي أصدره المحلفون جاء على الرغم من كل ما تعرضوا له من ضغوط، خاليا من أي إشارة إلى “الباباراتزي”، بل ذكر الحكم بالحرف، أن مصرع ديانا وعماد الفايد كان نتيجة “قتل غير قانوني” ulawful killing (وهو عنوان الفيلم) بما يعني أنه لم يكن نتيجة “مطاردة الباباراتزي” لها كما ذكرت كل وسائل الإعلام وكما أصبح مستقرا لدى الرأي العام كذبا (وهو ما يصوره ويوثقه الفيلم بشكل مثير للإعجاب حقا)، بل نتيجة لجريمة قتل وقعت خارج القانون، فليس من الممكن أصلا أن توجد جريمة قتل في إطار القانون. ولكن على الرغم من ذلك، لم يترتب على ذلك الحكم تقديم أي شخص للعدالة كما يقول الفيلم.
ويتحدث في الفيلم أكثر من مرة ضابط المخابرات البريطانية السابق ريتشارد توميلسون الذي يؤكد أنه كانت هناك خطة بريطانية لاغتيال زعيم صرب البوسنه بطريقة مشابهة باستخدام أضواء قوية جدا تصدر من جهاز معين داخل سيارة تتابع سيارة الشخص المستهدف.
ولعل من أشد الاتهامات التي يوجهها الفيلم للعائلة المالكة بقسوة، اتهامها بالعنصرية، ويقدم الفيلم وثائق نادرة مصورة يقول إنها تعرض للمرة الأولى في السينما، للأمير فيليب وهو شاب صغير في ألمانيا، عندما كان عضوا في الحزب النازي، وصديقا مقربا من أعضاء بارزين في الحزب وفي الشرطة السرية النازية (الإس إس) ويقتبس من تصريحاته تصريحا يقول فيه ذات مرة (إذا كان ممكنا أن أعود إلى الحياة في شكل آخر مستقبلا فأود أن أعود في شكل فيروس يساهم في القضاء على أكبر عدد من البشر من أجل كبح مشكلة الزيادة السكانية في العالم)!
يستخدم المخرج الأغاني والمقابلات المصورة والتسجيلات التليفزيونية (وهي مادة مصورة هائلة تم اختيارها بعناية فائقة) كما يستخدم مادة فوتوغرافية من مكان الحادث ومنها صورة نادرة لديانا جريحة على المقعد الخلفي، ويعيد تجسيد المحاكمة باستخدام ممثلين، كما يستخدم التعليق الصوتي بلسان المخرج نفسه الذي يخاطب المشاهدين بشكل مباشر على طريقة المخرج الأمريكي الشهير مايكل مور، ويدير مقابلة مباشرة مع محمد الفايد بعد أن باع محلات هارودز وانتقل للعيش في الريف الانجليزي إلى جوار الضريح التذكاري الذي أقامه لجثمان ابنه في ضيعة يمتلكها، وفي هذه المقابلة يصر الفايد على أن الأمير فيليب زوج الملكة، وراء التخلص من ديانا ودودي، لأنه لم يكن من المتصور أن يقبل باحتمال أن تحمل ديانا في ابن من رجل مسلم ومن أصل مصري، ويتهم العائلة المالكة بالعنصرية.
وقد لقيت عروض الفيلم في السوق الدولية لمهرجان كان اهتماما كبيرا من جانب الصحفيين والموزعين. ومن المعلوم كما ذكر مخرج الفيلم، أن الفيلم لن يوزع في بريطانيا بسبب الاعتراضات العديدة على ما يرد فيه إلا إذا قام باستبعاد نحو 85 لقطة منه كما يقول، بل إن التقارير الصحفية البريطانية التي نشرت عن الفيلم اتهمته بالتبني الكامل لنظرية المؤامرة التي يرددها الفايد، وأشارت إلى أن محمد الفايد وراء إنتاج الفيلم وأنه تكلف مليونين ونصف مليون جنيه إسترليني.
ولكن، ومن الناحية الفنية ورغم كل ما يمكن أن يقال، ومن زاوية الإخلاص للسينما التسجيلية الحديثة، يمكنني القول إن الفيلم جاء موفقا للغاية في طرح قضيته، بل وممتعا لكل من يريد أن يتابع بتجرد وموضوعية.. بعيدا عن الأحكام المسبقة القاصرة.