“شجرة الحياة” لتيرانس ماليك: البحث المعذب عن الله

Print Friendly, PDF & Email

“شجرة الحياة” فيلم تيرانس ماليك يدخل ضمن قائمة الروائع الخالدة للسينما العالمية بعد أن حاز من خلاله على السعفة الذهبية في مهرجان كان الدورة 64 وهو عمله الخامس في الإخراج السينمائي بعد رحلة استمرت أربعين عاماً في السينما الأمريكية.

 لكن أي لقب يمكن أن نطلق على تيرانس ماليك كاتب السيناريو المميز، أم المخرج السينمائي المحترف، أم الفيلسوف المتأمل، أم الشاعر المتأرجح بين القسوة والرهافة، الرجل العظيم والخجول الذي يتجنب كاميرات الاعلام، أنه المبدع الكبير الأميركي من أصول لبنانية، والذي قدم لنا في فيلمه الأخير شجرة الحياة تحفة فنية إنسانية خالدة ستشهد طويلاً على عظمته وتواضعه في آن واحد، حيث يعيد تأمل دور الإنسان المعاصر الذي ربما تمادى كثيرا على الطبيعة وعلى خالقه ليضعه في مكانه الطبيعي بين مجمل أحياء الطبيعة وعناصرها، إنسان ماليك الكثير التساؤل والذي يبحث عن الإيمان بالله ويتمرد عليه قليلا محاولا مجادلته واستجوابه ومعاتبته، ربما كان هذا واضحاً من الخلفية الفكرية التي اختارها ماليك وهي سفر أيوب من العهد القديم أيوب الإنسان المؤمن لكن الذي يبتلى بالمتاعب والمصائب التي تجعله يتساءل لِمَ يقع عليه ما يقع طالما هو عبد الله المؤمن فيجادل الرب ليعرف خطيئته ثم يستسلم للقدرة الإلهية بفعل الإيمان، الأسئلة التي ستدور على ألسنة أبطال الفيلم.

في “شجرة الحياة” يجري كل مشهد بسلاسة وعذوبة طبيعية الأحداث العظيمة كخلق الكون وتشكل كوكب الأرض، تشكل كل شيء بدئي المياه والسماء و الجبال و الوديان و الأنهار و الغابات و البحار والمحيطات … الحيوانات الأولى ثم العملاقة التي مشت قبل ملايين، و آلاف السنين على الدروب نفسها التي يمشي فيها الإنسان منذ ظهوره، دورة الحياة الكونية والأرضية والبشرية مصاغة كقصيدة شعرية موسيقية تأملية بالغة الروعة.

الله والإنسان

الروي الذاتي القريب من المناجاة أحد أهم عناصر جماليات “شجرة الحياة” حيث تتناوب الأصوات في الحديث عن هواجسها صوت الله من خلال بعض آيات افتتح بها ظلام الشاشة للنور من “سفر أيوب” حيث يخاطب الله  أيوب الإنسان  “أين كنت عندما قمت أنا بتأسيس الأرض؟… عندما كانت نجوم الصباح تغني سوياً… وبينما كانت كواكب السماء تترنم معاً وملائكة الله تهتف بفرحٍ” سفر أيوب ج38 آية4،7 .اعتمد تيرانس ماليك في رؤيته الفكرية والتأملية على سفر أيوب في معالجة الألم الوجودي والتساؤلات العميقة التي ترهق الإنسان والتي تبدو واضحة في مخاطبة الله من خلال مناجاة الأم جيسيكا شستن والابن البكر الذي يلعب دوره وهو كهل شون بين وفي إيقاع رواية الواعظ في الكنيسة حيث نلاحظ كيف أن الشريط الصوتي ينساب متدفقاً بعذوبة كخلفية للشريط البصري الذي تجري فيه الأحداث اليومية التي تسجل لحياة أسرة أمريكية متوسطة الحال في خمسينات القرن الماضي، الفترة الأكثر قرباً من وجدان تيرانس ماليك فترة شبابه الأول الفترة التي تشكلت فيها تأملاته وهواجسه الوجودية والإيمانية.

ويبدو واضحاً عند معظم شخصياته القلق الدائم تجاه إمكانية تحمل مسؤولية كونها مخلوقات الله التي تخلفه على الأرض وهل ستكون جديرة بهذه المسؤولية وهل ستسير على الصراط المستقيم؟ هل هي صالحة كفاية كما يحب الرب أن تكون، ثم مناجاتها لله حول الألم الإنساني الذي تشعر به والذي يهدد أمنها النفسي وسعادتها ثم السؤال الكبير حول “الموت” ولماذا نفقد الأحباء؟  

كما عندما تناجي الأم الرب عند موت ابنها قائلة:

  • أين أنت؟
  • هل كنت تعرف؟
  • من نحن بالنسبة إليك؟
  • أجبني؟
  • نحن نبكي لك!
  • روحي
  • ابني
  • أنصت إلينا
  • أنر حياتي

الأب “براد بيت” سيقوم بواجبه الأبوي الشديد الحساسية مع ثلاثة أبناء صبية أقوياء عليه تعليمهم أساليب السلوك الصحيح وكيفية تخطي الصعاب وكيفية مواجهته هو أولاً، ثم مواجهة خيارات الحياة ومتاعب النضج، الوالد القاسي الصلب والحنون الذي لم يكن راضياً عن خيارات حياته والذي يرى كيف تدار الأمور وكيف يحظى الأشخاص الأقل موهبةً واخلاصاً في العمل بالثروة بينما يبقى المجتهدون على خبز يومهم وكفافهم يتذمر من القسمة غير العادلة وكمعظم الرجال في الخمسينيات كان يفرغ طاقته السلبية في انتقاد زوجته، الأم التي كانت أقرب للصبية بحنانها الأمومي غير المتناهي وطفولتها التي تعيشها معهم مع تحملها مسؤولية تربيتهم وتنظيم أمور بيتها، كما كان الأب ينتقد أولاده من غير مبرر فعلي أحياناً كمشهد المائدة عندما يطلب منهم الصمت تماماً بينما يتحدث هو ويطلب منهم الإجابة بهز الرأس لكن الولد الأوسط  الذي سيموت لاحقاً بسن اليفاعة يهمس فيثور الأب غاضباً لاعتقاده أن أولاده يتمردون عليه.

 مشاهد الأب وأولاده في غاية الروعة تعليمهم ولعبه معهم وتحديهم ثم غضبه من نفسه ومنهم، ومن أجمل المشاهد ولادة أحد أطفالهما، وتفقده وهي صورة “بوستر الفيلم” قدم الطفل الرضيع وهي محاطة بكفي أحد الوالدين بخطوطها الصغيرة التي  تبدو كخطوط الحياة والتي قد تقرأ كخطوط الكف وربما كان بوستر هذا الفيلم من أجمل بوسترات الأفلام الخالدة في تاريخ هوليود والسينما الأمريكية. 

اختار ماليك صوتين أساسيين لروايته الصوت الذكوري: للابن البكر صبياً وكهلاً والصوت الأنثوي للأم وهي فتاة صغيرة ثم امرأة ناضجة وهي الشخصية النسائية المحورية بين شخصيات خمسة ذكور: الزوج والأولاد الثلاثة والواعظ الذي يأتي صوته ثالثاً، والأم هنا تمثل الجانب اللين الأنثوي الذي يفيض رقة وعذوبة والذي يمتص قسوة الزوج أحياناً وقسوة الحياة ومفاجآتها فهي الملجأ الأول للأولاد والحبيبة الأولى لهم وربما الطبيعة الأولى التي تفاعلوا معها.

عن التمثيل 

تميز معظم الممثلين بإدائهم الرائع من الصبية الثلاثة الذين تميزوا بأداء عفوي جميل إلى النجم براد بيت الذي أدى دور من أجمل أدواره على الإطلاق وأكثرها نضجاً، كان مقنعاً تماما في دور الوالد الشاب المحب والغيور، أما جيسيكا شستن التي حقق لها ماليك نقلة نوعية في حياتها المهنية من خلال هذا الدور الرائع والطبيعي فقد أبدعت بحق وأثرت فينا تأثيراً كبيراً، أما شون بن الممثل والمخرج الرائع كان أداؤه مميزاً وهو يعبر مساحات الذاكرة إلى زمن الطفولة الجميل كالحلم رغم عودة هواجسه وآلامه القديمة، ومن الواضح للمشاهد إلى حد ما وكما صرح معظم أبطال العمل أنهم تصرفوا على سجيتهم لم يتأطروا ضمن أي إطارٍ أدائي مسبق بل كانوا طبيعيين إلى حد كبير وكأنهم أشخاص يمارسون حياتهم العائلية الطبيعية العادية. 

ملاحظة حول حركة الكاميرا والاخراج والمونتاج

لابد أن مدير وكاست التصوير كانوا يعملون بطريقة خاصة اذ بدت معظم اللقطات المأخوذة للأسرة وللأولاد وكأنها مصورة بكاميرا فيديو منزلية تسجل لحظات لعبهم و مشاغباتهم العفوية وبدا واضحاً تماما استرسال الممثلين أمام الكاميرا وربما نسيانها في أحيان كثيرة وخاصة في مشاهد الأسرة التي تبدو لنا في قسم كبير منها عفوية، بينما يختلف الأمر تماما مع مشاهد “شون بين الكهل” حيث تبدو الحرفية العالية في التصوير وفي حركة الكاميرا وربما ترمز إلى فقدان البراءة والعفوية مع تقدم العمر ونجد أنفسنا أحيانا أمام لوحات سوريالية غاية في الروعة حيث تستخدم معظم عناصر الطبيعة من صخور ورمال وشواطئ وأنهار وسماء وسحب لإغناء المشهد البصري والصوتي التأملي والذي يتوحد فيه الإنسان مع الكون والذي يحاول فيه ماليك أحياناً أن يقارب بين عمل الله من خلال عرض المشاهد المذهلة للكون ولبداية الخليقة وانقسام العناصر وخلق الأرض و مظاهر الحياة عليها وعمل الإنسان الذي لا يمكنه أن يحقق سوى الشيء القليل المتواضع، لكن يبدو أن ماليك يحترم الإنجاز البشري ويبدو هذا في مشهد ناطحات السحاب الزجاجية والتي تعكس مشهد سحب السماء حيث يتآلف العمل البشري مع عمل الطبيعة الخالدة، لكن ربما أيضاً هذه الجدران الجميلة كالمرايا تعكس صورة الطبيعة خارجاً ولا تسمح لها بالتسرب إلى داخل هذه الأبنية وبالتالي الى داخل نفوس البشر عندما يقول بن (العالم يتجه نحو الظلام و يمتلئ بالجشع ويزداد سوءاً) ففي مثل هذه الأبنية الفخمة تعقد الصفقات الغريبة وتتصارع مصالح البشر.

ولكن الحنين العميق الذي يعيد عقل جاك “شون بن” إلى الطفولة وإلى المدينة القديمة في خمسينات القرن الماضي إلى الأم الجميلة الشابة والأخ الأوسط الذي مات وهو  شاب يافع وخلف وراءه حزناً كبيراً وإلى الأخ الأصغر والوالد الشاب كلهم احتفظت الذاكرة بهم شبابا وكأن زمنهم توقف في لحظة ما، لكنه تقدم بالولد البكر الذي عليه أن يحمل عبء ذكريات وأحلام العائلة ويمضي إلى أن تأتي النهاية حينها سيقابلهم جميعاً على شاطئ تتجدد عليه الأمواج كما تتجدد البشرية جيل بعد جيل.

ربما كان هناك العديد من التفاصيل التي لا يمكننا أن نحيط بها أو أن نفهمها تماماً مثل القطع الذي يحدثه ماليك في حياة بقية الشخصيات الأخرى في العائلة فيما يتابع الابن البكر الذي يبدو أنه لم ينجب رغم كونه متزوج، وكأنه يظهر اختلاف رؤية الاجيال للعائلة أو ربما إشكالية الانجاب مع تقدم العمر والبشرية بينما في أحد المشاهد يبدو أنه يكلم والده الذي يمنحنا إحساسا غريباً  الاب لايزال على قيد الحياة وربما كان باقي أفراد العائلة لكن ماليك يفضل  أن يحتفظ بطله بصورتهم كما كانوا ولا ندري إن كانت الام قد ماتت بعد وفاة ابنها الأوسط نظرا لأن شون بن بدأ الحكاية بذكرهما عندما وجه خطابه لجمهور المشاهدين (أخي …أمي…لقد كانوا هم من قادني لبابكم)، أنه تخمين واعتقد أن أهم جماليات هذا العمل أنه مفتوح على قراءات عدة.  

من المعروف عن تيرانس ماليك أنه يقضي فترات طويلة ومرهقة في المونتاج حيث استخدم العديد من الفنون البصرية والأساليب السينمائية المتنوعة، حيث نجد في هذا الفيلم مزيج غريب من الوثائقي العلمي إلى الوثائقي التسجيلي إلى الروائي إلى المشهد السوريالي، ويحسب له هنا أسلوبه الخاص في التقطيع المشهدي غير التقليدي، أما السينوغرافيا فقد كانت مدهشة في معظم حلولها من ديكورات وإضاءة وتأثيرات بصرية وصوتية وغيرها مثل اختيار الأمكنة بيت العائلة كان في جزء كبير منه مفتوح على الطبيعة الخارجية تماما كما كان منزل شون بن وهو كهل مفتوح بمعظمه على الفضاء الخارجي والطبيعة التي كنا نحس بها بقوة في كل لحظة من الفيلم  حيث كان بإمكاننا سماع تأثيراتها دائماً ، اختيار أماكن التصوير الخارجي الجديدة كل الجدة والتي تخدم السيناريو والحالة الفكرية والشعورية للشخصية تحديدا في حالة جاك الكهل وهو يعبر بين الصخور الوعرة والرمال القاحلة بينما كان هو والعائلة في زمن الطفولة ينعمون في احضان طبيعة سهلة من أشجار وغابات دروب مرنة ربما كان الفيلم يوحي من خلال اداء شخصياته بعفوية الا أن كل تفصيل يبدو مدروسا بدقة مسبقاً عند ماليك وبالتأكيد عومل بصرامة أثناء عملية المونتاج الطويلة ليخرج بهذه الصورة المذهلة فهناك بعض المشاهد التي كان يكتفي بإظهار جزء من الحدث وكان هذا كافياً لنفهم البقية كمشاهد تصادم الأم والأب وعذابات وارتباكات سن النضوج عند جاك وغيرها.

  • ناقدة وشاعرة من سورية تقيم في دمشق
Visited 23 times, 1 visit(s) today