في مهرجان القاهرة السينمائي: “أبو زعبل 89”

شهد عرض الفيلم التسجيلي الطويل “أبو زعبل 89” للمخرج بسام مرتضى. حضورا كبيرا من جانب جمهور الشباب، ولابد أن يكون السبب هو أنه أول الأفلام الطويلة لمخرجه الواعد، الذي قضى سنوات عدة في تصوير الفيلم إلى أن أصبح صالحا للعرض، إضافة بالطبع إلى الجرأة السياسية في طرح بعض جوانب الموضوع.

يقوم الفيلم على فكرة محاسبة الماضي، التوقف أمامه وإعادة تأمله واستعادته حتى يمكن فهمه وفهم ما أحاط به. ولكن الذي يتوقف ويتأمل ويحاسب هنا هو أساسا، المخرج نفسه، الذي يستعيد ذكريات قديمة مضى عليها 35 عاما، أي عندما كان في الخامسة من عمره، بعد أن اعتقل أبوه محمود مرتضى” وسُجن مع عدد من المناضلين اليساريين، في سجن أبو زعبل الشهير، وكيف قام المخرج وهو صغير بزيارة والده في المعتقل مع والدته السيدة فردوس.

من الزاوية الشخصية يحاول بسام مرتضى أن يسبر أغوار الماضي، أن يفهم ما الذي حدث داخل السجن، وملابسات تلك الفترة المظلمة في عهد الرئيس حسني مبارك ووزير الداخلية زكي بدر، وما تعرض له المعتقلون من تعذيب وضرب وإهانات، ولذا فهو يجمع أيضا، بين والده وعدد من رفاقه الذين سجنوا معه حيث يستعيد الجميع أحداث تلك الفترة، من دون أن يخلو الحديث من السخرية والضحك مع نغمة لا يمكن أن تخطأها العين من الأسى والحزن.

ينتقل الفيلم بين الأب والأم، يستمع إلى ذكريات الأم عن تلك الفترة، وكيف قاومت وصمدت في وجه المحنة، بكل صلابة وشجاعة. والحقيقة أن موقفها واضح تماما في الفيلم ومستقيم طوال الوقت، في حين أن موقف الأب ملتبسا، فليس واضحا لنا شعوره الكبير بالإحباط واليأس والهزيمة بعد خروجه من السجن، وهروبه من مواجهة الواقع. ويظل هذا الجانب من الموضوع، غامضا مع جوانب أخرى يلمسها الفيلم من بعيد ةعلى نحو سريع، مثل سفر الأب إلى الخارج وارتباطه بسيدة أخرى، هل تزوج، وماذا كان يفعل في الخارج لسنوات عدة، ماذا كان يعمل، من أين أتى بالمال الذي اشترى به قطعة أرض في قرية الفردوس، وهل أصبح الآن أكثر تكيفا مع المنظومة السائدة سياسيا وفكريا في مصر، أي كيف ينظر إلى الحالة الاجتماعية الحالية، وكلها جوانب كنت أتخيل أن يدفع السياق الذي اختاره المخرج، نحوها بالضرورة خصوصا وأنها تهم المتفرج أكثر من أزمة المخرج الشخصية، لكنه في النصف الثاني من الفيلم، فقد ديناميكية الانتقال من الخاص إلى العام، فأصبح الفيلم حبيسا داخل الخاص، أي داخل أزمة بسام مرتضى نفسه مع أبيه، وعجزه عن فهمه، أو نظرته الشخصية له التي تكونت في الماضي، ومدى صدق هذه النظرة، وموقف الأب من ابنه، وكيف كانت علاقته به خلال الغربة، ثم كيف أصبحت اليوم.

الواضح حتى من خلال تكوين الصورة في إحدى اللقطات الطويلة في الفيلم، أن هناك حاجزا سميكا يفصل بينهما. بل إن بسام نفسه يعترف لنا مباشرة، بأن علاقته بوالدته، كانت أكثر ارتباطا منها بوالده، في ظل الغياب الطويل للأب.

هل نحن أمام فيلم سياسي أم عائلي؟ طبيعي أن الفيلم يجمع بين العنصرين، لكن عند نقطة ما، يتضاءل الاهتمام السياسي لحساب العائلي، بل إننا نشعر في أوقات كثيرة بأننا أيضا أمام فيلم استعادة للذاكرة والذكريات عن حياة المخرج، لغرض التطهير العلاجي النفسي، أي الاستعادة والكشف بغرض التصالح مع الأب الذي كان غائبا لسنوات طويلة، بل ومع الماضي بأسره.

سيد رجب متحدثا في الندوة التي أعقبت عرض الفيلم

يستخدم باسم مرتضى قصاصات من صحف الماضي، وعناوين من الأخبار، ومختارات من الصور الشخصية والعائلية، ويصور مقابلات، من الواضح أنها تمت على فترات، مع الأم التي رحلت عن عالمنا خلال تصوير الفيلم، ولكنها ظلت باقية في قلب وذاكرة الابن، كما يصر الزوج السابق- والأب، أنها تركت أثرا لا يمحى على روحه. وكيف لا وهي التي تمنح القصة كلها قوتها وعنفوانها!

يستعين المخرج أيضا بمقاطع صوتية لتحقيق تأثير معين، كما يستعين بالممثل سيد رجب الذي اتضح أنه كان معتقلا في نفس الفترة مع محمود مرتضى لأسباب تتعلق بنشاطه السياسي وقتها، وهو يقدم في الفيلم، على مشاهد متقطعة، نوعا من المونودراما، أو من الفضفضة أمام الكاميرا، يعبر خلالها عن مشاعره في تلك الفترة.

وفي هذا السياق المتدفق من الحوارات الطويلة، لا مفر أحيانا، من وجود الكثير من الاستطرادات، وعبارات الحوار التي لا تكتمل أو تعجز عن تسليط الضوء على بعض الجوانب المهمة من التجربة، كنا في حاجة إلى معرفتها، مع وجود مشاهد أخرى، تكثر فيها الثرثرة الكلامية، ومحاولة التفكير بصوت مرتفع أمام الكاميرا، صحيح أن هناك قدرا كبيرا من التلقائية يخلقها هذا الأسلوب في التصوير من دون إعداد مسبق دقيق للمشهد، إلا أنه يمكن أن يتسبب أيضا في قدر من الاضطراب. وربما يكون الفيلم بالتالي، في حاجة إلى ضبط وتدقيق واستبعاد بعض اللقطات التي تثقل من وطأة الإيقاع خصوصا في الثلث الأخير من الفيلم.  

وعلى الرغم من هذه الملاحظات، ففي الفيلم جرأة لا شك فيها، ومواجهة شجاعة مع النفس ومع الماضي، ومحاولة لاكتشاف ما جرى على الصعيد الذاتي والموضوعي العام.

Visited 34 times, 2 visit(s) today