فيم فيندرز: دفاعاً عن المكان في السينما
دعوني أبدأ بتوجيه سؤال إليكم: في اعتقادكم، ما الذي يحرّك الفيلم؟ أنا لا أعني المال والاستثمار، أو الرغبة في جني الأرباح، كما هو حال عدد من الأفلام التي هي غير واردة في بحثنا ولا تؤخذ بعين الاعتبار هنا، إنما أعني: ما هي القوة المحرّكة بداخل الفيلم، ما هي الروح المحرّكة؟ ما الذي يجعل الفيلم يدور؟ ما الذي يمنحه القدرة على إقناع المنتج كي يستثمر أمواله في صنعه، وإقناع المخرج والممثلين كي يوظفوا أوقاتهم في تنفيذه؟
في السينما المعاصرة، سرعان ما تجدون أن هذه القوة تأتي من “القصة”. الكثير من الطاقة تكون موظفة في القصة. المخرجون والكتّاب والمنتجون يعملون أحياناً لسنوات من أجل تنمية وتطوير القصة. الممثلون يشاركون في المشروع لأنهم يؤمنون بالقصة أكثر من إيمانهم بالمخرج أو بالميزانية أو بأي شيء آخر.
شخصياً أحب القصص. مهنتي أن أروي القصص.. لذلك، لا تسيئوا فهمي. أنا لا أريد أن أقلل من شأنها، أنا أستجوب فحسب مسألة وضعها في المرتبة الأولى، وجعلها محور الاهتمام.
القصص، من ناحية أخرى، يمكن أن تكون في خدمة قوة أخرى قادرة على التحكم في الفيلم، قوة أخرى قادرة على خلق الرغبة في تحقيقه في المقام الأول. أريد أن أعرّفكم على هذه “القوة”، خصوصاً وأنها الخيار الأقل توظيفاً، والأكثر مجهوليةً، في السينما المعاصرة، بينما هي الكينونة الأكثر رسوخاً في التصوير الفوتوغرافي.
أنا هنا أتحدث عن المكان. الأماكن، كموضوع، لا تحصل إلا على القليل من الاهتمام، ذلك لأنها عادةً تؤخذ باستخفاف، وهي في كل الأحوال “موجودة هناك” على نحو حتمي ومسلّم به جدلاً. بلغة السينما، الأماكن غالباً ما تعيّن هويتها بوصفها “مناظر” أو “مواقع” أو “خلفية”.. هي بالتأكيد تعتبر العنصر الأكثر سلبية، ليس في الفيلم فقط بل حتى في التصوير الفوتوغرافي.
أنا معارض تماماً لهذه النظرة، وأظن أنها نظرة خاطئة جداً. لذا أود هنا أن أمنح “المكان” موضعاً جليلاً ومقاماً رفيعاً.
دفاع عن المكان
للناس من يمثّلهم: وكلاء ومحامون. وثمة نقابات تدافع عن مصالحهم. لكن ليس هناك من يدافع عن الأماكن. لذلك أود هنا، اليوم، أن أتولى القيام بهذا الدور. ولهذا السبب اخترت عنواناً ملائماً لمحاضرتي: دفاعاً عن المكان.
دعوني أشرح قليلاً عن المصدر الذي جئت منه مع حجتي. أنا واثق من أن بعضكم سوف يتعرّف على مشاعر أو بواعث مماثلة.
أنا أسافر كثيراً. بل إني أحياناً أحسب أن مهنتي الحقيقية: مسافر. في أحوال كثيرة، أصل إلى أماكن لم أزرها من قبل، أو أماكن لم أرها منذ وقت طويل.
أسير هنا وهناك. أرى المدن والشوارع والبيوت. أرى الناس يذهبون إلى أعمالهم. أرى الأطفال يلعبون. أنظر إلى مبنى مؤلف من عدة وحدات سكنية، فأرى نوافذ مضاءة، وظلالاً تتحرك خلفها.. ربما امرأة تنحني وتنادي ولدها. ربما هناك إجابة من مكان ما: أنا قادم.
لا أستطيع أن أمنع نفسي، في الحال، من الإحساس بأني أرغب في معرفة كل شيء عن هذا المكان: كيف العيش هناك. كيف تنقضي الفصول. كيف يقضي هؤلاء الناس حياتهم في هذا المكان. من أين يحصلون على المتعة والمرح. ما الذي يقلقهم. كيف يأكلون، يشربون، ينامون، يعملون.
أو أصل إلى مكان لا يعيش فيه أحد.. لنقل، الصحراء. هنا أتخيّل البدو يتنقلون هائمين هنا وهناك، أو أتخيّل الصيادين يمرون أحياناً. أو أول كائن بشري مرّ من هنا وألقى نظرة على تلك الجبال، وتلك البحيرة، وهذا السهل الواسع المرتفع. من الذي رسم أول خارطة في العالم؟
هكذا ترى أن الأماكن لديها جاذبية لا تقاوَم بالنسبة لي. إنها منبع إلهام لا ينضب أبداً.
عشت في أمريكا مدة ثماني سنوات، من أواخر السبعينيات حتى منتصف الثمانينيات، في سان فرانسسكو، لوس انجليس، نيويورك. ثم عدت إلى ألمانيا، ولأول مرة أستقر في برلين.
إعادة اكتشاف
ظللت أتجوّل في برلين لأسابيع، لشهور، محدّقاً في المباني والأماكن، ملتقطاً الصور، منصتاً إلى اللغة الأم، الألمانية، كما لوكنت أسمعها للمرة الأولى. كنت أعيد اكتشاف بلادي.
كنت أرغب في معرفة كل شيء عن سكان برلين، ماضيهم، تاريخهم، أفكارهم السريّة. المدينة هي التي استمالت هذه الرغبة. أردت أن أروي قصة هذه المدينة. كانت لا تزال مدينة منقسمة. شعبان مختلفان كانا يعيشان هناك، رغم أنهما يتحدثان اللغة نفسها. إنها المدينة ذات السماء المنقسمة، إذا جاز التعبير. سمّيت مشروعي “السماء فوق برلين”، لكن لم تكن هناك قصة على الإطلاق، ولا أي مفتاح. بل حتى لم تكن لدي شخصيات مرسومة. لا شيء غير الرغبة في الحفر عميقاً داخل هذا المكان.
بالطبع كنت أبحث عن الشخصيات. لقد حاولت أن أجد بعضاً ممن يتواجدون كثيراً هنا وهناك، مصادفين العديد من الأشخاص، من أجل أن أكون قادراً على النظر إلى الكثير من الشقق، وأن أدرس حيواتهم. فكرت أن أجعل بطل الفيلم ساعي بريد، أو سائق تاكسي، أو اطفائياً. فكرت أن يكون طبيباً أو بائع متجول. فكرت في الغرباء الذين يصلون ويضيعون، مثلي. لكن ولا واحد من شخصياتي الرئيسية المحتملة حقق، حتى على نحو ضئيل، رغبتي في اكتشاف هذه المدينة، وفي كشف النقاب عنها.
كنت بالفعل ممسوساً بذلك المكان. شعرت بوضوح تام أن المدينة ترغب في أن تتحوّل إلى فيلم، وتريد أن تستخدمني كأداة لفعل ذلك. وأنا بدوري كنت راغباً في ذلك.
فيما كنت أتجوّل، وأحدّق في البيوت، رأيت كمية هائلة من التصاميم والديكورات والدعامات والنصُب والأقواس وأشياء لم ألاحظها من قبل. الكثير منها كانت تحتوي على أشكال أو رسوم لملائكة.. وهذا الشيء أدهشني حقاً. المقابر أيضاً كانت مزدحمة بأشكال الملائكة. بالنتيجة، راحت المدينة على مهل تفرض هذه الأشكال عليّ.
في البداية، لم أرد أن أصدّق ذلك. لم يكن ذلك من طبعي، فاهتمامي بالملائكة كان محدوداً. تلك المخلوقات السماوية كانت تقطن تخيلات طفولتي، ربما لأنني نشأت كطفل كاثوليكي، لكن حدث ذلك منذ زمن طويل.
ها هنا جملة غامضة، مكتوبة على عجل ومن غير عناية في دفتر ملاحظاتي: “تحدث عن المدينة من خلال وجهة نظر ملاك حارس”. هذه الجملة ظلت ثابتة في مكانها، عالقة حتى قبلت أخيراً قدري، بينما تعرضت الملاحظات الأخرى للمحو. المدينة فرضت الشخصيات الرئيسية، وكنت واثقاً من أن المدينة أيضاً سوف تعتني بقصتهم.
دور الملائكة
شرعت في هذا الفيلم من غير أن يتوفر لديّ سيناريو. على الجدران في مكتبي ألصقت الكثير من الصور التي التقطتها للأماكن التي من المفترض أن تظهر في الفيلم، ولمختلف الأشخاص الذين أردت أن أكتشفهم بواسطة الملائكة، والكثير من الأفكار للمشاهد. الاحتمالات كانت لا نهائية. بوسع الملائكة أن يظهروا في أي مكان. ومن خلال إدراكهم الحسي، يمكن لأي شيء أن يتكشف. ليس فقط لأنهم غير مرئيين، بل أن بمقدورهم أيضاً سماع أكثر أفكار البشر سريّةً.
إن عملية تحقيق فيلم من غير وجود سيناريو يشبه إلى حد بعيد كتابة الشاعر لقصيدته. مثلما هو لا يعرف سلفاً ما الذي سيقوله في البيت التالي من القصيدة، كذلك أنا لا أعرف ما الذي سأصوره في اليوم التالي. كل شيء ممكن مع هؤلاء الملائكة. الأماكن كانت كلها مصطفة على ذلك الجدار في مكتبي، وبمجرد التحديق فيها أجد الإلهام الذي يساعدني في اليوم التالي من التصوير.
اليوم، فيلم “أجنحة الرغبة” Wings of Desireيعد وثيقة تاريخية عن المكان الذي زال نهائياً. هذه المدينة لم تعد موجودة. مدينة جديدة حلّت مكانها. لا أظن أن أي عمل وثائقي قادر أن ينصف برلين الثمانينيات (من القرن الماضي) أكثر من هذا الفيلم الدرامي الذي يفتقر إلى القصة.
ربما تعلمون أن هوليوود أعادت تحقيق هذا الفيلم بعد عشر سنوات من إنتاجه، بعنوان “مدينة الملائكة” City of Angels، والمدينة المقصودة هي لوس أنجليس. بلغ عدد الذين شاهدوا الإعادة عشرة أضعاف عدد من شاهد الأصل.
لقد بعت حقوق الإعادة وأنا أقول لنفسي: يا للغرابة! ها هم يشترون حقوق قصة فيلم حققته من دون وجود قصة.
كانت الإعادة جيدة. لا تسيئوا فهمي. لا أريد هنا أن أقلل من شأن الفيلم. لكن إذا اعتقدتم أنكم عرفتم شيئاً عن مدينة لوس أنجليس من مشاهدة “مدينة الملائكة”، فأنتم مخطئون. لماذا؟ لأن القصة هي المحرك الأساسي لهذا الفيلم الأمريكي. القصة قوية، الممثلون بارعون. لكن ليس هناك أي إحساس بالمكان على الإطلاق. “الإحساس بالمكان” يحتاج أيضاً إلى مكان كي يتمدّد، ليمنح حيزاً للتنفس. “القصة” لا تحب المنافسة على حيّز ترغب هي في احتلاله.
أنا لا أقول كل هذا لكي أقلل من شأن فيلم “مدينة الملائكة”. أنا فخور جداً لأنني صرت جدّاً لهذا الرضيع. لكنكم ترون طريقتين مختلفتين تماما لمباشرة العمل: التحدث عن المكان، أو سرد قصة.
الأماكن في الأفلام الأمريكية تكون في أغلب الأحيان قابلة للاستبدال. إنها لا تحمل إلا القليل جداً من اللون المحلي، إذا جاز التعبير. أغلب القصص يمكن أن تحدث في أي مكان آخر. (لا عجب أن الموقع المفضّل لهم في هذه الأيام هي تلك الشاشة الزرقاء).
المدن والمناظر الطبيعية هي مجرد “خلفية”، مجرد “مواقع”، يعثر عليها شخص متخصص في البحث عن مواقع التصوير. لم تعد الأمكنة شخصيات رئيسية في الأفلام، كما كان Monument Valley في أفلام جون فورد. بالطبع هناك القليل من الأمثلة المتألقة والرائعة التي تهتم بالأماكن، لكن ليس ثمة قوانين بلا استثناءات.
فيما يتعلق بي، أرى أن فقدان المكان خاصية مفقودة في الأفلام. إنه يأتي مع فقدان الواقع، فقدان الهوية.ربما هي علامة فارقة أوروبية أن يكون لدينا ذلك الإحساس العميق بالمكان. بالطبع، هناك تخوم أكثر، لغات أكثر، هويات قومية أكثر.
هكذا غالباً ما سوف تجدون أفلاماً ذات أجواء محلية قوية، لمسات قوية، لهجات عامية. هناك قلة من الأفلام الأمريكية التي تبدو محددة ودقيقة، أو تبدي اهتماماً بالصفات المميزة. الأفلام الأمريكية تتجنب ذلك لأنها تخشى أن يفقد الجمهور اهتمامه. كما لو أن الكثير من “الواقعية” و “الحقيقة المحلية” سوف يتعارض أو يتضارب مع “القصة”. القصص تبدو أكثر وضوحاً، وتهيمن بجلاء أكثر، إذا كانت في المركز، في بؤرة الاهتمام. القصص تريد أن تكون الأولى في ترتيب الأسماء، أن تكون في موقع متقدم.
مرّة أخرى، أنا لست هنا لكي أنتقد، أنا هنا لكي أتحدث عن طريقة مختلفة في الفهم، وكيفية تأويل ذلك.. ليس بشكل عام بل بشكل شخصي.
باريس- تكساس
عندما جلسنا معاً، أنا وسام شيبرد (كاتب السيناريو، وهو ممثل وكاتب مسرحي)، في العام 1982، للبدء بتشكيل النص، روى كل منا الكثير من القصص من أجل اكتشاف أرضية مشتركة. لكننا أدركنا أننا سوف لن نجد ذلك في “قصة ما”. ثمة الكثير من القصص، كانت متصلة ولا نهائية، فيما كنا نتبادل الحديث.
بالأحرى، اكتشفنا الأرضية المشتركة في المكان: الغرب الأمريكي، وبصورة دقيقة أكثر، في صحراء الغرب، التخم الذي يفصلها عن المكسيك. تلك الأماكن المنسية، المهمَلة، الصغيرة، في منتصف اللامكان.
لم يتعيّن علينا أن يقنع أحدنا الآخر بأن ذلك المكان جدير بأن ننطلق منه لتحقيق فيلمنا هناك. كنا نعرف. لا مجال للشك أو الاعتراض. لا إعادة نظر.
لذا عندما اتفقنا على أن فيلمنا سوف يبدأ من هناك، من دون أي نقاش، تقريباً أشبه باتفاق صامت، منحتنا الصحراء شخصيتنا وقصتنا. رجل بلا ذاكرة يحاول أن يعيد اتصاله بالماضي، وأن يجد عائلته المفقودة.
شخصياً سافرت لشهور عبر تكساس، أريزونا، نيو مكسيكو، حتى صرت أعرف كل طريق هناك، أو على الأقل هذا ما شعرت به.
عندما استحضرنا، أنا وسام، اسماً للمكان، صار بوسعنا كتابة المشهد التالي. خط سير الرحلة أضحى هو مجرى قصتنا. وعنوان الفيلم، باريس – تكساس، لم يكن اسم مدينة، بقدر ما صار مجازاً لسيرة بطلنا الممزقة.
أنا وسام شيبارد لم نكتب أبداً سيناريو كاملاً. كتبنا نصفه، وكان في نيّتنا أن نصوّر حتى المنتصف، وأن نتعرف جيداً على شخصياتنا، أن نعرف كل شيء عنها ثم نكتب النهاية التي سوف تتجلى من هذه الشخصيات على نحو عضوي، وعلى نحو طبيعي، وليس من رحم قصة اخترعناها منذ وقت طويل، قبل أن تسنح لشخصياتنا الفرصة لأن توجد. سام كان يرافقنا أثناء التصوير، يسافر معنا، يختبر معي المكان والممثلين، بعدئذ يكتب المشاهد فيما نتقدم ونعمل متعاونين.
كانت فكرة جميلة، غير أنها لم تنجح. عندما صورنا الفيلم أخيراً، بعد تأجيل لفترات متعددة، لأسباب تتصل بالتمويل، في الدرجة الأولى، كان سام قد وقّع عقداً كممثل في فيلم آخر يصوّر بعيداً في الشمال. لذلك باشرت تصوير فيلمي من غير وجود كاتب إلى جواري. بعد وقت، بدأ السيناريو يتناقص حتى لم تعد هناك صفحات مكتوبة، وأنا لم أكمل بعد نصف الفيلم. توقفنا عن التصوير. وآنذاك لم تكن هناك أجهزة الفاكس، بل آلة تدعى “تليكس”.. شيء سييء ولا يمكن وصفه، ولن أتكلم عنه حتى لا أستحضر الرعب الذي واجهناه بسبب تلك الآلة.
على كل حال، كنت أفكر في النصف الثاني من القصة، وأنا في حالة يأس شديد، ولا أعرف كيف أنهي الفيلم. كل ما أعرفه أنه سينتهي في مكان ما في تكساس. (لأني هنا لا أريد أن أختبر ذاكرة من شاهد الفيلم، فسوف أشرح: بطل الفيلم فاقد للذاكرة، وهو أخيراً يعثر على ابنه في لوس أنجليس، ثم يعود مع ابنه الصغير إلى تكساس ليعثر على زوجته، أم الطفل). هكذا، فإن كل ما نعرفه هو أن الأحداث سوف تعود لتدور في تكساس.
لم أستطع أن أفكر في أي طريقة مرضية ومقبولة لإنهاء قصتنا، إلى أن تخليت عن محاولة اختراعها وشرعت في التفكير في الأماكن التي كنت أعرفها. تذكرت إلى أي مدى أثّرت فيّ مدينة هوستون بوصفها “مدينة الفُطْر” التي نمت بمثل لمح البصر، طالعةً من اللامكان. تذكرت وفرة “الفضاء” في تكساس. والقصة أخذت في التشكّل. تذكرت بورت آرثر، أكثر البلدات التي زرتها في حياتي إثارةً لليأس. تذكرت صورةً التقطتها لحانة رخيصة تضم مكاناً فيه يمكن إشباع الرغبة الجنسية عن طريق اختلاس النظر. والقصة بدأت تتخذ المسار الصحيح.
تحدثت إلى سام عبر الهاتف ووصفت له تلك الأماكن. هو على الفور فهم ما أريد. بناءً على وصفي لتلك الأماكن، كتب ما اعتبره من أكثر الصفحات إدهاشاً في أي سيناريو قرأته في حياتي. لقد كتب تلك الشخصيات المضطربة بناءً على معرفته بالأماكن المضطربة.
عبر الهاتف أملى عليّ المشاهد. كان ذلك قبل انتشار أجهزة الفاكس. ثم باشرت تصوير الجزء الثاني من فيلمي بناءً على المعرفة الكثيفة للأماكن. لم يكن لدينا أي وقت للقيام بمزيد من البحث عن مواقع. لم تكن هناك حاجة لذلك: تلك المواقع قد ارتادت قصصها ، وليس العكس.
والآن، لا تظنوا أني التقطت تلك الأمثلة من ذهني، وأن بقية أفلامي تنتمي إلى القاعدة بدلاً من الاستثناء. أضمن لكم، ثمة الكثير من التوكيدات الجلية بشأن فرضيتي.
أية فرضية؟ تلك التي تقول أن الأماكن تكشف القصص وتجعلها تحدث. ليس صحيحاً أن القصص تحدث بأية طريقة كانت، وهي تحتاج فحسب إلى “مواقع” لكي تحدث.
لعل فيلمي “حتى نهاية العالم” المثال الأفضل. ذلك الفيلم بأسره بدأ قبل أن نباشر بتنفيذه بـ 12 عاماً، حين صادفت أولاً تلك القارة الجميلة، القديمة، المباركة. بالصدفة تقريباً، سافرت عبر جنوب شرقي آسيا. في بالي، انتقيت رواية وجدتها في محل للكتب المستعملة. بلدة تشبه ألِس. التهمت الرواية، أحببتها، وقررت أن أسافر إلى ذلك المكان.
الاكتشاف الاسترالي
هكذا جئت من خلال الباب الخلفي، ودخلت أستراليا عن طريق داروين، في ديسمبر 1977. كنت غير مهيأ تماماً لما سوف أراه. استأجرت سيارة وبدأت أقودها. أول نهر عبرته، سبحت فيه. اكتشفت مدى غبائي عندما رأيت تلك الليلة تمساحاً – كان يعيش في ذلك النهر – معروضاً في الفندق المحلي الصغير الذي أقمت فيه. لكن إلى حد أبعد، كنت غير مهيأ تماماً لالتقائي بالثقافة المحلية التي أنتجها السكان الأصليون. أولئك الناس كانوا رائعين، استثنائيين، في العديد من الأوجه. ومن أكون أنا لكي أحدثكم عنهم؟ أنا، مثل بعضكم، أقل اطلاعاً ومعرفة بهم. بالنسبة لي، هم كانوا اكتشافاً، منذ اللحظة التي أدركت فيها مفهوم إحساسهم بالمكان.
إن وجودهم بأسره كان مبنياً على ذلك.. وهذا ما بدأت أفهمه. إيمانهم، دينهم، كان “الأرض”، والقدرة على رواية قصص. علمت أنهم ملزمون، كل واحد فيهم، بالإبقاء على امتداد الأرض حياً عن طريق الإبقاء على قصتها حيةً. عندما يدعون القصة تموت، عندما يدعون الأرض تموت مع قصتها، عندئذ هم أيضاً يموتون معها. إنهم “يغنون” بلادهم. مثلما حدث مع هوميروس، الذي لم يكن يقرأ الأوديسة بل ينشدها.
التقائي بثقافة سكان البلاد الأصليين، فيما يتصل بعبادة أماكنهم، حثني على البدء في مشروعي السينمائي الأكثر طموحاً، والذي يبحث في الإدراك الحسي والأحلام، ومسألة مِلكية الأحلام. هل مسموح لك بأن تسجلها، بأن تجعلها عامة، علنية، وتعدّدها؟
كانت أيضاً المرة الأولى التي فيها شعر البدويّ فيّ بأنه في موطنه، والتي فيها فهمت بأن ثمة سياقاً لتقديري العميق واللاواعي تقريباً للأماكن.
فيما بعد، العديد من الأشياء صارت في الموضع الصحيح بالنسبة لي. سمو الأماكن، الطريقة التي بها يرتبط مثولها المادي بالوجود الغيبي، والتي غالباً ما ننكرها بشأن المواقع الطبيعية في ثقافتنا الغربية. نحن غالباً ما نتباهى بكوننا “خالقين”، بأننا نمتلك قدرات خلاقة، بينما نحن في الحقيقة لسنا أكثر من باحثين، نصطاد ونجمع. إننا نعثر على الأشياء مصادفةً. في طريقنا نجد الصور أو القصص. نحن، في أفضل الأحوال، مكتشفين لها، ولسنا مخترعين. هكذا، في أحوال كثيرة، نحن نرغب في جعل أنفسنا تشبه مصدر الإلهام، مصدر الفن، في حين أن المؤلف الحقيقي هي الطبيعة، وأن رواة القصص الحقيقيين هي الأماكن.
دعوني أطرح المثال الأخير، فيلمي Buena Vista Social Club (ربما بعضكم شاهد الفيلم). ذهبت إلى هافانا لتصوير الفيلم هناك، المكان الذي لم أزره من قبل. لم أكن أعرف غير تلك الموسيقى التي أنتجها أولئك الرجال المسنين.. موسيقى مكهربة، مسكرة، ومعْدية.
موسيقى المدينة
ما إن شاهدت هافانا وصورتها، حتى أدركت بوضوح الشيء الذي هو مميز واستثنائي بشأن هذه الموسيقى. إنها تنبع من هذه المدينة. تلك الموسيقى هي دم هذه المدينة. المكان وجد سموّه في الصوت، إذا جاز التعبير، ووجد شكلاً آخر للوجود في هذه الأغاني. وهؤلاء الرجال المسنين كانوا قادرين على إنتاج، وإعادة إنتاج، تلك القصة عن مكانهم الخاص، لأنهم لم يتخلوا عنه، مثلما فعل قبلهم الكثير من الموسيقيين الذين هربوا من كوبا ليستقروا في فلوريدا، وفي المكسيك، وفي أسبانيا. (وأنا هنا لا أقصد التجريح في أولئك الذين غادروا).
إحساسهم بالهوية وبالإنتماء، عشقهم البالغ للمكان الخاص بهم، هو الذي جعل هؤلاء المسنين يتحملون الكثير من الألم، الكثير من المعاناة.. وهو الذي صار أيضاً مصدر قوّتهم.
الموسيقي، الموسيقى العظيمة والمحركة للمشاعر، لا تحدث من غير أن يكون هناك إحساس بالمكان. إنها تحتاج إلى جذور لتستل منها، تحتاج إلى “قصة” و”تاريخ” لكي تتغذى. أحياناً، غياب مكان ما، الحنين إليه، النفي منه، يمكن أن ينتج الجذور ذاتها. لم يكن قد ظهر أي بلوز blues (الأغاني الكئيبة زنجية الأصل) من غير الجنوب الأمريكي، من غير الدلتا، من غير العبودية، وأخيراً من غير البيت المفقود في قارة أفريقيا، البعيد إلى الأبد مثل مجرّة بعيدة.
على كل حال، بإمكاني أن أواصل في ذكر القائمة الكاملة بأفلامي، مبرهناً لكم أنها كلها تبدأ هكذا: كمكان يرغب في أن يُروى، كمكان يحتاج لأن يُروى. تلك القائمة سوف لن تكون مكتملة لو احتفظت باخفاقاتي الكبرى في الخفاء. الآن، لكي أثبت وجهة نظري من خلال النقيض، فإن فيلمين لي يُظهران الحالة الي بلغتها عندما تشوّش إحساسي بالمكان.
“الحرف القرمزي” Scarlet Letter، رواية أمريكية جميلة تأليف ناثانييل هاوثورن. ذلك كان فيلمي الثاني، كنت في الأصل أنوي تحقيقه في نيو إنجلاند، حيث تنتمي القصة: سيلم، ماساشوسيتس.
نحن فقدنا جزءاً من التمويل.. لكن تلك قصة طويلة، لن أضجركم بسردها. عندما باشرت أخيراً بتنفيذ الفيلم، تعيّن عليّ تصويره، من بين كل الأماكن، في أسبانيا، وأدوار كل المتزمتين دينياً أسندتها إلى كاثوليكيين أسبان. “الهندي الأمريكي” الوحيد كان مصارع ثيران عاطلاً عن العمل. كان بإمكان العمل أن ينجح، الممثلون بوسعهم العمل على الرغم من وجود العديد من العوائق، لكن ما لم ينجح هو أننا صورنا الفيلم في “قرية غربية” بالقرب من مدريد، حيث صور الإيطاليون أغلب أفلام “الويسترن السباجيتي” في هذا المكان. إن تصوير قصة تنتمي إلى الساحل الشرقي من الولايات المتحدة في منتصف أسبانيا كان خطأ جسيماً. القصة ماتت بمجرد نقلها إلى مكان آخر.
المثال الآخر، هو فيلمي “هاميت” Hammett، وهو عن الكاتب الأمريكي العظيم داشيل هاميت الذي أثّر في العديد من الكتّاب، من بينهم: همنجواي وفولكنر. اعتمدت على قصة متخيلة، فيها يعيش هاميت في سان فرانسسكو، ويعمل كمخبر خاص، ويشرع في كتابة قصص التحري التي غيّرت وجه الكتابة الحافلة بالإثارة والألغاز.
صورنا الفيلم في سان فرانسسكو. كان ذلك عظيماً. حقيقياً. صادقاً. كان هناك إحساس بالمكان. القصة كانت حيث تنتمي. المدينة سان فرانسسكو عزّزت القصة، أعطتها مبرراً، حرضتها. لكن الأستوديو (الجهة الممولة) لم يعجب بالفيلم. لم يجد فيه ما يكفي من مشاهد الحركة والأكشن والخيال. وجده متجذراً أكثر مما ينبغي في الواقع. على أية حال، انتهى الأمر بي إلى إعادة تصوير أغلب مشاهد الفيلم في لوس أنجليس، في الأستوديو وفي شوارع قلب المدينة التجاري. كل شيء في الفيلم صار زائفاً، وهمياً. المزيد من القصة، هذا مؤكد، لكن القليل من الروح.
القصة والمكان
الفيلم انفصل عن مكانه الأصلي. هذا ما تعلمته في حالتين، حيث القصة والمكان لا يتصلان على نحو حيوي، لكن يجتمعان على نحو اعتباطي. مثل هذا الفيلم محكوم عليه بالإخفاق. على الأقل، في كتابي، ذلك يبدو أشبه بقاعدة راسخة ووطيدة، لكن لا يتم تطبيقها على أغلب الأفلام الأمريكية المعاصرة. بل إن صانعي هذه الأفلام لا يكترثون كثيراً بإنصاف المكان وتقديره. هم، قبل كل شيء، يقدّرون قصصهم.
لكن بأي ثمن؟ الأفلام الأمريكية تنزع إلى التعويض عن افتقارها إلى المكان بالأسطح الصقيلة دوماً، مع توظيف المزيد من المؤثرات الخاصة المثيرة، والميزانيات الضخمة الخيالية، والديكورات المنمقة المترفة. إنهم يملأون الفجوة التي صنعوها بمادة متألقة. لكن هل ساوركم شك خفي بأنه شيء لملء الفراغ.
أعترف أنني ربما أبالغ قليلاً في تقدير دور المكان ضمن السياق القصصي. المصدر الآخر للقصص، ولعله بنفس القدر من الأهمية، نجده في الشخصيات. (سوف ألجأ إلى الاختزال وتخطي بعض الأمور، وذلك لأن الموضوع واسع وقد يأخذنا بعيداً جداً) .
القصص تخرج من الشخصيات المدهشة، من الناس. لكن مرة أخرى، تماماً كما الحال مع الأماكن، التي تحوّلت من عنصر محرّض على القيام بعمل ما إلى مجرد خلفية أصبحنا نقبلها ونصدّق الفكرة الخاطئة عن الناس أيضاً. بدلاً من أن يكون الناس والشخصيات متحكمة في مصائرها، تعلّمنا الأفلام نقيض ذلك، أكثر فأكثر، والذي هو مفهوم خاطئ تماماً، قائم على فكرة أن القصص هي التي تشكّل الشخصيات، وأن الناس خاضعون للقصص.. هم ضحاياها، إذا جاز التعبير، وليس العكس.
الناس والأماكن أصبحوا مشاهد ضمن القصص، ولم يعودوا الأصل، والمنبع. في معظم الأفلام الأمريكية اليوم، نجد أن الحبكات تتلاعب بالشخصيات. الأحداث تحث الشخوص هنا وهناك.. والأحداث، في أغلب الأوقات، ليست إلا سلسلة من المؤثرات المثيرة.
هل تفهمون السبب الذي جعلني أعتقد أن الأفلام تمثّل، أكثر فأكثر، العالم مقلوباً رأساً على عقب: الناس ليسوا متحكمين في أقدارهم، ولا يحولون حيواتهم إلى قصص، بل أن القصص هي التي تحوّل الناس إلى عبيد لها، إلى موجودات أو أشياء نافعة. الأماكن لم تعد في لبّ القصص، مثبّتة الشخوص في الأرض كما تفعل المراسي، بل أضحت “مواقع” قابلة للاستبدال.
القصة، كنتاج صناعي، تمتلكه الكتل المختلطة المجهولة ذاتها التي تمتلك الموارد الأخرى، مثل النفط. قصص كهذه تجد التشجيع لأن تكون القوة الأعظم لتحريك الصور والمخيلة على حساب قوة بناء القصة عن الناس والأماكن.
ذلك التحول الذي نشهده هذه الأيام سوف تصوغ أجيال المستقبل وتشكلهم على نحو عنيف أو متطرف. ليس فقط مخيلتهم التي سوف تتغيّر، لكن جوهرياً تلك الصورة التي كوّنوها عن أنفسهم، احترامهم للذات، ومعرفتهم بالمكان المشترك: كوكب الأرض.
الآن، ربما لم يعد يتعيّن عليّ أن أفسّر الكثير، بشأن السبب الذي جعلني أسمّي معرضي: صور من سطح الأرض، كما لو أنها من نجم غير معروف. أو لماذا أحب التقاط الصور. بعد هذه المحاضرة الطويلة كصانع فيلم تستطيع أن تتخيّل، ربما، وأنا مفعم بالأمل، كيف أشعر حين أقف وحيداً، لا أملك غير كاميرتي، في حضرة مكان ما.
كمصور فوتوغرافي، بوسعي أن أقف هنا وحيداً. لا حاجة بي إلى مئة شخص يحيطون بي. لا أحتاج إلى مساعد يزعق طالباً من الجميع السكوت. هنا الصمت يشملني معظم الوقت. هكذا بوسعي أن أقف هناك وأصغي فحسب. أستطيع أن أستخدم كاميرتي كما لو إنها جهاز تسجيل للأصوات، وألتقط أصوات المكان، وقبل كل شيء، أسجل الصوت وهو يسرد قصته وتاريخه.
الأماكن، التي قد تبدو مجازية، هي دائماً حقيقية. بإمكانك أن تتمشى حولها أو تستلقي على الأرض. بإمكانك أن تأخذ حجارة معك أو تأخذ حفنة من الرمل. لكن لا يمكنك أن تأخذ المكان معك.
في الواقع ليس بمقدورك أبداً أن تملك المكان. حتى الكاميرا لا تستطيع أن تستحوذ عليه. وإذا التقطنا صورةً له فإننا نكون قد استعرنا مظهر المكان لفترة من الوقت. نكون قد استعرنا جلده الخارجي، سطحه فحسب.
بعض الأماكن التي صوّرتها هي على وشك أن تختفي، ربما تكون قد تلاشت عن سطح الأرض. هي سوف لن تنجو إلا في الصور الفوتوغرافية، أو على نحو أفضل: ذاكرة الأماكن سيكون عليها أن تتشبث بالصور التي التقطناها لها.
الأماكن الأخرى سوف تعمّر أكثر منا، بل سوف تتحاشى مساعينا لأسرها في صور فوتوغرافية. أكثر من ذلك: الأماكن سوف تنجو وتبقى بعد زوال كل أثر لنا.
بعد مليون سنة، عندما لا يعود هناك أحد ليتذكرنا، حتى ولو بشكل باهت، فإن بعض الأماكن سوف تتذكرنا. للأمكنة ذاكرة. إنها تتذكر كل شيء. ستكون محفورةً على الحجر. إنها أعمق من المياه الأكثر عمقاً. الذكريات ستكون أشبه بالكثبان الرملية، تهيم بغير انقطاع.
أظن لهذا السبب أنا ألتقط صوراً للأماكن. لا أريد أن أسلّم بها جدلاً. أريد أن أطلب منها بإلحاح ألا تنسانا.
وأريد أن أستحثكم بألا تنسوا هذه القدرة النفيسة الممنوحة لنا: لحل شفرة القصص التي يمكن للأماكن أن ترويها لنا.
وإلا فسوف نصبح جميعاً ضحايا للفقد.. فقدان ما هو فذ، ما هو محدد، ما هو جلي، ما هو متجذر بعمق.. باختصار، أحلامنا.
ما تُعرف بـ “الثقافة العالمية” هي ليست إلا امتداداً لفقدان الهوية إلى بقية أنحاء العالم.
نحن جميعاً نعاني، في هذا القرن الـ 21، من الكمية الهائلة للصور والقصص القابلة للمبادلة، والانسحاب من التجربة المستقاة من المصدر الأول.
هذا يفضي، ببطء لكن بثبات، إلى فقدان الإحساس بالواقع، وفقدان الإيمان، مرةً أخرى، بقدرة القصة على سرد الأماكن.
وفقاً للسكان الأصليين في أستراليا، الأماكن تموت إن لم يحافظوا على بقائها، كذلك سنموت نحن معها..
وهم محقون تماماً.
نشرت هذه المحاضرة في نوفمبر 2003
فيم فيندرز مخرج ألماني شهير، حقق عدداً من الأعمال الهامة في السينما العالمية: ألِيس في المدن، الصديق الأمريكي، باريس تكساس، أجنحة الرغبة.