فيلم “ياقوت أفندي” وموديلياني

عبد الحميد منصور- مصر

علاقة السينما المصرية بالفن التشكيلي علاقة قلقة ومتوترة، خصوصاً مع المدارس الفنية التي توالت في الظهور منذ أوائل القرن العشرين مثل: التجريدية والتكعيبية والسريالية، وغيرها. وتعبر الأفلام المصرية في أغلبها عن هذا التوتر بشكل فيه ارتياب وسخرية، وأحد أبرز النماذج التي تبرز هذا التصور هو نموذج شخصية الفنان التشكيلي “عيسوي عيسوي عيسوي” في الفيلم الاجتماعي الكوميدي “يا رب ولد” (1984) من تأليف فيصل ندا وإخراج عمر عبد العزيز، لكن يبدو أن التوتر قد بدأ مبكرا جدا، مثلما نجد في فيلم “ياقوت” من إنتاج سنة 1934 وكان من بطولة نجيب الريحاني.

في فيلم “ياقوت”، أو رواية “ياقوت” مثلما هو الوصف المكتوب في التترات، نجيب الريحاني طالع يمثل شخصية ياقوت أفندي الميسور ماديا بعض الشئ لكنه يعمل مُحصَّلا في “دائرة ورثة أبو عوف باشا” ومهمته الرئيسية المرور على المستأجِرين لتحصيل الإيجارات منهم لحساب الدائرة، ومن ضمن أولئك الآنسة الفرنسية رودي إريكسون التي يتوجه إلى بيتها لتحصيل أجرة الشهر.

نعرف في بداية الفيلم أن الآنسة رودي ابنة واحد من أغنى أغنياء العالم، وأنها عاشت في باريس حياة مرفهة لكنها كانت وحيدة حزينة القلب، وبناء على نصيحة صديق لها ترتحل نحو بلاد الشرق، لعل سحر الشرق يكون فيه دواء لها، فتسافر، وتحط الرحال في مصر.

ياقوت أفندي لا يجد الآنسة رودي، فيستأذن في انتظارها، ويسمح له الخادم ويسأله إذا ما كان يحب أن يعد له فنجانا من القهوة، يشكره ياقوت، وتدور بينهما دردشة قصيرة يعرف خلالها ياقوت أن الخادم اسمه سرور.

خلال ذلك يشعل ياقوت سيجارة ويجيل عينيه في المكان ويلاحظ المفروشات الثمينة، وعلى أحد الحوائط يلفت نظره وجود لوحة من لوحات الفن الحديث معلقة عليها، فينهض من كرسيه متوجها نحوها لينظر إليها متأملا عن قرب.

اللوحة عبارة عن بورتريه لامرأة، من الوهلة الأولى تلاحظ فيها أسلوب الفنان التشكيلي الإيطالي أميديو موديلياني (1884- 1920) في رسم النساء، رقبة طويلة تشبه رقبة الإوزة، ورأس مائلة قليلا، ووجه بيضاوي، وعيون فارغة مسطحة ذات لون واحد وبلا قزحية.

يقترب ياقوت وسرور من اللوحة ويدور بينهما حوارهم الطويل، يهمنا فيه الآن هذا المقطع:

ياقوت: إنما اللي عاجبكم إيه في الصور الماسخة اللي أنتم معلقينها دي؟

سرور: إيه؟ ده ما يعجبش حضرتك؟

ياقوت: والله مسألة أذواق.. أنا رقبة طويلة مسلوعة زي دي ما أعرفلهاش طعم.. أنا الشئ اللي أفهمه الإنسان يعلق له تصويرة تفتح النفس.. بني آدمة جميلة مثلاً.. شقة بطيخ حلوة طالل منها اللب الإسود.. إنما تركيبة ملخبطة زي دي لا أنا عارفها راجل ولا عارفها ست ولا أنا..

سرور: الله يجازي شيطانك يا سي يا قوت أفندي.. تعرف حضرتك الصورة دي تمنه كام؟

ياقوت: إيه؟ عشرين؟.. تلاتين قرش؟.. جنيه؟ اتنين؟

سرور: دي بأربعة ألف جنيه يا شيخ

ياقوت: دي بأربعة آلاف جنيه؟

سرور: أيوة

ياقوت: الصورة دي بأربعة آلاف جنيه؟

سرور: أُمال إنت فاكر إيه؟

ياقوت: اسمح لي أقول لك يا سرور يا حبيبي إنت بتشتغل عند واحدة مجنونة.. دي بأربعة آلاف جنيه؟

سرور: دي حاجة نادرة خالص يا سي ياقوت أفندي

ياقوت: جايز.. على كل حال إنتم أدرى.. يظهر إن العُقَلا في الدنيا دي قَلُّم خالص.. الصورة دي بأربعة آلاف جنيه؟.. طيب دي صورة الراجل الطويل العريض اللي اسمه نابليون ما تقطعش خمسين قرش!…

وبعد هذا يعود الحوار مرة أخرى لسياقه الأول عن الآنسة رودي والإيجار..

هذا المقطع مثلما نلاحظ يكشف عن ذوق ياقوت أفندي في الفن التشكيلي، وبالتالي نعرف شيئا عن طريقة تفكيره ومستوى ثقافته ونظرته للأشياء، وهو ما يمثل مبدأيا جزء من الوظيفة الدرامية للحوار، لكن طريقة تركيب وترتيب الحوار تلفت نظرنا إلى أن هذا المقطع يمكن أن يتخذ أبعادا أكثر، خاصة عندما نضع في الاعتبار نوعية أدوار نجيب الريحاني في أفلامه، وأن كاتب الحوار هو بديع خيري.

نجيب الريحاني في معظم أدواره السينمائية كان يقدم شخصية من أواسط الناس، شخصا عاديا يمكنك أن تجده حولك في أي مكان، في الشارع أو البيت أو الشغل أو المقهى، موظفا بسيطا أو فَرَّاشا أو مدرسا أو رب أسرة، وتطلعاته هي التطلعات اليومية للرجل العادي التي يرتبط معظمها بالأمان المادي، وثقافته هي الثقافة الشائعة عند معظم الناس، يعني أنه في كل الأحوال رجل واقعي يعيش هذه الحياة، وبالتالي منظوره دائما هو المنظور الواقعي، لا يرى الأشياء أقل أو أكثر مما هي عليه في الواقع، فمن الطبيعي ومن الاتساق أن يميل ذوقه في الفن إلى أن يكون واقعيا هو أيضا، ولذا عندما  يرى لوحة مرسومة بطريقة تصور شيئا بشكل غير ذلك الذي يراه عليه كل يوم يندهش ولا تعجبه و ينكرها أو يرفضها ويقول عنها أنها ليست فنا وأنها لا تمت للفن بأي صلة. ذوق ياقوت أفندي هو الذوق العام، لذا عندما يواجه تلك النوعية من الثقافة المسماة بالثقافة الرفيعة عموما، والمدارس الغربية في الفن التي تستخدم أسلوبا في أعمالها يعتمد على تشويه المنظور الواقعي المعتاد ويكون فيها الكثير من ذاتية الفنان يصبح من الصعب أن يتواصل أو يتفاعل معها الشخص العادي، رجل الشارع، بطريقة إيجابية.

لاحظ تأكيدا على فكرة مشابهة لهذه النقطة في فيلم “غزل البنات” في الحوار الذي دار بين حمام أفندي ويوسف بك وهبي عن الحب والتضحية، والذي يكشف التناقض في وجهات النظر بين الواقعية والرومانسية، فنظرة حمام واقعية وعملية وتقول أنه ليس من المقبول أو الصحيح أن يضحي الإنسان بحبه وأن يقبل أن تكون حبيبته مع شخص آخر غيره إذا كانت تجد في هذا سعادتها وهناءها، لكن النظرة الرومانسية، المتجاوزة للواقعية، في الرواية المنتظر إنتاجها ليوسف بك تقول أن هذا يُعتبَر أنانية من الحبيب، الذي يُفترض أن يضحي في سبيل سعادة محبوبته ولو على سبيل سعادته الشخصية، لأنه بهذا المسلك يعلو فوق ذاته وأنانيته وهو ما يثيت قوة حبه، فتجد الأستاذ حمام يغضب ويصف الرواية بأنها “دي هتبقى رواية بايخة وما لهاش طعم”.

حوار بديع خيري لا يكتفي بهذا ليخبرنا به عن شخصية ياقوت أفندي وأنه لا يقدِّر الفن الغربي الحديث ولا يتذوقه، كان يريد أن يقول لنا إضافة إلى ذلك شيئا آخر يبدو في جملة “طيب دي صورة الراجل الطويل العريض اللي اسمه نابليون ما تقطعش خمسين قرش!”، لأن فيها سخرية واضحة من وجهة نظر ياقوت أفندي، لأن المعروف عن نابليون أنه لم يكن طويلا ولا عريضا بأي حال لكنه كان رجلا قصير القامة.

ومعنى هذا، من وجهة نظري، أن بديع خيري في سياق الحوار يغمز للمتفرج من وراء ياقوت لألّا يأخذ رأي ياقوت في هذه النقطة بالذات في الاعتبار، بما يعني أن بديع خيري، هذا الفنان الشعبي المغموس في حياة الشعب المصري وهمومه كان منفتحا على الآخر الغربي وفنونه الجديدة، وكان لديه استعدادا ليقول- ولو بطريقة غير مباشرة- أن وجهة نظر بطل روايته خطأ، رغم احترامه له وتعاطفه معه الذي يظهر في الملامح الإنسانية التي رسم بها شخصية ياقوت، ورفضه لبعض التقاليد الاجتماعية الغربية، خلال أحداث الفيلم، ولكن التقاليد الاجتماعية ومقاومتها أو قبولها وتعلقها بقضايا الهوية شيء، والإبداعات الفنية ومدارسها المختلفة وتذوقها شيء آخر، وفي هذا مؤشر على درجة مسئولة من درجات الوعي لدى هذا البديع في تلك المرحلة التاريخية.

فيلم “ياقوت” يمكن أن نعتبره من النماذج السينمائية المصرية الأولى التي تفاعلت ثقافياً مع الفن التشكيلي وعلّقت عليه ووظفته بطريقة فنية، ولو مبسطة، داخل الأحداث. وأيضا نجد فيه إشارة مهمة ومبكرة لموقف صار متكررا ومألوفا وشبه ثابت في الأفلام التي جاءت من بعده في تعاملها الساخر بالأساس، أو المتحفظ في أحسن الأحوال، مع بعض المدارس الفنية المختلفة عن الواقعية.

Visited 3 times, 1 visit(s) today