فيلم “مانموتش” لنوري بوزيد: شجاعة الطرح وجرأة المعالجة

من أهم ما عرض من أفلام في الدورة السادسة من مهرجان أبوظبي السينمائي الفيلم الروائي الطويل التونسي “مانموتش” (باللهجة التونسية وهو تعبير مقصود به “لا نموت”). وقد عرض الفيلم في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة وحصل على جائزة أحسن مخرج من العالم العربي في هذه المسابقة.

إنه عودة قوية للمخرج نوري بوزيد.. الموهبة السينمائية الأهم والأكثر بروزا في السينما التونسية منذ فيلمه الروائي الطويل الأول “ريح السد” (1986) الذي كان إعلانا شديد القوة عن بزوع موهبته.


ولعل نوري بوزيد هو الوحيد الذي لايزال يعمل ويخرج الأفلام بشكل شبه منتظم من بين أقرانه من المخرجين الذين ظهروا معه، في نفس الوقت، وفي إطار النهضة الحديثة للسينما التونسية في الثمانينيات التي كان القاسم المشترك فيما بينها المنتج الراحل الكبير أحمد عطية، بسبب إصراره على البحث عن الجديد، ودأبه الذي لا يعرف الكلل، في البحث أيضا عن تمويل لأفلامه.

موهبة خاصة
يمتلك نوري بوزيد موهبة خاصة ملفتة للنظر، في التعامل مع الممثلين، في اكتشاف موهبة الممثل أو الممثلة، والقدرة على استخراج أقصى ما يمكنه من الممثل، من طاقة تعبيرية وقدرة مميزة على الأداء أمام الكاميرا وفي علاقة الممثل- الممثلة، بغيره من الممثلين، في تلقائية مدهشة. ولعل ولع بوزيد الأصلي كان بالتمثيل. وقد أسند لنفسه دورا في فيلمه هذا، لا لكي يقول لنا إنه موجود.. هنا.. باعتباره نوري بوزيد كما كان يفعل هيتشكوك مثلا، بل لكي يؤدي دورا حقيقيا، له مغزى ومعنى في سياق الفيلم.


إنه يشبه دور “عبيط القرية” الذي كان يظهر معلقا على الأحداث في المسرحيات والأفلام المصرية القديمة (من الخمسينيات والستينيات).. ولكنه ليس رجلا ساذجا أو مجنونا (أو بهلولا كما يقال في اللهجة التونسية الدارجة!) بل يبدو وكأنه أكثر الجميع حساسية وفهما لما يدور حوله رغم أنه كفيف لا يرى، وأكثرهم أيضا قدرة على التمسك بالفن.. بالموسيقى التي يعزفها في الساحات والشوارع باستخدام آلة الأكورديون ذات النغمات الخاصة، ربما كتعليق على ما آل إليه الوضع في تونس مع طغيان تلك الهجمة البشعة على حرية الإبداع والفكر والفن. ولذا ليس مستغربا أن يجعل بوزيد شخصية العازف العجوز رمزا للماضي.. للبهجة التي بدأت في الزوال بعد أن هجمت سنوات القلق والتوتر والغضب والعنف. وهو يقضي عليه بالموت، كرجل مجهول لا يرتبط بعائلة تبحث عنه، وينتهي بالتالي إلى الدفن في مقابر المجهولين!

نوري بوزيد


موضوع الساعة
موضوع فيلم “مانموتش” هو موضوع الساعة في تونس والعالم العربي: الهجوم الضاري الكاسح على الحداثة، على كل مشاريع التحديث التي بدأت في الكثير من الدول العربية منذ الخمسنيات أي مع الاستقلال. وهي الآن تواجه ردة حضارية وتاريخية سببها ذلك الصعود الهمجي لفرق التطرف السياسي باسم الدين والجماعات والتنظيمات التي تختطف “الدين” وتجعل من التستر به أداة للابتزاز والترويع والإرهاب الفكري والجسدي!


لكن نوري بوزيد ينسج سيناريو فيلمه، ليس اعتمادا على الشعارات والشعارات المضادة، بل على حبكة قوية، تدور في أوساط الطبقة الوسطى على خلفية ثورة الياسمين في تونس، من خلال صراع رباعي يشترك فيه شابان وفتاتان: زينب وعائشة وحمزة وابراهيم.


زينب مخطوبة لابراهيم، الذي يريد أن يفرض عليها ارتداء الحجاب بدعوى أن هذه هي رغبة أمه، في حين أنها رغبته، لا بدافع متشدد، بل لأنه يريد أن يتقرب من القوى الجديدة الصاعدة في البلاد لكي يضمن له – كرجل أعمال انتهازي من هؤلاء الأثرياء الجدد- مكانا قرب القمة. لكن زينب ترفض الانصياع لرغبته، وتقاوم، وتبحث عن استقلاليتها بعيدا عن هيمنة العائلة، بل وترفض حتى الاقتران بابراهيم بحثا عن حريتها.. ألم تكن هناك ثورة؟


هذا السؤال لا يأتي بشكل مباشر في الفيلم لكنه محور الفكر في الفيلم، كما أنه الشغل الشاغل لكل القوى الباحثة عن الحرية التي شاركت في كل الثورات التي شكلت ما يطلق عليه “الربيع العربي”، والتي وجدت أن ثورتها “سرقت” وأن سارقيها هي تلك القوى التي تشد المجتمع إلى الوراء، وتحاول سحب وإلغاء كل ما كسبته الشعوب بنضالها الطويل، على الأقل فيما يتعلق بحقوق المرأة.


أما عائشة فهي رغم تحررها الفكري ومشاركتها زينب في أفكارها المتمردة، إلا أنها ارتدت الحجاب طواعية بعد أن مرت بتجربة عاطفية فاشلة، وهي عاملة، تعول أخواتها جميعا بعد وفاة والديها، لكنها تجد نفسها واقعة أولا بين ضغوط “حمزة”- شقيق زينب- الذي يحبها لكنه يريد أن يتحكم في حياتها.. وبين ضغوط صاحب العمل. لقد مر حمزة بتجربة السجن، وخرج بعد أن أصبح واحدا من أولئك “التكفيريين الجدد”.. يريد أن يجعل زينب تترك العمل وتجلس في البيت، ولا يمكنه أن يقدم لعائشة سوى الكلمات المتشددة والوعود الوهمية.


تتعرض عائشة لضغوط من صاحب العمل الذي يريدها أن تخلع الحجاب وتصعد من الطابق السفلي حيث تعمل مع مجموعة من الفتيات في صنع الفطائر والحلوى، إلى الطابق الأول حيث يمكنها أن تقوم على خدمة الزبائن، يريد أن يستغل جاذبيتها، بل ويحاول أيضا أن يتحرش بها جنسيا إلا أنها ترده عن محاولاته، دون أن تقدر على ترك العمل بسبب حاجتها إليه.


أجواء الفيلم فيها الكثير من الصراعات داخل العائلة، وتصوير جيد لتناقضات المجتمع التونسي، ما بين العلمانيين، والإسلاميين المتشددين، بين الأب الذي يتعاطف مع ابنته “زينب”، والأم التي تقمعها بشدة، بين الذين يحتفلون بالغناء والرقص، وأولئك الذين يعتبرون الاحتفال بالحياة عورة وخطيئة يجب القضاء عليها، ووسط هذه التناقضات كلها يبرز ذلك الخوف الغامض من المستقبل: ماذا سيحدث لهؤلاء جميعا؟ كيف يمكن لمجتمع متشابك على هذا النحو أن ينجو من الغرق في مستنقع العنف والعنف المضاد؟


يطرق الفيلم العلاقة بين الرجل والمرأة، وبين العلمانيين والإسلاميين، وبين الجيلين: الآباء والأبناء، ويشير إلى استمرار الثورة وتعمق التناقضات مع بادرة أمل.

نوري بوزيد مع فريق مهرجان أبوظبي


تتمثل قوة الفيلم أساسا، ليس فقط في وضوح رؤيته، وتعبيره دراميا من خلال الشخصيات المتباينة المرسومة جيدا في السيناريو، بل ومن خلال تلك القدرة المميزة لأسلوب نوري بوزيد في إدارة الممثلين وتحريك الكاميرا والاستخدام الجيد لقطع الديكور وكل إمكانيات الأماكن الطبيعية التي يدير التصوير فيها، الخارجية والداخلية.


سيطرة بوزيد واضحة على موضوع فيلمه بحيث لا يفلت منه الإيقاع العام سوى قليلا، في الجزء الأخير من الفيلم الذي يعاني من بعض الاستطرادات التي كان يمكن الاستغناء عنها، خاصة ما يتعلق بتصوير المشاجرات بين عائشة وفتاة أخرى تشعر بالغيرة منها من بين زميلاتها العاملات. وهو يقوم باستخدام لقطات دخيلة تقطع السياق بين حين وآخر، لجثمان العازف الكفيف (الذي يقوم بدوره) وهو في مراحل الغسيل الذي يسبق الدفن إلى أن يصل في النهاية إلى دفن الجثمان دلالة على انقضاء عصر.

عن الأداء
إلا أن الفيلم ينتهي، مثل معظم أفلام نوري بوزيد، نهاية رمزية، حينما يجعل الفتاتين: زينب وعائشة، يتناولان الأكورديون الذي ألقي في القمامة بعد وفاة صاحبه الكفيف، لكي يعزفا موسيقى تشع بالتفاؤل والأمل


أداء سهير بن عمارة في دور عائشة، أداء يأسرك من أول ظهور لها في الفيلم، ومع استمرار ظهورها، بشخصيتها القوية المميزة، وتعبيرها الواثق عن تقلبات الشخصية، ضعفها وقوتها، ندرك أننا أمام ممثلة موهوبة سيكون لها شأن كبير في السينما بلا أدنى شك. إنها تتعامل مع شخصية عائشة بجدية كبيرة، كما تعبر بشكل تلقائي بوجهها وحركة جسدها وإيماءاتها وصوتها.


ولاشك أيضا في أن رانية القابسي التي تؤدي دور زينب، طاقة تمثيلية هائلة، تملأ الفيلم حيوية وحضورا بأدائها تلك الشخصية المتمردة الصاخبة التي تعرف على الأقل، ما الذي لا تريده. إنها أيضا موهبة جديدة ستصعد بقوة إذا ما أتيحت لها الفرصة.


ويعبر بهرام العلوي في دور حمزة بهدوء وثقة عن الضياع الفكري لشاب يتطلع إلى حياة “طبيعية” لكنه يجد نفسه متأثرا كثيرا بأفكار متشددة أصبحت وباء العصر بين ابناء جيله، لكن حبه لعائشة واقتناعه بمنطقها ورغبته في التمسك بها يدفعه إلى  الصدام في النهاية مع جماعة المتطرفين ويعلن لهم جهارا تخليه عن التشدد، ورغبته في أن يبدأ حياة “طبيعية“.


مانموتش” فيلم شجاع يعالج موضوعه، بمهارة ودقة، ويتخذ موقفا واضحا لا لبس فيه من قضية العصر التي أصبحت تهدد وجود السينما نفسها كفن حديث.

ملحوظة: هذا المقال نشر أولا في موقع “الجزيرة الوثائقية”

Visited 43 times, 1 visit(s) today