فيلم “على جُّثّتى” والتحليق بأجنحة مكسورة!

ليس من الصحيح أبداً أن أفلام الفانتازيا معناها غياب المنطق، ولكنها تعنى القدرة على صناعة منطق مواز، بناء مُتقن من الأحداث والتفاصيل التى لها قانونها الخاص المستقلّ، الذى يجب أن تلتزم به من البداية حتى النهاية، من هذه الزاوية، فإن كتابة أفلام من هذا النوع تتطلب جهداً لايقل بأى حال عن الأفلام التى يطلق عليها صفة “الواقعية”، يحتاج كاتب تلك النوعية خيالاً خصباً محلّقاً لا يطير إلا بأجنحة من الصنعة المُتقنة كتابةً وتنفيذاً.

وقد بدأ الموسم السينمائى المصرى لعام  2013، بأحد أفلام الفانتازيا للنجم أحمد حلمى بعنوان “على جثّتى”، من تأليف تامر إبراهيم فى أول أعماله السينمائية، ومن إخراج محمد بكير فى أول أعماله للشاشة الكبيرة، بعد أن أخرج للتليفزيون مسلسلين ناضجين وناجحين هما “المواطن إكس” و”طرف تالت”.

طرقت السينما المصرية فى العام الماضى أبواب الفانتازيا بصورة مرتبكة الى حد كبير من خلال فيلمى “بابا عزيز” و”الآنسة مامى”، افتقدت التجربتان الى تماسك السيناريو، والى الربط السلس بين الواقع والخيال، غلبت أيضاً المباشرة والقفز الى الفكرة و”المورال”، الحقيقة أن تجربة حلمى الجديدة، تكاد تكرر نفس الأخطاء والمشكلات بحذافيرها، مضافاً إليها مشكلات التجربة السينمائية الأولى للمؤلف والمخرج، والأخير بدا أقل امتلاكاً لأدواته وهو يقدم عملاً أقرب الى الكوميديا.

مغامرات حلمى

لابد من الإشارة قبل كل شئ الى أن أحمد حلمى يحاول أن يقدم ما يمكن اعتباره مغامرة مختلفة  فى كل فترة من الفترات، لو راجعت أفلامه (حوالى 22 فيلماً) ستجد أن نجاحه الجماهيرى الهائل، يشجّعه فى كل مرة على الذهاب مع جمهوره الى منطقة أقرب الى الكوميديا ذات المواقف الإنسانية، مزيج من الضحك ومسحة من التأمل الحزين، يحدث ذلك تدريجياً، وبدون طفرات.

المسافة واسعة بين “ميدو مشاكل” بطابعه الهزلى الصاخب، و”آسف على الإزعاج” بدراسته شبه المأساوية لحالة من الفصام العقلى، والمسافة كبيرة أيضاً بين أفلام كوميدية خفيفة ومسلّية جيدة الصنع مثل “جعلتنى مجرماً” و”مطب صناعى” و”ظرف طارق”، وفيلم آخر فائق التسلية ولكنه أكثر تركيباً وتعقيداً فى بنائه مثل “كده رضا”.

تستطيع أن تلمح اكتشاف حلمى لهذه الخطوط الإنسانية المؤثرة ربما منذ دوره فى “السلم والثعبان” و”سهر الليالى”، ولكن اختياره لبطولة أفلام تمتزج فيها الضحكات بالدموع تبلور بوضوح كامل منذ “آسف على الإزعاج” و”امتد الى 1000 مبروك”، الفيلم الذى يمتلك فكرة مأساوية وجودية رغم اسمه ومواقفه الخفيفة، وصولاً الى فيلم “إكس لارج”، الذى حقّق ما يناهز 30 مليوناً من الجنيهات، والذى ينقل معاناة إنسان تفسد بدانته حياته، بل إنها تكون سبباً فى وفاه خاله (لعب دوره الممثل الكوميدى إبراهيم نصر).

هذا الوعى واضح تماماً فى مسيرة حلمى، ولكنه لايخلو من العثرات التى ترجع بالدرجة الأولى الى معالجات السيناروهات لا أفكارها، سواء كانت تلك الأفكار أصلية أو مقتبسة، فيلم مثل “عسل أسود” يبدو مفككاً ومفتعلا، بينما عندما تحسّنت الصنعة، أصبح لدينا فيلم أفضل هو “بلبل حيران”، ولكن ظل لافتاً، فى كل الأحوال،  أن المسافة كبيرة حقاً بين “ميدو مشاكل” و”صايع بحر” من ناحية، و”إكس لارج” و”على جثتى” من ناحية أخرى، هذا ممثل يبحث ويريد أن يكون مختلفاً، وهو أمر إيجابى يستحق التنويه.

ولكن الأفلام الجيدة ليست بالإرادة وحدهأ، لابد أيضاً من الشغل على أهم عناصرها وهو السيناريو، مشكلة “على جثتى” ليست فى فكرته سواء كانت أصيلة أو مقتبسة، المشكلة فى بناء السيناريو بصورة مرتبكة فى مناطق كثيرة، أحدثت بدورها ارتباكاً لدى المتفرج، لم تأخذ الشخصيات وكثير من المشاهد حظها من الإحكام، فطار الخيال بأجنحة مكسورة، رغم صدق النوايا، ومشروعية الطموح.

 موت وغيبوبة

يقترب “على جثتى” من “1000 مبروك” فى أن فكرته مأساوية ترتدى ثوباً كوميدياً مما يتطلب مجهوداً خاصاً فى المعالجة، الفيلمان فى جوهرهما محاولة للهروب من الموت الذى يسيطر بشبحه على العملين، ولكن “على جثتى” يظل لفترة طويلة نسبياً متأرجحاً بين الموت والغيبوبة، حتى يستقر على انطلاق مشاهد الفانتازيا من عقل رجل دخل فى الغيبوبة بسبب حادثة، يلتقى رجلاً آخر يعانى أيضاً من الغيبوبة، أى أن الشبحين الاثنين بين الحياة والموت وليسا أمواتا بالفعل، بخلاف صورة شبح الميت العائد الأكثر شيوعاً، كما فى افلام مصرية وعالمية مثل “عفريته اسماعيل ياسين”، أو فيلم “الشبح” الذى قامت ببطولته ديمى مور وباتريك سوايزى.

لا بأس في ذلك، ولا جدال فى أن عودة شبح إنسان يضع قدماً فى الحياة، وأخرى فى العالم الآخر، يمكن أن يصنع خيالاً ثرياً وظريفاً، ولكن خبرة المؤلف لم تسعفه لا فى رسم شخصياته، ولا فى تعميق خطوطه، ولا فى الإقناع بالانتقال من الخيال الى الواقع وبالعكس، وإن ظلت لبعض المواقف طزاجتها وظرفها، خاصة عندما يكون الشبح الأول هو أحمد حلمى، والشبح الثانى هو حسن حسنى، وبينهما من الكيمياء الفنية ما لايمكن الجدل حوله.

كانت أولى المشاكل فى أننا لم نقتنع من خلال المشاهد الأولى السريعة، بأن بطلنا رءوف (أحمد حلمى) يستحق كل هذه الكراهية من موظفيه أو من أسرته الصغيرة بعد دخوله الى الغيبوبة، بالتأكيد الرجل الذى يمتلك معرضاً ضخماً ليس مثالياً، ولكنه ليس شريراً وليس مؤذياً على الإطلاق، هو يحاول فقط توفير إدارة صارمة فى عمله، يرفض طلبات موظفيه (منهم إدوارد وآيتن عامر وعلا رشدى وسامى مغاورى) بناء على معرفته بشخصياتهم غير المسؤولة نراها بطريقة الفلاش فوروارد، ولكن الرجل يصرّ رغم كل شئ على ظهور موظفيه فى إعلان عن معرضه العملاق.

أما أسرته المكونة من زوجته سحر (غادة عادل) وابنه رفعت (مروان وجيه)، فهى تعانى معه بسبب رغبته فى إبعاد الزوجة عن العمل حتى لا تتعرض للغزل من الآخرين، ورغبته فى ضبط سلوك ابنه لكى يكون متفوقاً مثل والده المهندس الناجح، مجرد عدم توافق أسرى نراه فى عشرات الأفلام دون أن يكون مدعاة للكراهية العميقة، بل إن رءوف يقوم بإهداء زوجته فستاناً أنيقاً، ونراه وهو يرعى كلبه المفضل بحب وسعادة.

لن نعرف أيضاً الكثير عن تفاصيل صراع رءوف فى عالم الأعمال، وستكون المشكلة الثانية فى غرابة الطريقة التى سينتقل بها رءوف من عالم الحياة الى عالم الغيبوبة: فجأة نشاهد الكلب غارقاً فى الدم دون أن نعرف السبب، يأخذه رءوف بسرعة الى المستشفى، فجأة تقفز السيارة، وتغرق فى الماء!

ينتقل رءوف الى عالم آخر مختلف، الناس لاتراه على الإطلاق، مع أنه يراها أمامه، يصرخ فلا يسمعه أحد، فجأة يعثر على شبح آخر هو المستشار نوح (حسن حسنى) الذى سيصاحبه فى رحلة لاكتشاف العالم، واكتشاف أسرته أيضاً، لن نعرف أى شئ عن ماضى المستشار، كان يمكن أن يكون له خط مواز، تنويعة على نفس النغمة: مراجعة الذات تحت الغيبوبة، ولكن ظل نوح مجرد مرافق، وظيفته الأولى إلقاء الضوء على رءوف وحياته، ودمتم .

يكتشف رءوف مع نوح أن موظفى الشركة يحتفلون بغيبوبتة، كما أن الزوجة ترقص والابن سعيد بغياب الأب، تظهر شخصية يجسدها خالد أبو النجا سنعرف بعد ذلك أنه صاحب شركة منافسة، ثم يتحدث فى نهاية الفيلم عن بيزنس خاص لا نعرف تفاصيله، ثم يشك رءوف فى وجود علاقة بين الزوجة ورجل الأعمال الشاب، الذى كان يستحق الإشارة إليه فى المشاهد الأولى السريعة.

المشكلة الثالثة

تظهر المشكلة الثالثة فى اكتشافنا أن الحكاية غيبوبة وليست موتاً، ننتقل فجأة الى المستشفى فنشاهد رءوف وقد استفاق، وأخذ يُسقط هلاوسه التى رأيناها على الجميع، يبدو السيناريو مرتبكاًوحائراً  بين تهيؤات مريض تحت الغيبوبة، وبين اكتشافات أشباح لأشياء مجهولة فى حياة زائفة، نظل نتأرجح بين الحالتين، تختلط الأمور بشدة، وتزيد التناقضات من زوجة تزور زوجها، الى امرأة تريد أن تتحرر، وتحلم بالسيطرة على شركة الزوج، وتصل التناقضات الى درجة قيام مريض تحاصره الغيبوبة، بعمل توكيل عام لزوجته التى يشك فيها، والأغرب أنه سيعود من جديد الى غيبوبته، لمجرد أن يتواصل ظهور الشبحين!

اختلّ التوازن بين المستوى الفانتازى والآخر الواقعى، وامتلأ المستويان بثغرات هائلة، أخذ المستشار يتحدث الى رءوف بكلمات كبيرة عن ضرورة الالتزام بالقانون وبروح القانون على حد سواء، وكأن رءوف المسكين ارتكب جريمة قتل المتظاهرين فى ثورة يناير، المدهش أن رءوف فى غيبوبته الإفتراضية، شعر بالذنب، فقرر  بعد الإفاقة الثانية( اللى ساعة تروح وساعة تيجى حسبما يريد المؤلف) أن يصحح أوضاع موظفيه رغم شكه بهم، وان يسمح لزوجته بالعمل، وان يترك ابنه لطفولته، بعد أن كان يطلب منه قراءة مقدمة ابن خلدون وديوان البحترى.

فجأة يعود رءوف الى الغيبوبة، يتخذ الأطباء قراراً بفصل الأنابيب عنه، يقرر الشبح رءؤف الاستعانة بالكلب لتنبيه الزوجة بأن زوجها مازالت فيه الروح، وبصرف النظر عن أن الكلب أصبح بذلك أكثر وعياً بالحالة من الأطباء أنفسهم،  فإن المؤلف، الذى تاهت منه الحكاية، نسى أن الكلب نفسه لا يمكن أن يراه أحد مثل رءوف والمستشار، لأن الحيوان المسكين إما أنه ميت، او فى الغيبوبة وفقاً لمنطق الفيلم الساذج.

ما علينا، استفاق رءوف الاستفاقة الأخيرة، وكان أول مافعله الذهاب الى المستشفى التى يرقد فيها المستشار، التجربة الشبحية مع صديقه ما زالت فى الذاكرة، وصداقة الأشباح ما تتعوضش، ينتهى الفيلم بالمستشار مع رءوف فوق أحد الإعلانات الضخمة، يحاول تذكيره برحلتهما الشبحية المضطربة دون جدوى، فيكتفى بأن يلتقط له صورة بالموبايل!

مأزق “على جثتى” ليس فى فكرته، ولكن فى هذا السيناريو “اللجلج” الذى يصعد ويهبط ويدور ويلف، الشخصيات حول رءوف كارتونية، لا تعرف مثلاً كيف تعيش زوجة مرعوبة من زوجها وخانعة أمامه  الى هذه الدرجة، ولن تفهم لماذا تماسكت وهى تترنح من السُكر، ورفضت أن تقيم علاقة مع الشاب رجل الأعمال، من الصعب أن تفسر طبيعة العلاقة بين رءؤف وكبير موظفيه (سامى مغاورى)، هل هى حب أم كراهية أم أنها حسب الغيبوبة؟

اجتهاد

اجتهد حلمى وحسن حسنى الى أقصى ما يستطيعان وخصوصاً فى المواقف الضاحكة، ولكن السيناريو لم يسعفهما بما هو أبعد من بعض الاسكتشات الظريفة والسريعة، بداية الفيلم باستعراض أبطاله وهم نائمون، ونوم حلمى فى إشارة المرور، كل ذلك كان استهلالاً جيداً لفيلم فانتازيا، مقدمة تجعلك تتأهب لحدث غريب أو غير طبيعى قادم،  بقية الممثلين فقد كانوا أقرب الى ضيوف الشرف تماماً مثل أحمد السقا وخالد ابو النجا اللذين ظهرا فى مشاهد قليلة، أفلت  إيقاع الفيلم من مخرجه بكير ومونتيره أحمد حافظ، طالت بعض المشاهد، وأفلت التأثير الكوميدى لبعض الإفيهات، تميزت صورة أحمد جبر وديكورات رامى دراج الفخمة، وظهرت الفوارق البصرية بوضوح  بين عالم الواقع والفانتازيا، ولكن ظلت موسيقى أمير هداية حائرة بين خفّة بعض المواقف، وعمق مشاهد أخرى تقترب من المواعظ المباشرة، عن ذلك الإنسان الذى يظل يجرى حتى يدركه الموت أو الغيبوبة أو قطار الصعيد .. أيهم أقرب أو أسرع.

“على جثتى” يبدو، فى التحليل الأخير، محاولة غير ناضجة فى مسيرة أحمد حلمى، الطموح كبير وهائل ولكن طائر الخيال يزحف على الأرض، ذلك أن أجنحة الصنعة فى حدودها المتواضعة، وليس أدل على ذلك من أن عودة البطل الى الحياة فى كل مرة، كانت تقتل أفضل مافيه: أشباحه الحرة التى لا يراها أحد.

Visited 85 times, 1 visit(s) today