فيلم “توشيا “: عزلة المرأة وسط المجتمع الذكوري

“توشيا “، افتتاحية آلية موزونة (عقلانيا) للأغنية الأندلسية، لكنها في شريط رشيد بلحاج، ترمز لوحدة المرأة الجزائرية، وسط مجتمع رجالي، مجتمع يقف حدا بينها وبين العالم الخارجي، بينها وبين طموحاتها وأمالها في العيش بكل حرية، فتلجأ إلى الأحلام والخيال للهروب من روتين الحياة اليومية، لأن الأحلام وحدها كانت قادرة على تحويل مساحة ذلك البيت ( الجزائر)، بجدرانه وأسواره العالية، إلى فضاء حقيقي تعيش وتتنفس فيه “فلة “، رفقة صديقتها الوحيدة “أنيسة ” وغيلمها “سندباد” نسائم الحرية.

يذكرنا الفيلم، إلى حد بعيد، بتحفة فريد زينمان “جوليا”، الذي تم انجازه سنة 1977، عن قصة حقيقية كانت عبارة عن مذكرات ضمها كتاب “بينتينتو” للكاتبة الأمريكية ليليا هيلمان، ويتطرق فيه إلى هموم المرأة ومشاكلها ، من خلال قصة صداقة فريدة من نوعها تجمع امرأتين على الرغم من اختلاف طباعهما واهتماماتهما وطموحاتهما.

 إذا كان المخرج الأمريكي قد حاول إعادة الحياة إلى فترة الثلاثينيات من القرن الماضي، فإن محمد رشيد بلحاج، حاول أن يغطي مرحلة تاريخية طويلة نسبيا من تاريخ الجزائر المعاصر، ما بين سنوات المواجهة والنضال ضد الاستعمار الفرنسي وهي المرحلة التي صادفت طفولة بطلة الشريط “فلة “، والسنوات التالية، المتمثلة في انهيار الأحلام والطموحات قبل مجيء الوصول لسنوات العشرية السوداء، التي هددت مصير وطن.

“فلة” بعبقها النسائي وحضورها الإنساني، شاهدة على ما يجري ويحدث، لأنها تعيش المتغيرات بجرأة كبيرة وإحساس جد عميق، الذاكرة غير مثقوبة تختزن صورا واضحة لأحداث مرة لم تمسسها آفة النسيان، ترى في الحاضر الماضي وفي الماضي الحاضر، رعب واغتصاب وتطرف.

آثار غائرة

 منذ مشاهد البداية، تظهر لمسات بلحاج الإخراجية المعبرة بقوة والموحية بعمق والمتناغمة في نفس الآن إلى حد بعيد : فالأصوات الهادرة والشعارات المتطرفة القادمة من الشارع، تترك آثارا غائرة على نفسية فلة، الحجارة التي تكسر زجاج النافذة، والمكالمة الهاتفية المجهولة المهددة، تعكس حياة قلقة تعيشها المرأة الجزائرية، عزلة وتعاسة وهزيمة، الدائرة تزداد انغلاقا، والحرية التي كانت تحلم بها مع صديقتها أنيسة، ودعتها في أول يوم من أيام الاستقلال والاحتفالات لازالت قائمة ، تعرضتا لاغتصاب يحمل أكثر من معنى، ليتمطط هذا الاغتصاب ويصبح فيما بعد ، أي اليوم، حصارا عاما مضروبا على الأنثى وإجهازا على ما تبقى من حريتها، ففقدت القدرة على التعبير عن أرائها، أوحتى تجاوز عتبة دارها، إن كانت لها دار، هي التي كانت في أوقات المحنة الماضية، تلاعب سندباد، تحسب خطواته المتثاقلة البطيئة، تغمس الجسد في مياه البحر وتمسح الرمل عن جبهتها، تعانق أشعة الشمس بضفائر شعر مرمية دون عناية فوق كتفيها.

 التوهج يزداد والمأساة تكبر مع تقدم فصول الفيلم والأيام ، والسيناريو الذي كتبه، رشيد بلحاج وكريستينا باتريليني، بصياغته الشفافة الرقيقة، فضلا عن حرفيته العالية، استطاع أن يبرز جوانب عدة من شخصية “فلة “، وصديقتها أنيسة بعوالمهما الساحرة  وأحلامهما اللذيذة المجهضة. رصد قاس للحياة، حياة المرأة الجزائرية.

يتمتع فيلم “توشيا ” بالإتقان الفني الذي تمتعت بها بعض أشرطة رشيد بلحاج، سواء منها الأولى أوالتالية، خاصة أفلام “لوس زهرة الصحراء” و”الخبز الحافي” و”عطر الجزائر”، بعيدا عن الثرثرة الزائدة أو التفاصيل المربكة، التي قد تساهم في الحد من تطور السرد والتصاعد الدرامي للأحداث، قريبا من القوالب السينمائية التي  تتوالف فيها الصورة الجميلة الملتقطة بعين ذكية، المشكلة من مشاهد متراصة كلوحات تشكيلية (لا عجب في ذلك لأن المخرج فنان تشكيلي)، وبحوارات موجزة بليغة تتساوق مع موسيقى شفافة تعكس عمق المأساة وتقدم لنا شريطا صوتيا ممتعا، حيث غياب الشعارات الضاجة والهتافات الفارغة.

أسوار القصبة

 كل مشهد أو لقطة تنضح بالمعاناة، معاناة المرأة في واقع عاش ويعيش تاريخا متفردا من الاغتصابات المتتالية، اغتصاب السلطة واغتصاب الحرية واغتصاب حقوق الطفل وقبل ذلك الإجهاز على أحلام المرأة.، وما يعمق عذوبة/ عذابات التبليغ في الفيلم، الفضاء العام للحكي الفيلمي، الذي يتشكل عبر سرد يتقاطع فيه الروائي بالتسجيلي، ليضفيان معا صبغة خيالية بعيدة عن الواقع.

 لكن في نفس الآن، قريبة منه، وصبغة تاريخية مثقلة بالأحداث والأحزان والأفراح، فأحزان وأفراح الحاضر تبحث لها كاميرا المخرج عن جذور في الماضي، تحملنا معها عبر سراديب ملتوية في قاع دارة تقليدية داخل أسوار حي القصبة، تتحرك بأناة لتنغرز انغراز الإبر الحادة في مسام الجسد، من اجل الكشف عن الحركة والحيوية وسط أمكنة القهر والرعب غير المنقضية، والتوسل الجميل بذاكرة غضة طرية تغرف من الأحلام والكوابيس والرؤى، وتصطاد لحظات التذمر والتوحش والرغبة، صوت الحوامة، يكاد يطغى في بعض المشاهد على الصورة.

 لكن “فلة” ومعها “أنيسة” تصنعان قبوا لأسرارهما، يخلقان عوالم خاصة بعيدة عن الضوضاء وهرج المارة، حتى عندما يلعبان فوق السطح يطلقان العنان للخيال، يصعدن نحو السماء المرصعة بنجوم الحرية، “فلة “ترفع هناك العين ثم الكف إلى رب الأعالي، تطلب عودة الأب الغائب والحرية المصادرة واللحظات المنسية من دفتر الأيام والأحزان.

 الكاميرا بدت في جميع المشاهد، خاصة مشاهد السطح، جد بليغة في نقل رزمة المعاني، تحمل قدرا كبيرا من الجدية ودرجة عالية من الوعي والبراعة في تناول واقع مرئي كالح، وآخر لا مرئي يتمترس وراء الحواجز النفسية، مشاهد بمذاق ورائحة ومضامين جمالية تشكيلية ثرية ودالة.

بلاغة الفيلم ازدادت قوة مع المشاهد الوثائقية لقطعان بشرية هائجة لا علاقة لها بالروح والعقل، وأخرى ملحمية استعارها المخرج من شريط “معركة الجزائر” للمخرج الايطالي جيلو بونتيكورفو، مشاهد توثيقية لتظاهرات شرعية أطلقها الشعب الجزائري ضد المحتل الفرنسي، الاستعارة هنا، تعلمنا كيف نستفيد من الأعمال السينمائية الجادة، لتوثيق تاريخنا المهدد بالزوال والنسيان، التظاهرات تزداد حدة و”فلة “يزداد إيمانها قوة بدورها كامرأة، وإنسانة مسؤولة أمام نفسها وأمام وطنها، فتصر على التوجه إلى مقر التلفزيون لتباشر عملها، رغم التهديد والوعيد، فاعلة كانت ويجب أن تظل كذلك إلى النهاية.

الروائي والتسجيلي

 رغم التكسير الذي تعرضت له الروائية بالتوثيق والتسجيل لبعض الأحداث، فإن الفيلم يبقى مخلصا لخطه الروائي من حيث تصاعد إيقاعية الحدث ووفيا لسينما بعيدة عن الهذر وتكرار ما لا يجب تكراره. فرشيد بلحاج بدا مهموما بالبحث عن أسلوب سينمائي  يتميز بالتفرد وفي نفس الوقت الاستفادة من التجارب السينمائية العالمية الكبيرة، خاصة الأفلام السياسية الايطالية الشهيرة، لقد أدرك  أن الغوص في أعماق الواقع والبحث في التاريخ يمكن أن يحققا له الأسلوب المطلوب، أسلوب مستند على رؤية واعية غير متحاملة وغير غارقة في عقلية الانتقام بالصورة والصوت.

قد يؤخذ على فيلم “توشيا”، بعض الارتباك، خاصة في مشهد الاغتصاب، اغتصاب يتم يوم فرحة الاستقلال، من طرف رجال لا نعرف عنهم شيئا إلا أنهم يحملون بنادق رشاشة  وفخاخ لصيد الطيور، وكما قال لي الناقد المصري كمال رمزي ونحن نشاهد الفيلم معا ذات مهرجان سينمائي إفريقي بالمغرب: “ما معنى الاغتصاب يوم الاستقلال؟ فكرة وحشة”، فعلا فكرة وحشة بمشهد ذي نزعة رمزية غليظة، إضافة إلى أن تنفيذ ماكياج “أنيسة” بعد اغتصابها، بدا جد مفتعلا، فقاعة اللون الأحمر على الوجه تستفز العين.

  لكن ملاحظات مثل هذه الملاحظة، وغيرها من التفصيلات البسيطة، لا تغير من حقيقة أننا كنا أمام فيلم من أهم الأفلام الجزائرية، التي حاولت تكسير حدة الدوائر التقليدية للسينما العربية والخروج في وقت متقدم نسبيا، عن ثقافة التطبيل والتزمير والوفاء لأفلام الثورة المنقضية، وبالتالي  يمكن القول: “توشيا “كانت خطوة ثانية ثابتة في رحلة محمد رشيد بلحاج السينمائية، ومحطة أساسية، فتحت له باب الحصول فيما بعد، على تمويلات لمشاريع أفلام اكبر ميزانية وأكثر جماهيرية.

Visited 36 times, 1 visit(s) today