فيلم “تحت الأرض” عودة إلى سينما الصدمة والجمال
حينما تكون مشاعرك صادقة، تأتيك الخيانة لتضرب بقوتها فى أعماق روحك، لكن ذلك حينما تعلم الخائن وتحدده، والزمن كفيل بعلاج روحك من أثارها. أما إن كنت لا تعلم الخائن أو تستشعر بخيانته أصلا – لأنه الأهل الوحيد للثقة – فأنت إذن ستكون تحت الأرض.
قد تكون تلك هي الأطروحة الأصيلة فيما طرحه المخرج – اليوغسلافي سابقا والصربي حاليا – اميركوستاريتسا في فيلمه الرائع “تحت الأرض” Underground الحائز على جائزة السعفة الذهبية فى مهرجان كان لعام 1995، والذي شارك في كتابة الفيلم مع الكاتب و السيناريست دوسان كوفاسفيتش ليبهرا سويا كل من شاهد فيلمهما، وتساءلوا سؤالا واحدا هو: كيف كتب هذا الفيلم ؟
فطريقة السرد والأحداث والشخصيات فريدة من نوعها، فهي مزيج رائع ما بين السريالية والواقعية في إطار توثيقي لتاريخ بلد تفتت بعدما ضُرب لسنوات عدة منذ العام 1941 وحتى نهاية التسعينيات من القرن العشرين، ثم التحلل الكامل في العام 2006، فيوغوسلافيا الموحدة بطوائفها المتعددة، تقطعت أوصالها بأيدي أبنائها والدول الكبرى التي لا تريد لتلك القوة الشيوعية أن تستمر على شاطئ البحر الادرياتيكى، فمن دولة واحدة متنوعة الثقافات والديانات واللغات، وحدهم عرقهم الواحد وجغرافيا بلدهم، إلى ست دول متناحرة ومتحاربة.
تناول الفيلم أحداث يوغوسلافيا من العام 1941 من الحرب العالمية الثانية وحتى بداية الحرب الأهلية في 1991 ليعلن في بدايته تلك الجملة المؤلمة “موجه إلى أبنائنا وأطفالهم، في قديم الزمان كانت هناك أرض عاصمتها بلجراد” بطريقة الكتابة على الشاشة والتي استخدمت في أفلام السينما الصامتة لتشعر انك ستشاهد فيلما قديما صامتا، ثم تفاجأ بفريق من عشرة أفراد يعزفون على آلات نفخ نحاسية متنوعة، وهى الآلات التي تشتهر بها شبه جزيرة البلقان للتعبير عن فرحهم وأعيادهم لكنها مع الزمن تحولت لأبواق حرب مستمرة.
تلقى فوق فريق العزف أموال تتلقفها أيديهم وهم مستمرون بالعزف في وقت متأخر من الليل، ليظهر ظلهم مع ظل عربة يجرها حصان يركب فوقها رجلان هما مصدر الأموال وباعث الهرولة.
ها هو ماركو اللص المحترف يلقى بالأموال التي قام بسرقتها لتوه ويشاركه الاحتفال صديقه بلاكى الكهربائي الثائر، والذي يضرب بمسدسه في الهواء دون السيطرة على سعادته الغامرة تحت تأثير الخمر والنجاح، حتى انه يقرر إطلاق النار على العازفين الذين يتجنبون طلقاته، ويستمرون في تلقف المال، ثم يدخلان المدينة ليلا والناس نيام كفاتحين منتصرين، ليراهم إيفان أخو ماركو الذي يتفاخر بأخيه وصديقه، فيعلن ببغائه الواقف على كتفه رأيه فيهم بكل صراحة “البلهاء”.
ما أن يصلا إلى بيت بلاكى تخرج إليه زوجته الحبلى لتعنفه وتدخله إلى منزلها، ثم يكمل ماركو والفرقة طريقهم داخل سوق المدينة الذي ينتشر فيه مجموعة من جنود الجيش، والبائعين المنهمكين بتحضير بضاعتهم للبيع، والكلاب النابحة والدجاجات الساهرة، ومنه إلى إحدى الساحات المليئة بالمومسات فيختار إحداهن لتشاركه فرحته بانتصار الليلة. كانت تلك هي افتتاحية الفيلم المدهشة.
قسم كوستاريسا فيلمه إلى ثلاثة أقسام ضمنية “الحقيقة، الوهم، ماذا لو لم يحدث ما حدث!”.
وهو يضعك طوال الفيلم في حالة من عدم اليقين، وتتساءل أهذا هو الواقع أم أننا نعيش بمجرد فيلم اسمه الحياة.
أما الحقيقة فهي بلاكى المحب لبلده الذي يحاول الدفاع عنها ضد الغازي النازي، وزوجته وولده الذي يتمته الحرب، وصديقه ماركو الذي يثق فيه ثقة عمياء ولا ينقلب عليه أبدا إلا حينما يشك في علاقته بمعشوقته الممثلة الشابة اللعوب نتاليا التي تتلاعب طوال الفيلم بمشاعرهما، ولا تعلم هل هي تحبهم حقا أم لديها دوافع مصلحة شخصية بحتة تجدها معهما، حتى أنهما يشتركان في تحريرها من قبضة الضابط الألماني المتيم بحبها أيضا، ثم تهرب منهما لتعود للضابط وتضع بلاكى تحت الآسر والتعذيب.
يستغل ماركو حب بلاكى ويوهمه هو ومجموعة من الناس بأن عليهم أن يختبئوا تحت الأرض في مخبأه الخاص ليصنعوا السلاح من أجل الدفاع عن يوغسلافيا ويراقبهم مع نتاليا من فوق الأرض ويخلق لهم كل الظروف الباعثة على التصديق، وتشاركه نتاليا في الكذب الذي يجيده ماركو بجدارة، لكنه في الحقيقة يبيع السلاح لصالحه ويستولى على الأموال طوال سنوات الحرب وحتى بعد انتهائها بسنوات عديدة ووصول تيتو للحكم، ليصبح ماركو عضوا هاما في الحزب الشيوعي الحاكم. ولمدة تزيد عن العشرين عاما يبقى الناس تحت الأرض دون إدراك للزمن فلا شمس تسطع ولا قمر يهل، بل أنهم يتزاوجون وأطفالهم يكبرون ويلعبون في المخبأ، غير مدركي وجود العالم فوقهم وإيمانهم أن ما يعيشون فيه هو عالمهم الحقيقي والوحيد وتتجلى تلك الحقيقة في عدم إدراك ابن بلاكى للفرق بين الشمس والقمر أو حتى كيف يضرب ويتعارك عند خروجه لأول مرة فوق الأرض.
تأتى لحظة إطلاق القرد سونى طلقة من دبابة تتواجد في المخبأ تجاه الموجودين تحت الأرض – يوم زفاف ابن بلاكى – أدت لفتحه بالجدار توصلهم إلى مجموعة من الأنفاق تصل بين العواصم الأوربية فيتشتتوا بداخلها، ليخرج بلاكى وابنه الذي يرى العالم للمرة الأولى ليشاهدا مجموعة من الجنود الألمان ومجموعة أخرى بزى مدني، فيعتقد أنهم مواطنون يعذبون من قبل الألمان خاصة بعدما تأكد من وجود الضابط الالمانى الذي عذبه من اجل نتاليا وسطهم، لكن ابنه يلاحظ وجود احدهم يشبه أباه، لكن بلاكي يعترض على تشبيه بذلك الرجل بغرور، ولم يفهم أن ما يجرى ليس سوى فيلم سينمائي يمجد المقاومة ضد النازي يتم تصويره بممثلين يشبهون الأبطال الحقيقيين، فتأخذه الحماسة ويطلق النار على الممثل الذي يقوم بدور الضابط ويهاجم الباقين بشراسة.
تستمر الأحداث ويموت تيتو وتقام له جنازة مهيبة يحضرها زعماء العالم، ويظل ماركو في السلطة والواجهة، حتى تبدأ الحرب الأهلية في 1991 ويصبح بلاكى أحد قادة الحرب الصرب، ولا يعلم حتى لحظتها خيانة ماركو و نتاليا له، لكن من علم الحقيقة هو إيفان اخو ماركو الذي ينتقم منه ويقوم بقتله حينما يحاول ماركو إثنائه عن فعله بقول ” قتل الأخ خطيئة ” ثم يشنق إيفان نفسه، ويحزن بلاكى على أصدقائه الذين وجدهم محروقين فوق كرسي متحرك يلف حول صليب مقلوب بعدما تعرف عليهم من أوراق هويتهم.
قبل مشهد الختام يأخذنا تحت الماء هذه المرة -لا تحت الأرض – ليقابل بلاكى كل أحبائه وكأنه يقول أن الماء الذي نقابل في جوفه الأموات الذين نحبهم، حيث نغرق لنحيا، ونطفو لنحيا أيضا. فيأتي مشهد الختام ليربطنا بمشهد الافتتاحية، والذي يخرج فيه مجموعة من الأبقار من الماء ليصعدا فوق يابسة يحتفل عليها بلاكى بزواج ابنه الوحيد في وجود كل من شاركه حياته و ماتوا جميعا، وفى أجواء من المرح على نفس الخلفية الموسيقية الصاخبة بمشهد الافتتاحية لنفس فريق العزف، يقول بلاكى لزوجته ” سنحيي الماضي “، ويطلب ماركو من بلاكى الغفران فيجيبه ” الغفران ممكن، لكن النسيان لا “.
تأتى الرسالة الأخيرة من إيفان الطيب محب الحيوانات المتلعثم اللسان ليقول بعض الكلمات بتفاؤل ودون تلعثم، ليعيدنا إلى كلمات البداية ” في قديم الزمان، كان هناك أرض “. ثم تنفصل تلك اليابسة عن الأرض وكأن العالم يرفض السلام،الصفاء، المحبة، الصدق والفرح.
تنزل على الشاشة جملة صادمة “هذه القصة لن تنتهي أبدا”.
نعم فهي قصة عن الطمع، الخيانة، التناقض الإنساني، الوطنية وخديعتها، استغلال المحبة من اجل المصلحة، الشعور بالذنب والانتقام.. فهل هذه قصة يوغسلافيا وحدها أم قصتنا نحن أيضا.
تميز كوستا بتوظيفه المتقن للحيوانات في أفلامه دائما كـ “زمن الغجر” Time Of The Gypsies1988، “قط اسود قط ابيض” Black Cat White Cat1998 ” لكنه هنا في فيلمنا هذا تميز بتفوق، فمنذ بداية الفيلم كانت الحيوانات لاعبا في خلفية الأحداث كحصاني العربة، والببغاء الصريح الثرثار، والأسود في القفص، والنمر الذي يلتهم الإوزة أثناء موته، والقردة الأم التي تموت أثناء قصف حديقة الحيوان، والفيل السائر في المدينة بعد خرابها ويسرق حذاء بلاكى والقط الأسود الذي يمسح به بلاكى حذائه أو الخنزير الذي يبحث عن طعام بين جثث الموتى. بل أنهم أحيانا كانوا محركين للأحداث كالقرد اليتيم سونى الذي يتبناه بلاكى -الكاره للحيوانات- بديلا لابنه اليتيم الذي مات غرقا!
تميز كوستا عن باقي مخرجين العالم، إذ انه خلق عالما سينمائيا مختلفا وخاصا جدا يدمج ما بين عالمية شخصياته ومحليتها فى الوقت ذاته فتشعر وكأنه يتحدث عن أناس تعرفهم وبلد يشبه بلادك، فخرج بنماذج مغايرة عن ما يعرض بالسينما الأمريكية ذات الطبيعة التجارية أو موجات السينما الأوروبية الجديدة وسينما أمريكا اللاتينية، وحتى عن مخرجين من نفس قارته انخرطوا في عالم السينما الهوليودية كبيرتولوتشي وباولو سورنتينو وغيرهم، بل تميز انه من المخرجين القلائل الذين حصلوا على جائزة السعفة الذهبية بمهرجان كان مرتين عن فيلميه “عندما كان أبى بعيدا فى رحلة عمل”1985 ” و “تحت الأرض” 1995)”.
استطاع كوستاريسا التحكم في كل أدواته كعادته بداية من السيناريو الذي شارك في كتابته، واستخدام الموسيقى التصويرية والاغانى الشعبية اليوغسلافية ببراعة فى توقيت دخولها وخروجها من الكادر أو وضعها فى الخلفية، وساعده فى ذلك الموسيقار البوسنى الرائع جوران بيريجوفيتش، والذى شاركه فى افلام ” حلم اريزونا 1993Arizona dream” و “زمن الغجر 1988Time Of The Gypsies“.
وبرع مدير التصوير فيكو فيلاك فى التعبير عن رؤية المخرج بمنتهى السلاسة والحرفية البصرية، ومونتاج برانكا سيبراس الذى اضفى الكثير من المعانى والرمزيات بقطعاته السريعة والسلسلة، أما الممثلين اللذين برعوا فى اداء ادوارهم خاصة لازار ريتوفيسكى الذى لعب دور بلاكى، والممثل ميكى مانوجلوفيتش الذى شارك كوستا فى أغلب أعماله لكنه تميز فى هذا الفيلم، أما الممثلة ميريانا جوكوفيتش التى برعت فى التعبير عن تناقضات النفس البشرية ببراعة حسية عالية.
حصل فيلم تحت الارض على اكثر من جائزة تنوعت بين الاخراج والانتاج والتصوير، ورشح لاكثر من جائزة بمهرجانات عدة، كما حصل كوستا بمعظم أفلامه على جوائز كبرى بمهرجانات عالمية مرموقة كبرلين وفينيسا وغيرها، الا ان الجائزة الحقيقية هى من صناع الفيلم لكل شعوب العالم المحبة للحياة.