فيلم “المحميون”.. رفض التهميش ودفاع عن الحق في الفرح!
نجد في اللغة الإسبانية مزجا أنيقا في لفظة “Nosotros” التي تعني “نحن” بين لفظتي “Nos” أي “نحن” و”Otros” أي “الآخرون”. وهذا المزج اللغوي والدلالي من المفروض أن ينبهنا إلى أن الأصل في الأشياء هو أن يكون الآخر جزء منا وأن نقبل بوجوده ونطالب بهذا الوجود. وفي الفيلم الفرنسي “المحميون Les intouchables ” (2011) للمخرجين أوليفييه نكاش واريك توليدانو، نجد “تطبيقا” ذكيا لهذه الفكرة، فهذا الفيلم بقدر ما يمثل تمرينا على قدرة الذوات، إذا ما اختارت ذلك، على تجاوز مكامن ضعفها وكل ما يعيق انطلاقها،فإنه بمثابة إعلان بالأدلة على أن إحتياجنا إلى الآخر هو ضمن تكويننا الأولي وأن حضوره يغني وجودنا ومقامنا بهذه الأرض.
في هذا الفيلم ذي البعد التعليمي نكتشف مواجهة بين كائنين وعوالمهما المتباينة ونشهد قصة تشكل صداقة بين شخصين يبدوان في البداية مختلفين عن بعضهما البعضومتباعدين إلا أن حميمية استثنائية ستجمع بينهما: يتعلق الأمر بادريس الشاب الزنجي الذي كان في حاجة إلى الإعتراف بمهاراته والتخلص من وضع بئيس ومتعب يعيش فيه.
ونحن سنتعرف عليه حينما يقصد في بداية الفيلم إقامة فخمة بوسط باريس ليختبر حظه ويرى مدى إمكانية ظفره بمهمة “رعاية” صاحب الإقامة الثري فيليب الذي يعاني من شلل تام منذ تعرضه لحادث. حضر العديد من المرشحين لكن الحظ سيحالف ادريس بالنظر لجرأته و خفة دمه ولأنه مقبل على الحياة، وكذا لأن الثري المعاق كان في حاجة إلى هواء جديد ونقي وفي حاجة لمن يعامله بتلقائية و ببعض القسوة المقبولة ولمن ينسج معه تواطؤات تجعله ينظر إلى محيطه نظرة مغايرة، وذلك ما سيتأتى له مع ادريس إذ سيعيشان معا لحظات من الإنشراح والمجازفة كقيادة سيارة بسرعة جنونية بشوارع باريس والتحايل على رجال الأمن و النزول إلى قاع المدينة لمجاورة المهمشين وبنات الليل ولتجريب تدخين المخدرات و ممارسة الجنس بشكل خاص جدا.
وقد استسلم الصديقان في أكثر من سياق إلى نوبات ضحك صاف كرد فعل على تصرفات ادريس غير المتوقعة، ادريس الذي منح فيليب المثبث على كرسيه المتحرك بعض الدفء فأصبح أكثر انشغالا بالعالم الخارجي وأكثر تشبثا بالحياة وبدأ يجعل للحلم حيزا في برنامجه اليومي إلى أن بدأ معاونه المندفع يتدخل بشكل مبالغ لـ”تقويم” ما لا يعجبه من سلوكات في محيطه الجديد كالطريقة التي يتصرف بها الخدم مثلا أو بنت الثري الذي أحس بأن الأمور بدأت تفلت من يديه فأعفى ادريس من مهامه واستسلم من جديد لوحدته إلا أن الوضع لم يدم طويلا فسرعان ما عاد صديقه الزنجي وعادت معه المشاريع التي تتحقق رغم أنها تبدو في البداية صعبة التحقق فحلقا معا عاليا في طائرة تارة وفي مظلة تارة أخرى وفي الأخير سيجعل ادريس صديقه “يطير” فرحا وتأثرا حينما رتب له لقاء مع إمرأة كان يعزها عن بعد وكان يتبادل وإياها الرسائل منذ مدة لكنه لن يلتقي بها إلا بفضل ادريس الذي انسحب بعد إنجازه هذه المهمة، انسحب كملاك أسمر، رغم أن الرسامين، كما يؤاخذهم على ذلك مغني لاتيني شهير، يصرون على رسم ملائكة بيض فقط.
وينبني الفيلم بالأساس على ما يضفيه الزنجي الوسيم من تغريب على عادات ومسلكيات البورجوازيين الهادئين أكثر من اللازم فيستهزيء بحفلاتهم الموسيقية المملة وعروضهم المسرحية الرتيبة وبانبهارهم مثلا بفن تجريدي لا يفهمه أحد، ولا يقف الأمر عند هذا الحد بل يقدم بدائل من عنده سواء تعلق الأمر بالرقص أو الرسم وننتقل، هكذا، بسهولة بين السجل الهزلي المرح وبين مواقف حزينة إلى حد الإرباك. كما ينبني الفيلم على ثنائيات واضحة توجه بالتأكيد تلقينا له: الغنى مقابل الفقر، والتمتع بالصحة مقابل مصاحبة عجز مزمن، والعيش في ضفاف المدن مقابل حياة الرفاه، وتزمت فرنسا الهرمة مقابل حيوية شباب قادمين من آفاق قصية.
لكن هذه التقابلات لم تجعل من هذا الفيلم عملا مملا وذا أطروحة يمكن التنبؤ بها، بل تمكن، عبر تشخيص مبهر وبتحكم في تقديم العوالم، أن يدهشنا أحيانا ويأسرنا إلى حد كبير، كل ذلك بدون إدعاء. وتجاورعالمين متباينين وتقاطع قيمهما المختلفة قد يكون أساس هذه الوصفة التي ضمنت نجاحا باهرا عرفه الفيلم جماهيريا ونقديا كذلك داخل فرنسا وخارجها.
“المحميون” عمل أنجز منذ البداية ليشاهده الملايين لأن قصته عابرة للأمكنة والأزمنة لأنه عمل يخاطب الجمهور الواسع ويجهز على بعض الأفكار الجاهزة دون أن يفرط في وظيفته الأساسية وهي إمتاع الجمهور، وحكايته لها بنية الخرافة، خرافة تشبه أزمنتنا الحديثة، ولها بعد اجتماعي وتحاول إيصال رسالة محددة منطلقة من قصة وقعت بالفعل، ومتضمنة لدعوة بقبول بالآخر رغم اختلافه أو خصوصا إذا كان مختلفا، لتصبح الحياة فعل مقاومة وتصد لحالات الحيرة ورفضا للتهميش القسري وتشبثا بالحق في المرح والفرح وتحايلا على الشرط الإنساني المعقد والهش.
* ناقد سينمائي من المغرب