فيلم “العائد”: السينما ومساءلة الوحشية الإنسانية

ترى ما الذي يدفع مخرجا سينمائيا إلى حمل عتاده والذهاب بعيدا عن المدينة لتصوير فيلمه؟ بل ما سبب اختياره لتحمل عناء ومشاق ومخاطر التصوير في الأماكن الوعرة عوضا عن رفاهية الاستوديوهات والأماكن المنتقاة؟ أعتقد أن أول ما يتبادر إلى ذهن المُشَاهِد المتأمل هو ذلك البحث عن جمال الطبيعة الضامر في تلك الأماكن، وقدرة تكنولوجيا السينما الراهنة على القبض على جمال الطبيعة واستئساده.

وللبحث عن ذلك الجمال الصعب يرحل بنا المخرج المكسيكي – الأمريكي أليخاندرو غونزاليس إيناريتو في فيلمه المغاير “العائد” ليكشف مكامن قوة الطبيعة والإنسان معا مقارنة مع ما يمكن أن يصيب الكائن البشري من وهن وعنف وحيوانية.

يوظف المخرج في فيلمه أسلوبا بصريا يقوم في أساسه على الهروب إلى الطبيعة، لا باعتبارها فضاء ينتفي فيه الصراع القائم في المدن التي خلقتها الحضارات الإنسانية الراهنة، وإنما بالعودة إلى مناقشة فكرة الصراع البدائي الذي يضمر بأن الحياة لا تقوم في عمقها على الإفناء: إفناء شخص لآخر، وحضارة لأخرى؛ وتلك فكرة يروج لها المحافظون الجدد؛ إذ نجد صداها النظري، وعدتها المفاهيمية في كتاب “صراع الحضارات” لصمويل هنتنغتون. ولشرح ذلك أكثر، نلاحظ أن حكاية الفيلم تنبني على الصراع الذي قام بين البيض الذين اكتسحوا أمريكا، وسكانها الأصليين، وهو صدام قائم على أساس إفناء البيض للهنود الحمر في واحدة من أكبر الجرائم التي عرفتها الإنسانية.

حرب عرقية

أظهر الفيلم أن الحرب كانت دائرة حول الأرض وخيراتها الطبيعية (الجلود)، وبالتالي فهي حرب اقتصادية من حيث ما هو واضح وجلي، بل هي عرقية، هوياتية، تطهيرية في مضمرها إلا أن إضفاء طابع الصراع عليها بتلك الصورة التي تحولها إلى مقاومة من جهة، ودفاع عن الذات من جهة أخرى، يُشَرْعِنُهَا ويقدمها كدفاع عن النفس قصد حفظها من الموت المحدق بها، ويبرر أي عنف مضاد، وهو ما نلاحظه اليوم من ذرائع تسوقها أمريكا لتفسير الحروب التي تقودها في مناطق عدة من العَالَم، والتي تُمَاهِي فيها بين الحقوقي والإنساني وإخفاء أبعادها الاقتصادية والحضارية والإثنية والعقدية التي تنبني عليه أساطير النزعة الغربية عموما: ادعاء التفوق والتحضر وما إلى ذلك.

يركز الفيلم على عنف الصراع ودمويته في فضاء طبيعي بكر، إلا أنه بالرغم من عدم التكافؤ الحاصل بين طرفيه، فالهنود الحمر كثر، والبيض قلة لكن نوعية العَتَاد، فإن قوة التحمل، والذكاء الماكر الذي يتصف به الطرف الثاني تقوده إلى قهر كل شيء بما في ذلك الطبيعة. وتضمر بعض اللقطات والمشَاهِد عدة كليشيهات وصور نمطية اعتدنا مشاهدتها في أفلام جملة من أفلام الويستيرن وغيرها، والتي تطرح أكثر من سؤال بالنظر إلى عودة هوليوود إلى استعادة تلك الفترة عبر بعض رموزها الكبار كالمخرج “كونتين تارنتينو” و”ستيڤ ماكوين” مثلا.

إذا ما عدنا إلى فكرة الصراع التي يتكئ عليها الفيلم فسوف تستوقفنا تلك الوحشية المضمرة فينا، والتي تطل علينا من حين لآخر، فالإنسان لم تُخَلِّصْهُ قرونٌ مديدةٌ من التراكم الثقافي والحضاري من نكوصٍ قد يرمي به في غياهب التوحش والبربرية. يستند البناء الدرامي للفيلم على استدعاء العودة إلى حِقَبٍ ظننا أننا لن نعود إليها أبدا كاقتيات النباتات وبقايا الجيفة التي تتركها الحيوانات المفترسة ومضاعفة الإحساس بالخوف واليتم والضياع تجاه شساعة الكون وقساوة الطبيعة. وهنا تكمن جاذبية الفيلم، إنه يسائل ادعاءاتنا الراهنة التي تدعي التفوق وتطويع الطبيعة والقطيعة مع الأزمنة البدائية التي تذكرنا بما قبل اكتشاف النار والملح.. فهل أنهت التقنية مخاوفنا مما تخبئه لنا الطبيعة؟ وهل استطاعت الثقافة أن تصد ذلك الوحش الثاوي فينا؟

كائن مركب

تدل المعاناة المضاعفة لبطل الفيلم (هيوغلاس) “ليوناردو دي كابريو” على أن الإنسان كائن مركب، يتحمل وينهار، يتطور ويتراجع، يحنو ويقسو، يحب ويكره، يتآلف ويتنافر، يسمو ويندحر، يعشق ويقتل، يقاوم وينهزم، يتسامح وينتقم، يعفو ويتراجع.. ولكنه يخلق لنفسه لحظات من الحمق والحب تكاد تكون متساوية في حدتها وشدتها. فما يضمره البطل من مشاعر تجاه ابنه، وما يقابله به هذا الأخير من حنان، وما يزوده به حب زوجته المقتولة، وبحثه عن ابنه بعد أن تخلى زملاءه عنه إثر تعرضه لهجومِ دُبٍّ مفترس، وما يحمله ذلك الهندي الأحمر الطاعن في السن من مشاعر تتراوح بين البحث عن فلذة كبده وإصراره على البحث عن أثرها وملاحقة من اختطفها لَوَقَائِعٌ دافعة للقول بأن ما يجعلنا نحب هو ما يقودنا نحو الانتقام، وأن الإنسان يختزن عواطف متناقضة تدفعه للميل إلى الأقرب من جهة الرابطة الدموية ثم الاجتماعية وهكذا.

قبل أن ينجز أليخاندرو غونزاليس إيناريتو هذا الفيلم فقد انشغل مخرجون آخرون قبله بالمشروع ومن بينهم الكوري الجنوبي “بارك شان ووك” والأسترالي “جون هيلكوت” والفرنسي “جون فرانسوا ريشي” لكنه استطاع أن يقدم رؤية بصرية تجمع بين التشويق والإتقان والإبداع والمغامرة، وأن يعمق بحثه الجمالي المعتمد على المَشَاهِدِ المتواصلة وخاصة “اللقطة – المشهد” الافتتاحي الذي يحيلنا على أسلوبه الإخراجي في فيلمه “الرجل الطائر” [2014]. فبالرغم من طاقة التحمل ذات النفحة المسيحية التي قام بها البطل، فإن الفيلم يظل مغرقا في الشكل على حساب الموضوع لأن الحكاية الرئيسية عادية مقارنة مع التخمة الحاصلة لدى المتلقي جراء ما شاهده من أفلام العنف والمغامرة.

الضوء الطبيعي

ينضم المخرج إلى لائحة بعض مخرجي الأفلام الروائية الكبار الذين عادوا إلى تصوير أفلامهم كليا في الطبيعة للتركيز على جمالها وجلالها، بل إن ثلة منهم قد كرست مجهودا كبيرا لها دون مفاضلة بين تسجيل المَشَاهِد واللقطات الدرامية والطبيعية، وأقصد بالخصوص الأمريكي “تيرانس مالك” والروسي “أندري زڤياگينتسيڤ” أو كما فَضَّلَ مخرجون آخرون الانحياز إلى أن تكون فضاءاتها ومناظرها ديكورات طبيعة لأفلامهم كالبرازيلي “گلوبير روشا ” والأرجنتيني “أليخاندرو ألونسو”.

يتميز الفيلم باعتماده بطريقة شبه كلية على الضوء الطبيعي وما قام به مدير التصوير المكسيكي “إيمانويل ليبيزكي” من مجهود كبير لعرض ذلك الجمال الأخَّاذ والمذهل للطبيعة في كافة عذريتها ووحشيتها، وتصوير البياض كلون عاكس للضوء مع الإشارة إلى تطويع التقنيات الرقمية لصالح الجماليات السينمائية القادرة على خلق المتعة وتجديدها.

Visited 39 times, 1 visit(s) today