فيلم “الزوجة” لوحة جميلة عن المظاهر الخادعة
“أردت أن أخبرك أنه كان بإمكاني أن أعرف كم كانت علاقتكما رائعة”، من يصل إلى هذه الجملة التي قالتها مضيفة جوية لبطلة فيلم الزوجة The wife، قرب نهايته، يدرك كم هي المظاهر خادعة!
يدور فيلم “الزوجة” The wifeعن كاتب أمريكي يدعى جوزيف كاسلمان، يؤدي دوره الممثل البريطاني جوناثان برايس، وزوجته “جوان” وتؤدي دورها المخضرمة جلين كلوز، في واحد من أفضل أدوارها. أحداث الفيلم الرئيسية تدور في التسعينات من القرن الماضي، في ولاية كونيتيكت الأمريكية، لكن الفيلم ينتقل في محطات عدة على طريقة “الفلاش باك” إلى نيويورك في أواخر الخمسينات وأوائل الستينات.
منذ بداية الفيلم نعرف أن جوزيف كاتب كبير ينتظر إعلان الفائز بجائزة نوبل للآداب، ولا ينتظر المشاهد طويلا ليجد أن البطل قد فاز بها بالفعل، وأصبح يتعين عليه أن يسافر هو وزوجته وابنه إلى ستوكهولم من أجل تسلم الجائزة الرفيعة، لكن وجوه أبطال الفيلم الغامضة توحي دوما بأن هناك مواجهة قادمة وأشياء ستتكشف من تلقاء نفسها، أو من خلال شخص سأم ذلك الغموض الذي يحيط علاقة الكاتب بزوجته، ذلك الكاتب الذي لا يترك مناسبة إلا ويؤكد أمرين: أن زوجته هي سر نجاحه، وإنها لا تكتب مثله بل هو الكاتب النجم في العائلة.
ما يقوله جوزيف يتكسر دوما على حائط من تفاصيل صغيرة جدا مثلما أنه لم يستطع أن يتذكر اسم بطلة إحدى رواياته، ويبدو غير واقعيا عندما نستمع إلى ملاحظات ناقد شاب متخصص في كتابة السيرة الذاتية أتى إلى ستوكهولم مع الزوجين، يقول إن مستوى جوزيف في البداية لا يوحي أبدا بالمستوى الذي وصل اليه بعد أن تزوج “جوان”!
على العكس منه، تبدو “جوان” أكثر صلة بمؤلفاته، يكفي أن ترى طريقة لمسها للكتب، أو نظرتها وهي تستمع إلى شخص يتصل بزوجها ليمتدحه ويبارك فوزه بجائزة نوبل وهو يقول له: “إن مسيرتك الأدبية مميزة للغاية، أنك لا تؤلف بألفة وظرف وتعمق فحسب بل تحديت النموذج الروائي بطرق ستؤثر على الأجيال القادمة من المؤلفين..” نظرتها والتعبير الذي ارتسم على وجهها لم يكن مجرد تعبير ونظرة زوجة مخلصة متفانية لزواج دام أربعين عاما، بل شعورا يعبر عما هو أكثر من ذلك.
التمثيل في فيلم “الزوجة” ليس النقطة المضيئة الوحيدة في الفيلم، بل هناك الإخراج والتصوير، والديكور، وكلها عناصر منحت الفيلم قوته وتأثيره، فمعظم لقطات الفيلم كانت قريبة من الزوجين، خاصة في المشاهد التي تجمعهما معا، لدرجة تجعلك تشعر بهما وهما يتحدثان أو يتشاجران أو يرقصان، بالإضافة إلى المساحات اللونية التي يغلب عليها الرمادي مع الأزرق والفضي، وهما اللونان اللذان يغلفان مشاهد الزوجين مع ويلفاها بمزيد من الغموض، كما أوحت تلك المساحات اللونية بصعوبة معرفة أي الزوجين كان ضحية للآخر، وربما تكتشف بنفسك إنه لا توجد ضحية على الإطلاق، رغم ما يبدو عليه الأمر من سهولة في البداية.
فعندما يعود بنا الفيلم إلى الماضي، نرى جوزيف وجوان-التي أدت دورها ابنة جلين كلوز- في بداية علاقتهما، فجوان كانت طالبة في صفوف الكتابة الإبداعية التي يديرها جوزيف، وكانت لها كتابات توحي بأنها ستكون كاتبة متميزة، لكن حوارا يدور بينها وبين كاتبة آخرى تدعى “ايلين موزيل”، تفهم منه أنها لا تمتلك أي فرصة للظهور والتحقق، فتقول لها موزيل في نبرة محبطة: أتعرفين أين سينتهي المطاف بكتبك، هناك بالضبط على رف الخريجين.. إياك أن تحسبي أنه يمكنك أن تستقطبي انتباههم. فالرجال هم الذين يكتبون المقالات الناقدة ويديرون دور النشر ويحررون المجلات، وهم الذين يقررون من يستحق أن يؤخذ بجدية ومن يستحق أن يوضع على قاعدة تمثال بقية حياته”.
إلا أن هذا المشهد يبدو خادعا للغاية، فهو لم يكن السبب المباشر لقرار جوان الخطير، والذي سيجعل منها مجرد زوجة متفانية في خدمة زوجها الكاتب المشهور، فهي لم تيأس فقط لأنها أدركت أن الرجال لن يدعموا النساء الكاتبات، بل هي أحبت جوزيف وأرادت الاحتفاظ به، ذلك النوع من الحب الذي يجعل المحب لا يجد فرقا بين نفسه وبين من يحبه، فيبذل من روحه من أجل الحبيب دون وعي منه بتوابع قراراته، يجب هنا أن نرى جوان الشابة وهي تقول لجوزيف: “أرجوك لا تتركني ستنتهي حياتي إن خسرتك”، ردا على تهديده لها بأن يتركها لأنها لم تحب أبدا روايته الجديدة!
أما “جوزيف كاسلمان” فكان القرار بالنسبة له سهلا للغاية، فهو لا يجد فيما فعله أي عيب من الناحية الأخلاقية أي أمرا يجعله يخجل من نفسه، أو يقلل من قيمة النصر الذي حققه وصدقه كما لو كان الحقيقة، إنه العبقري الذي يقف وراء تلك الأعمال الناجحة، كما يصدق أن خياناته المتعددة لجوان كانت نتيجة إحساس عميق لديه بتفوقها عليه، وضآلته أمامها ككاتب وكزوج أيضا.
هنا يجب أن نتطرق إلى تلك العلاقة الغريبة التي تجمع الأب بابنه “ديفيد”، ذلك الشاب الذي بدأ يكتب القصص، لكن شيئا ما يظهر على وجهه دوما، تعبير يوحي بإزدرائه للأب، وعندما ينفجر في النهاية، يكتشف الأب أن ابنه يخفي غضبا مكتوما وشعورا عميقا بأن أباه “استعبد” أمه، وبنى لنفسه مجدا على حساب آلامها ودموعها، وهو ما لم يتوقعه الأب، الذي ظل يعتقد أنه ما من أحد سيكتشف الخدعة التي بنى عليها اسمه ككاتب عالمي.
عكست موسيقى الفيلم على نحو بالغ الثراء كم تبدو “المظاهر خداعة”، وكانت ساخرة بوضوح وتعطي إيحاء مغايرا لما نراه على الشاشة.
فيلم الزوجة The wifeمن إنتاج 2017، وقد بدأت عروضه العالمية في أغسطس من العام الجاري، وهو مقتبس عن رواية بالعنوان نفسه للكاتبة ميج وليتزر. والفيلم ليس فقط مباراة في التمثيل بين جوناثان برايس وجلين كلوز، بل هو تعبير صادق عن تعقد العلاقات الإنسانية وتشابكها بشكل يلغي فكرة وجود الخير والشر، ليحل محلها الأسئلة لا الإجابات، كما أنه لا يطرح إجابات بل يعرض لحالة شديدة التعقيد فقط لنتأمل فيها، وعلى الهامش ربما يجب أن نناقش فكرة: هل مازال الرجال منحازون بشكل أو بآخر ضد المرأة الكاتبة؟ هل هناك من القائمين على دور النشر والمكتبات أو من القراء من يعتقد أن المرأة الكاتبة ليس لديها شيئا مهما يمكنها أن تقوله؟!