فيلم “الجسر”: اِنْجِلاء الشجاعة الموهومة والقضية الخاطئة

Print Friendly, PDF & Email

تُقَدِم صورة الحرب بعيون الأطفال المُنغمس فيها بنظرة فاحصة كما في فيلم “الجسر” الالماني والصادر في العام 1959 فرصة سينمائية مثالية لكشف تكاليفها الباهظة حيث تفقد البراءة روحها على مذبح الوحشية الادمية فتموت تجارب عيش غضة وعلاقات عاطفية حالمة واماني وطموحات فريدة ولقاءات حميمية خيالية حتى قبل ان تشهق انفاسها الاولى.  

سيناريو الفيلم مُعَّد عن أصل روائي بنفس العنوان للصحفي والكاتب غريغور دورفمايستر وضعها بناءً على احداث حقيقية رواها احد المحاربين القدامى والذي عاش نفس المواقف اثناء الايام الاخيرة للحرب العالمية الثانية. صدرت الرواية في العام 1958 وفي العام التالي كانت جاهزة كفيلم سينمائي سيحوز على العديد من الجوائز العالمية ما وضع مخرجه النمساوي بيرنهارت فيكي تحت الأضواء في باكورة افلامه الروائية الطويلة.

تزامن صدور “الجس” مع إعادة إنشاء الجيش الألماني ودعوات التجنيد الإلزامي، وهو ما أتاح لعامة الشعب مراجعة نفسية مؤلمة للذاكرة القريبة حول اي الخيارات افضل. تكرار تجربة التجنيد الالزامي للشباب ودفعهم قسرًا للدخول فيه كإرجاع لزمن العسكريتاريا المفجع، ام توجيههم نحو التفاعل الايجابي مع الحياة المدنية وبناء مسيرة عملية مفيدة من خلال المساهمة والعمل في مشاريع اعادة الاعمار والتأهيل للحضارة والمجتمع الالماني.

قصة الفيلم تدور حول مجموعة من طلاب المدرسة الثانوية اعمارهم لا تتعدى السادسة عشرة وعددهم سبعة يقع استدعاهم للخدمة العسكرية في اواخر ايام الحرب ونتيجة لضعف تدريبهم الذي لم يتجاوز اليوم الواحد يتم تكليفهم بحماية الجسر الموجود في قريتهم كنوع من الابعاد لهم عن الموت المجاني. هذا الجسر المقرر تفجيره من قبل الجيش ودون علم الصبية-اشارة للفوضى التي اصابت تشكيلات النظام والوحدات العسكرية وتقاطع الاوامر- غداة تقدم قوات الحلفاء لاحتلال المانيا واسقاط النظام النازي سيغدو مسرح تراجيديا قاسية تعكس بشاعة جنون الحرب.

يقدم “الجسر” خطابًا سرديًا يستدعي الماضي لكشف تبعات الحرب المأساوية من خلال عيون مجموعة شباب مراهقين مأخوذين بحمى دعاية نظام هتلر والحمية الوطنية واندفاعة التوق لخوض تجارب الرجولة الاولى. فيظهروا حماسة كبيرة لمحاربة العدو يسعى من خلالها صنّاع الفيلم لتوضيح نمط التفكير وقتها والمغمور بكل القيم النازية التي تعتبر الواجب العسكري فرصة ثمينة للألمان لإظهار الشجاعة في الولاء والالتزام والانضباط بإتباع الاوامر وتنفيذها. وعليه يدلف الصبية الى عالم الحرب من بوابة الاستعراض البطولي والاقتراب من وقائعها على اساس منطق ألعاب الاطفال الذي يحكم سلوكياتهم بيد انهم سيكتشفون قسوتها مع اول الرصاصات التي تطلق عليهم، وهذا ما فهمه الجندي الامريكي الذي لم يشأ قتالهم! بل ووصفهم بروضة اطفال لكنهم برعونة الصغار المتشدقين بفكرة البلوغ يطلقون النار عليه.

يتخذ السيناريو طابع دراسة الشخصيات الرئيسية من خلال الدوران 360 درجة حول الاولاد السبعة فيلقي نظرة شاملة على سلوكياتهم قبل الالتحاق بالعسكرية يشكل فيها صورة اندفاعاتهم العاطفية واحلامهم في استجلاء المشاعر والغريزة وتذوق الاشياء والمغالاة في الحمية والتعامل بحدة وتزمت مع تعقيدات حياة الاهل ومحيطهم الاجتماعي. يأخذ الصانع السينمائي وقته اللازم في البناء الفردي للشخصيات واحاطتها بكل المبررات الدرامية لمآلها اللاحق بشكل يحدد فيه هويتها الانسانية. جميع ذلك سيتيح له تسريع ايقاع النهاية كمشاهد ملحمية يتم فيه تقديم الصبية قرابين على مذبح البناء العقائدي الممسوخ ودكتاتورية النظام التي عجلت بهزيمة نكراء. كانت مقارنة درامية مهمة لمتانة السرد السينمائي بين الحياة الطبيعية لصبية بعمر المراهقة يستكشفون ذواتهم والعالم وبين الصدمة العاطفية والانهيار النفسي عند الوقوف على واقع الحرب الخاسرة التي تخوضها القوات الالمانية المتراجعة والمشتتة. كان ادراكهم المرير بعدم استعدادهم للحرب ولا الموت بعمر صغير بمثابة الصدمة التي دفعتهم للبكاء رغم حمية الصبا في عدم الاستسلام.

أحد المفارقات الحزينة التي ترسم عبثية الحرب ولا جدواها ان كِلا الجنود الالمان المنسحبين والامريكان المتقدمين كانوا مندهشين من دوافع القتال الشرس لمجموعة اطفال في سبيل قضية خاسرة، بل اعرب العديد منهم عن الشفقة لهذا الصبا المهدور دون ان يعلموا ذلك. فالخلاصة الاهم للفيلم ان قرقعة السلاح وأزيز الرصاص ماهي الا مضيعة واهدار للطاقات البشرية والمادية واطلالة مؤلمة على كم الخسارات والتبعات النفسية والاجتماعية.  

من أبرز الامكانات الاخراجية لبيرنهارت فيكي هي قدرته على الموازنة بين وحشية الحرب وطيف المشاعر الانسانية المجاورة لها. فلا ينسى مثلا ألقاء الضوء على الإطار العائلي المحيط بأبطاله السبعة فيقدم لنا بجلاء الانهاك البدني والاستنزاف النفسي الواقع على كاهل هؤلاء الاهل بسبب وقائع الحرب اليومية والمعاناة على جميع الاصعدة من جبهات القتال الى حد توفير الغذاء اللازم للاستمرار في الحياة. انه قتال من نوع مختلف لا يدركه الصبية المملوئين بسعادة غامرة وهم يتلقون استدعاءات الانضمام للجيش. انهم ذاهبون للدفاع عن وطنهم!

تظهر شخصية مدرسهم للغة الانكليزية الصوت الاكثر هدوءً وحكمة ووعي في زمن صاخب ومجنون وهستيري. فهو يدرك تمامًا المآل المفجع للحرب. ويسعى لان يغرس في نفوسهم بدل اوهام البطولة ان النجاح في حياة السلم هو اهم واجدى لبناء البلد. غير ان سيف الوقت المسلط على رقاب الجميع لا يسمح الا لفصول المأساة بالاكتمال.

البيئة السينمائية الجيدة للفيلم والتنفيذ المتقن رغم ضعف ادوات الانتاج -لم يتعاون الجيش الامريكي في توفير المعدات العسكرية اللازمة مثل الدبابات والتي لا يمتلكها الجيش الالماني الناشئ حديثًا وقتها- ساهم بخلق تجربة خاصة بمميزاتها ومقدراتها نضجت على وقع الحلول البديلة بغض النظر عن مستوى جودة النتائج وهو ما اضاف الكثير من المصداقية الى قسوة الصورة النهائية للفيلم وما عكسته من عواقب الحرب واهوالها. يستند كل ذلك الى قوة السرد ومتانة الحبكة ونضج الموضوعات دراميًا. بالاضافة الى ما منحه التصوير السينمائي الذي اداره غيرد فون بونين ببراعة مستخدمًا الابيض والاسود لخلق الايقاع الشعوري بصريًا حيث ومن خلال تجريد المنظور تبدو المناظر الطبيعية مقفرة فيما تمتلئ الامكنة بأجواء خانقة تعطي احساس المجهول القاتم. كما انه يلتقط فنيًا وبمهارة بصرية لافتة فوضى المواقف وجزع القرارات المذعورة وهلع انتظار المخبوء المُفزع. اتسم المونتاج بالسلاسة والديناميكية ما اعطى الانطباع بالتسارع المروع للحظات المصيرية. فيما بدت موسيقى المؤلف ألويس ميلتشار اشبه بمرثية تقض مضاجع النفوس وتترقب لحظات النهاية الملحمية لهؤلاء الصبية. أبرزت الأداءات الممتازة للممثلين الشباب امكاناتهم التمثيلية في تجسيد تقلب نفوسهم بين طيف المشاعر والاحاسيس المتباينة من اندفاعات الرعونة الى سذاجة القناعات.

مع مرور الوقت اصبح فيلم “الجسر” للمخرج بيرنهارت فيكي لائحة اتهام لا هوادة فيها تجاه الحرب وفظاعاتها وصوتًا سينمائيًا هادرًا  يستكشف المعضلات الأخلاقية المعقدة التي يواجهها ويخوض فيها الجنود الصغار ويتحمل نتائجها المجتمع. بل ويعمل من خلال التصوير الدقيق والمفصل للشخصيات والوقائع والاحداث على الغاء الصورة النمطية المُلتقطة في الافلام الامريكية والاوربية عن العسكري الالماني كشر خالص، فيعمل على اجلاء الوجه الاخر مُظهرًا الانسان الالماني كضحية لصراع مدمر وعبثي، فيستغرق في تصوير ارتباكهم ويَتَقرّبْ من ملامح خوفهم وتقاطعات مشاعرهم بين الواجب وجوهرهم الانساني.        

Visited 1 times, 1 visit(s) today