فيلم “التقرير”.. وثيقة إدانة غاب عنها “التعذيب”
على شكل تحقيق سينمائي مصور، وفي إطار دراما سياسية مشوقة بتفاصيل وقائعها الحقيقية يستحضر كاتب السيناريو والمخرج سكوت زد. بيرنز في شريطه “التقرير”، أجواء حملة مفزعة وعشوائية شنتها الولايات المتحدة الامريكية لمحاربة الإرهاب، غداة هجمات الـ 11 أيلول/ سبتمبر 2001 الإرهابية على برجي التجارة العالمي في مدينة نيويورك.
من جهتها، وضمن تلك الأجواء المشحونة بنبرات التهديد والتصعيد والمخاوف الأمنية، اهتدتوكالة المخابرات المركزية (CIA) الى استعمال طريقة سادية لإنتزاع إعترافات ممن وقعوا في قبضتها، أطلق عليها “أساليب الإستجواب المحسنة”.
ورغم ان الإعترافات لم تفض الى شئ يستحق التثبت منه، أقله لم تمنع هجمات إرهابية لاحقة، أو في أحسن الحالات التعرف على آليات عمل الجماعات الإرهابية لمحاربتها كما هو معلن. ومع ذلك ظلت أسرار تلك الممارسات المشينة، قسماً منها يرتقي الى جرائم حرب، مسكوت عنها أو في طي أدراج مسؤولي الإدارة الامريكية دون توافر إرادة سياسية للكشف عنها.
بتكليف من السيناتور، وعضو لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ الأمريكي،ديان فينشتاين (آنيت بيننغ) تسند الى الشاب دانييل جونز (أدى الدور الممثل آدم درايفر) مهمة إعداد تقرير خاص يجمع أكبر معلومات ممكنة عن برنامج الاحتجاز والاستجواب والتعذيب الذي مارسته السي. آي. أيه غداة الحادي عشر من أيلول/سبتمبر. يكرس جونز جل وقته، غياب شبه تام لحياته ولحياة من شاركوه هذا العمل العائلية، مع فريق عمل صغير وفي قبو مظلم كي يجمع خيوط تقريره الضخم، ووفق شروط؛ ان يكون موضوعياً وبعيداً عن تأثيرات السياسة وأهوائها.
إزاء هذه المهمة المارثونية الصعبة، بدأ جونز عمله على اعداد تقريره عام 2009، وللفترة المحصورة بين عامي 2002 – 2008، ومن دون مراجع مكتوبة، يجد نفسه وسط شبكات معقدة من الصعاب والممنوعات.
يعمد المخرج الى الانتقال بين زمن إطلاق حملة مكافحة الإرهاب سيئة الصيت وبين حركة بطله المكوكية في التواصل مع مكاتب مركز مكافحة الإرهاب التابع الى (CIA) ومكتب السناتور وقبو جونز المليء بقصاصات أوراق معلقة على جدار مكتبه تحمل اسماء قادة الجماعات الإرهابية وعلى شكل خارطة جنية، تواريخ وأماكن اعتقالهم، المعلن منها والمخفي، أساليب اعتقالهم وعلاقة بعض هذه الطرائد الوهمية والمفزعة مع عملاء السي. آي. أيه.
ما يكتشفه جونز أثناء بحثه المضن، أقله الجزء الأول، خطير فعلاً. إذ نجد ان السي.آي.أيه قد ابتاعت برنامج “أساليب الاستجواب المحسنة”، يتضمن الإغراق بالماء والحرمان من النوم والحبس الإنفرادي لتكثيف حس العزلة والشعور بالعجز، وبمبلغ 80 ألف دولاراً امريكياً من نصابين. ذلك ان مفردة “المحسنة” التي أدخلت على برنامج “أساليب الاستجواب” تعنى ان طريقة كشف كذب المعتقل، أستعملت في فيتنام، لم تعد تفي بانتزاع الاعتراف المطلوب.
وعليه ينبغي اعتماد وسائل أخرى لإنتزاعها “كلما زاد الألم، كلما حصلنا على معلومات أكبر”، كما ترد في سياق الشريط. ولتطبيق تلك المنهجية ترد أيضاً سلسلة أماكن مارست فيها السي.آي.أيه أساليبها المستحدثة في التعذيب، من بينها سجني أبو غريب في العراق وغوانتانامو مثلاً. وليكتشف، كما تقوده توصلاته البحثية، الى ان عدداً ممن يطلق عليهم تسمية “ارهابيون” معرفون لدى السي. آي.أيه، ولربما عمل قسماً منهم معها. النقطة التي أثارت جونز وعجلت في إكمال تقريره هو تستر أجهزة المخابرات على ملفات وممارسات شنيعة منها، إغراق معتقل بالماء لأكثر من 180 مرة، ووفاة آخر تحت وقع التعذيب المبرح، فضلاً عن قائمة ممارسات جرى التخلص من وثائقها.
لم يبق جونز على خيط معلومة مفيد، وعلى مدى ساعتين، من دون تعقبه وضمه الى تقريره الجامع والفاضح في آن. إذ أعتقد، وهو المدفوع بحس مهني ووطني، من ان تقريره سيلقي الضوء على المخفي من ممارسات وحشية تتناقض كلياً وتنتهك في آن مبادئ القوانين الدولية الناظمة بما يخص المعتقل.
ما غاب عليه هو ان شرط “الموضوعية” صعب المنال في عاصمة القرار واشنطن، وفي ظل تشابك المصالح السياسية والأولويات. وكان أول ضحايا ذلك هو تقريره الذي طارت منه مفردة “التعذيب” من جهة، وأخرى تكثيفه من 7000 ألف صفحة الى 5400 ألف صفحة.
ومع ذلك، يمكن اعتبار أفلمة ما اجتهد به جونز وراكمه هو أقرب الى اعطاء روح لوثيقة ظلت قابعة على رفوف الإنتظار. إذ حمل الشريط/التقرير إدارة جورج بوش الأبن مسؤولية ماجرى، هناك اتهام مباشر لديك تشيني، مساعد الرئيس، ولرئيس وكالة المخابرات المركزية ولطيف واسع من أسماء تلك الإدارة.
المخرج وسع من اتهامه، أيضاً، وليشمل إدارة باراك أوباما، كان يكتفي الأخير بذكر الحرف الأول منه دون ان يتجراً على نطق المفردة كاملة، ومن تبعه لتسترهم على هذا الملف وإهمال توصلاته الجريئة.
ولئن بدا دانييل جونز (آدم درايفر) بارعاً في تقمص دور شخصية قد لاتثير حماسة المشاهد برتابتها، لكن أداءه يذكرنا بأبطال شريط “كل رجال الرئيس” (1976) للأمريكي آلان غي. باكولا والمقتبس من تحقيق استقصائي كتبه بوب وودورد وزميله كارل برنشتاين لصحيفة “الواشنطن بوست” عن فضيحة ووترغيت التي أطاحت بالرئيس ريتشارد نيكسون. فيما ظلت آنيت بيننغ محتفظة باتزان ووقار السيناتور على طول الخط. ومثلما يدين شريط “التقرير” المؤسسة السياسية، فانه، أيضاً، يسلط الضوء على آليات صنع القرار السياسي في الدوائر الأمريكية وأساليب التستر على أفعال مشينة تتخاتل وراء “مصلحة الأمن الوطني”.