فيلم الافتتاح في مهرجان برلين: أقل من تحية لفاسبندر
كان راينر فيرنر فاسبندر في مقدمة مخرجي جيل السبعينيات في السينما الألمانية، الجيل الذي صنع حركة السينما الجديدة في ألمانيا بعد سنوا طويلة من السكون والصمت، مع مخرجين مثل فيرنر هيرتزوج وفيم فيندرز والكسندركلوج وهيلما ساندر برامز وفولكر شلوندورف. وكان يسري نصر الله الناقد- قبل أن يتحول إلى مخرج- أول من أطلعنا في قاهرة السبعينيات، من خلال جمعية نقاد السينما في عصرها الذهبي ونادي سينما القاهرة في عصره الذهبي أيضا، على هذه المدرسة وأهم أفلامها وكتب عنها كثيرا.
من أشهر أفلام فاسبندر وليس أفضها في رأيي الشخصي، فيلم “الدموع المريرة لبيترا فون كانت” الذي أخرجه عام 1972. فهو عبارة عن مسرحية من أربعة مشاهد، بطلتها مصممة ملابس مثلية تقع في حب مساعدتها ثم تنتقل لحب امرأة أخرى، وكان فاسبندر يصور من خلالها على نحو مجازي- قصة تتعلق به وبعشقه للرجال، وكيف ينتهي الى الوحدة والعذاب. وبعد خمسين سنة على ظهور فيلم فاسبندر، أخرج الفرنسي فرانسوا أوزون فيلم “بيتر فون كانت” الذي افتتح به مساء الخميس 10 فبراير، مهرجان برلين السينمائي (الدورة الـ72). ولكن أوزون، وهو ومخرج سعيد الحظ، لأن أفلامه المتوسطة الجودة، التي تذهب بعد عرضها عادة طي النسيان، تلقى اهتماما كبيرا من مهرجانات السينما وبالأخص، مهرجان برلين، الذي عرض فيلمه في الافتتاح فقط لمجرد أنه يعيد اخراج عمل يذكر بسينما فاسبندر الذي كان فيلمه “بيترا فوت كانت” قد عرض في الدرة الـ 22 من مهرجان برلين، وفاسبندر أيضا يعتبر أسطورة لدى عشاق السينما الفنية في ألمانيا وأوروبا، خصوصا، ولكن غرابة نمط حياته وافراطه الكبير في الكحول والمخدرات وحالة الاكتئاب المستمرة التي كان يعاني منها انتهت بموته بجرعة زائدة وقيل أيضا إنه انتحر.
هذا القلق والتوتر والاكتئاب والافراط الشديد في الخمر يجسده الممثل الفرنسي دينيس مينوشيه في فيلن فرانسوز أوزون الذي يحول الشخصية من امرأة إلى رجل يمنحه ملامح فاسبندر نفسه، بل ويحول الشخصيات الثلاث الرئيسية الى شخصيات رجال، فبطل الفيلم (بيتر) هو مخرج سينمائي ناجح ومشهور، يعيش في شقة فخمة، ضخم الجثة، يفرط في الشراب والمخدرات، ولديه مساعد صامت لا ينطق بكلمة واحدة طوال الفيلم (المعادل لشخصية مساعدة بيترا البكماء في فيلم فاسبندر). هذا المساعد هو “كارل” الذي نلمح من خلال إشارات عديدة في الفيلم أنه كان عشيقا لبيتر، ولكنه أصبح الآن عبدا لديه، يستعبده بيتر ويسخره في عمل كل شيء من أجله، من أول إعادة كتابة الحوار في سيناريوهاته، إلى تنظيف الشقة. وذات يوم تحضر “سيدونيه” وهي ممثلة مشهورة كانت بطلة في أفلام “بيتر”، تقوم بدورها إيزابيل أدجاني، التي تعود وكأنها في الثلاثين من عمرها هنا، تتألق، ترتدي معطفا من الفراء الثمين، وتضع الماكياج، وتتألق عيناها بكل سحرها القديم، لكنها تؤدي الدور بكل افتعال وتصنع ممكنين، فهكذا كان فاسبندر يشعر تجاه الممثلات، وهو ما يعبر عنه لسان حاله في الفيلم أي “بيتر” بشكل مباشر.. رغم أنه يعلق صورة ضخمة لها على أحد جدران شقته الفسيحة. وكما كان فاسبندر مثلي مزدوج، فبيتر أيضا مثله فهو كان متزوجه، ولديه ابنة أيضا ستظهر قرب النهاية مع أمه التي تقوم بدورها هنا هانا شيجولا إحدى بطلات فيلم فاسبندر، بل واهم ممثلة في جيلها.
سيدونيه هي التي تقدم لبيتر شابا (شرقيا) يدعى “أمير” (خليل بن غربية)ـ يقع بيتر على الفور في حبه ويهيم به في جنون، في حالة شبيهة بحالة فاسبندر وعشيقه المغربي الهادي بن سالم (الي اشتهر بدوره في فيلم فاسبندر “كل الآخرين اسمهم علي) فأمير أيضا اسمه “أمير بن سالم”، وهو نسخة من ناحية الملامح الشكلية، من نينتو دافولي (حبيب بازوليني الذي قام بأدوار بارزة في معزم أفلامه وأشهر أدواره كان في “صقور وعصافير”). وينتقل أمير للإقامة مع بيتر، الذي لا يكف عن ابداء الولع الشديد بالشاب الصغير الذي نعرف أنه متزوج ولكن زوجته في استراليا. لكن بعد مرور تسعة أشهر، تنتهي فورة الحماس عند “أمير” الذي يعترف لصاحبه المخرج الشهير أنه يقيم علاقات جنسية عابرة مع غيره من الرجال وه وما يدفع بيتر إلى الجنون، وينتهي إلى تحطيم الكثير من أثاث شقته وطرد سيدونيه بعد اهانتها، وكذلك ابنته جابرييلا التي جاءت لتراه.
الفيلم مثل فيلم فاسبندر يدور داخل ديكور شقة بيتر، لا يغادرها قط، والأداء مسرحي تماما، والحوار هو الأساس رغم اجتهاد المصور في تنويع الزوايا والانتقال بين الشخصيات الثلاث وخصوصا شخصية “كارل” الصامت الذي يبدو متألما بشدة بسبب قسوة بيتر عليه ولتفضيله الشاب الغريب بل ومطارحته الغرام أمامه وتحمل ما يوجهه له هذا “الغريب” من إهانات أيضا بعد أن تتطور علاقتهما. ولكن كارل يدخر مفاجأة في نهاية الفيلم، وإن لا تساهم في تعميق موضوع يلمسه أوزون من السطح ويعجز تماما عن التعمق في شخصية المخرج وكيف يبدع أفلامه ومن أين يستقي مواضيعها طالما أنه على كل هذا النحو من التفاهة لدرجة أنه يترك مساعده يعيد كتابة مشاهد من الفيلم مع إعادة كتابة حواره.
فيلم “بيتر فون كانت” يمكنك أن تدرك من المشاهد الأولى أيضا، كيف سيطور الأمر، وإلى أين سينتهي. إنه ليس أكثر من ميلودراما صارخة مليئة بالتشنجات والدموع والبكاء على الحبيب الذي يهجر حبيبه، وهي بالتأكيد تختلف عن المياودرامات الإنسانية البديعة التي كان يصنعها فاسبندر نفسه. ومن المؤسف كثيرا أن تصبح إيزابيل أدجاني وهانا شيجولا، مجرد أشباح أقرب إلى الكومبارس في هذا الفيلم.