فيلم “احتقار” لغودار.. أوديسة روحية
أمين صالح
فيلم “احتقار” Le Mepris/ Contempt (1963) مبني على رواية الكاتب الإيطالي ألبرتو مورافيا “شبح في الظهيرة” (1954).. بعد تجاهل الحالات الوجدانية المفرطة والتقليدية، والأحداث الميلودرامية التي تعالجها الرواية.
وعن هذه الرواية، قال غودار (كاييه دو سينما، أغسطس 1963): “رواية مورافيا سوقية، مليئة بالوجدانية التقليدية، الكلاسيكية، على الرغم من حداثة الحالات.. وهي تصلح لأن تُقرأ أثناء الرحلات بالقطار. لكن مع هذا النوع من الروايات يمكن للمخرج أن يحقّق أفضل الأفلام. أنا ببساطة انجذبت إلى الثيمة الرئيسية، وأجريت تعديلات قليلة على بعض التفاصيل، وفقاً لمبدأ أن الشيء المصوّر هو بشكل آلي مختلف عن الشيء المكتوب، بالتالي هو أصلي. لم تكن هناك حاجة لمحاولة جعله مختلفاً، لإعداده وتكييفه للشاشة. كل ما تعيّن عليّ عمله هو تصويره كما هو، تصوير ما كان مكتوباً، باستثناء تفاصيل قليلة”.
الفيلم يتعامل مع معضلات الفن، معضلات الخلق، ومعضلات إيجاد لغة ملائمة، وأسلوب فني. يقول غودار: “هو فيلم بسيط عن أفكار معقّدة”.
الفيلم بالطبع عن أشياء كثيرة، لكن في اتجاه جوهره يظهر أنه عن المشاهدة، عن الملاحظة. باستمرار الشخصيات يُطلب منها أن تنظر، أن ترى، أن تؤول وتفسر.. في الحياة الحقيقية وفي الفن معاً. مع ذلك، الناس يخفقون في الرؤية. كذلك هو عن صعوبة الاتصال، وصعوبة الفهم. عن الارتياب، وفقدان الإيمان، والتنافر واللاانسجام. ووجودياً، العيش بلا غاية أو معنى.
يقول غودار (كاييه دو سينما، أغسطس 1963): “حين أفكر في فيلمي (احتقار)، يبدو لي، وراء نطاق الدراسة السيكولوجية لامرأة تزدري زوجها، أنها قصة منبوذين من العالم الغربي، الناجين من سفينة الحداثة الغارقة، الذين – مثل أبطال فيرن وستيفنسون – بلغوا يوماً ما الجزيرة المهجورة الغامضة، الذين سرّهم هو الافتقار إلى السر، أي للحقيقة. بينما أوديسة يوليسيس كانت ظاهرة فيزيائية، أنا صوّرت أوديسةً روحية. عين الكاميرا، التي تراقب هذه الشخصيات بحثاً عن هوميروس، تحل محل عين الآلهة التي تراقب يوليسيس ورفاقه. أو كما قال بازان: السينما تستعيض عن أحداقنا في رؤية عالم متناغم مع رغباتنا.
هذا فيلم بسيط بلا لغز، فيلم أرسطووي، مجرّد من المظاهر. فيلم يثبت في 149 لقطة أن في السينما، كما في الحياة، ليس هناك أي أسرار، لا شيء لتوضيحه، لشرحه، مجرّد الحاجة للعيش.. ولصنع الأفلام”.
خلافاً لأعماله السابقة، ذات الحس التجريبي والارتجالي، والنزعة التقشفية، هذا الفيلم مصوّر بالألوان وسينما سكوب، مع منتج إيطالي (كارلو بونتي) معروف بأعماله التجارية، ونجوم مشهورين (من فرنسا وأميركا) وفريق عمل دولي. إنه الفيلم الأول والوحيد الذي يحقّقه لصالح شركة إنتاج ضخمة.
رُصدت للفيلم ميزانية كبيرة، لكن صُرفت معظمها كأجور لبريجيت باردو وجاك بالانس وفريتز لانغ. هذه الميزانية، والنجوم المشاركة، شكّلت كابوساً لغودار، فمن جهة كان عليه أن يتعامل مع نجومية باردو الهائلة، ومع شخصيتها والصحفيين المتخصصين في الفضائح، ومن جهة أخرى، خلافاته مع جاك بالانس بسبب أسلوب إخراجه غير المألوف، والمختلف عن الأسلوب الأميركي، وكذلك مصادماته مع المنتج الإيطالي والأميركي.
إنه عن تفسخ العلاقة الزوجية، خلال يومين من حياة زوجين، أثناء وجودهما في إيطاليا، يعيشان تجربة مدمرة، فيما العجز واليأس يطغى على تفكيرهما وسلوكهما. العلاقة بينهما تترنح ثم تتصدّع وأخيراً تنهار، وذلك عبر سلسلة من الأحداث السريعة.
الزوج بول (ميشيل بيكولي) كاتب مسرحي تحوّل إلى كتابة السيناريو السينمائي، وهو مكلّف من قِبل منتج أميركي للمساعدة في إعادة كتابة سيناريو معد عن أوديسة هوميروس.
بول يريد أن يعيش في تناغم مع الواقع، لكن من دون المشاركة فيه. الزوجة كاميل (بريجيت باردو) نراها في البداية هادئة، شاردة الذهن، فجأة تهتاج وتتوتر.. إنها شخصية متناقضة. الغريزة هي التي تحرّكها. وهي تؤكد نظرة الرجال إليها كصورة، كلوحة جميلة متحركة، كمادة للرغبة والاشتهاء. أغلب الأوقات هي مهتمة بتغيير مظهرها، ملابسها، لون شعرها. لا تكفّ عن تفحّص نفسها في المرآة.
مثلما فعل غودار في فيلمه “اللاهث” عندما صوّر المشهد الذي يجمع بين الشاب وصديقته في نصف الساعة، هنا أيضاً يصور مشهداً يجمع الزوجين في نصف الساعة تقريباً، حيث الكاميرا تتابع أفعال وحركات وتنقلات الشخصيتين داخل الشقة، وهما يتحدثان، يستلقيان على الأريكة، يتشاحنان، يتبادلان العتاب والتوبيخ. يتحدثان عن الحب الذي صار مفقوداً. تقول: أن حياتهما كانت أفضل عندما كان يكتب أعمالاً بوليسية، رغم أن الدخل كان قليلاً. يقول: كل ما أفعله الآن هو لأجل إسعادك. يتحدثان عن مشاعرهما تجاه بعضهما. يسببان الألم لبعضهما. يمارسان أفعالاً عادية، روتينية، يومية. هو يكتب. هذا المشهد الطويل مصوّر في زمن حقيقي وبإضاءة طبيعية وحركات كاميرا مصاحبة.
حالة النفور والعداء بين الزوجين تنتقل من الخفاء إلى العلن، من الكمون إلى السطح.. هذا يبدو جلياً من خلال محاولات الزوج ترك زوجته وحدها مع المنتج الذي يرغب فيها جنسياً، بل ويشجعها على مرافقة المنتج، عندما يدعوهما إلى مسكنه، حيث نراه يقودها إلى مقعدها في سيارة المنتج ليستقل هو سيارة أجرة. إنه لا يكتفي بتعهير نفسه، من خلال قبوله بالعمل لمجرد كسب المال، بل أيضاً لا يمانع في تعهير زوجته بالتظاهر بالعمى إزاء محاولة المنتج إغواءها.
عندما يفعل ذلك، تشعر زوجته بالغضب. تشعر بأنه لم يعد يحبها، وبأنها صارت مهمَلة، تشعر بأنه خانها عندما لم يعبّر عن غيرته عليها، وآثر أن يكون لامبالياً، جباناً، ذليلاً، فقط ليجامل المنتج. وهي تشعر بأنه على استعداد لأن يتنازل عنها.
هنا تبدأ في احتقاره، في تأنيبه وتوبيخه، في استفزازه. احتقارها له يصبح مكشوفاً وجلياً. لكن الأسوأ من ذلك، إحساسه بكراهية نفسه، الذي لا يبدو جلياً وصريحاً، بل هو كامن، ويتجلى في ارتيابه وعدم ثقته بزوجته.. التوترات والمشاحنات بينهما لا تتوقف. حوارات متبادلة تتسم بعنف لفظي شديد. إهانات متبادلة. هو يهزأ بها ويعتبرها خاوية مثل التماثيل الرخامية الجوفاء. ويتجاهلها أحياناً، ولا يتورع عن مغازلة المترجمة. وهي تتهمه ببيع نفسه والمتاجرة بفنه، وتغليب مصلحته الفردية الخاصة ومنفعته الشخصية عبر التبعية المطلقة للمنتج وما تستلزمه هذه التبعية من خضوع وخنوع.
العلاقة بينهما تتصدّع شيئاً فشيئاً حتى تبلغ ذروتها مع قرار كاميل بالانفصال عنه. تخونه مع المنتج. يسألها: لماذا كفت عن حبه ولماذا تحتقره؟ لكنها لا تخبره. تبتعد عنه.
في موازاة الصراع بين الكاتب وزوجته، نشهد صراعاً آخر بين المنتج الأميركي (جاك بالانس) والمخرج فريتز لانج (الذي يمثّل نفسه) في كيفية تناول ومعالجة “الأوديسة”، والصراع في جوهره هو بين الفن والتجارة، بين المُثُل الكلاسيكية والابتذال والسوقية. إنهما يمثّلان النقيضين أخلاقياً وثقافياً. سينمائياً، المخرج يريد أن يخلق فيلماً يأسر به فخامة وعظمة الإغريق، ويبرز فيه الصراع البطولي حسب ما ورد في الأوديسة، بينما المنتج، الذي يمثّل القوة الأيديولوجية التي تطلب من الآخرين التنازل عن رغباتهم الخاصة، يريد فيلماً يدغدغ غرائز الجمهور. وهو يعبّر عن استهانته بالمثقفين في قوله: “كلما سمعت كلمة ثقافة، أخرجت دفتر شيكاتي”، محاكياً بذلك ما قاله جوبلز، وزير اعلام النظام النازي في ألمانيا 1933: “كلما سمعت كلمة ثقافة، تحسست مسدسي”.
وفي مناسبة أخرى، يقول الكاتب للمنتج: “في 1933 طلب جوبلز من لانغ أن يتولى رئاسة صناعة الفيلم الألماني. في تلك الليلة، هرب لانغ من ألمانيا” هنا يقاطعه المنتج: “لكن ذلك كان في 1933، نحن الآن في 1963، وهو سوف يخرج كل ما هو مكتوب، مثلما أعلم أنك سوف تكتبه”. بمعنى أنه سوف يكتب كل ما يريده المنتج لأنه يحتاج إلى المال. هنا المسدس ودفتر الشيكات يصبحان أدوات فعالة بالتساوي في تدمير الفن الجاد، والثقافة الجادة عموماً.
المنتج مستبد، متغطرس، طاغية، أناني. نظرته إلى الأفلام محدودة وضيقة الأفق. يتعارك مع الجميع، يطرد من لا يعجبه، ويبدي استياءه من المخرج. يكره الأفلام الفنية. يكره الثقافة.
المخرج ألماني اشتهر بأفلامه الجادة الكلاسيكية، ثم وجد نفسه مرغماً على عبور المحيط ليخرج أفلاماً تجارية في هوليوود. هو الآن يناضل من أجل تقديم رؤيته لا التصوّر الذي يريد المنتج فرضه. وعلى الرغم من دفاع المخرج عن رؤيته ومقاومته لضغوطات المنتج، إلا أنه يبدو شخصية أخلاقية وغير فعالة أو مؤثرة، لذلك غالباً ما يخضع لرغبات المنتج. هكذا نراه يسمح للمنتج بأن يغيّر فيلمه، من دون أن يصل الخلاف بينهما إلى مواجهة. انتقادات المخرج لا تصل إلى المنتج لأنها تقال بلغة لا يفهمها الآخر.
لانغ يبدو أشبه بملك نبيل وباسل.. يقول عنه غودار: “من خلال نظارته، أحادية العدسة، يحدّق في العالم بعين صافية”.
في النهاية، كاميل تخبر زوجها أنها لم تعد تحبه، ولن تحبه أبداً. وتقرّر الانفصال عنه، والعودة إلى عملها الأصلي كطابعة على الآلة الكاتبة، تاركةً له رسالة مكتوبة بخط اليد، تعْلمه فيها أنها ستذهب مع المنتج إلى روما. في الطريق، تلقى مصرعها مع المنتج في حادث سيارة. أما هو فيدرك أنه لا ينسجم في عالم الأفلام التجارية، يستقيل تاركاً المخرج ينهي فيلمه بعودة يوليسيس إلى موطنه.
هنا يقدّم غودار تعليقاً أو تفسيراً خاصاً لقصيدة هوميروس الملحمية. وعبر ذلك يعرض ملاحظات حول طبيعة تحويل النص إلى فيلم، إضافة إلى الترجمة اللغوية.
اللغة من الثيمات الأساسية: ثمة تداخل للغات من خلال الطاقم الفني المتعدّد الجنسيات واللغات والثقافات، وهذا التداخل أو الاندماج يفضي بالنتيجة إلى تضارب في اللغة والثقافة، وإلى صعوبة التواصل بين الأفراد بسبب اختلاف اللغة. في الفيلم أربع لغات رئيسية (الفرنسية، الإيطالية، الإنجليزية، الألمانية) تتفاعل في ما بينها، وتمسك خيوطها امرأة مترجمة. ما الذي يضيع في الترجمة؟ ما الذي يتم إحرازه؟ ما الذي يتغيّر؟ المترجمة الإيطالية تساعدهم بترجمة كلماتهم، لكن في كل مرّة نلاحظ أنها لا تترجم حرفياً ما يقولونه، بل أن ترجماتها في الواقع هي تأويلات وتعليقات. إن وجود الآخر يعني لغةً أخرى، ثقافةً أخرى، وعالماً آخر.
في هذه التحفة الفنية أيضاً نجد إشارات ومراجع وإحالات إلى أفلام أخرى، إلى شعراء وكتّاب وفلاسفة: هوميروس، دانتي، هولدرلين، بريشت. إضافة إلى المناقشات حول النقد وتاريخ السينما.
بريجيت باردو كانت معجبة بأفلام غودار، وأبدت رغبتها في العمل معه. لكن أثناء تصوير العمل تحول الإعجاب إلى خيبة أمل، فقد أخفقت في صياغة علاقة شخصية مرضية مع غودار.
أيضاً كانت العلاقة بين غودار وجاك بالانس سيئة للغاية. بالانس كان مستاءً من منهج غودار في إدارة الممثلين، وعدم استجابته لاقتراحاته، حتى أنه أراد الانسحاب. وقد اشتكى لأحد الصحفيين قائلاً: “لم نكن نعرف أبداً، سلفاً، ما الذي يتعيّن علينا فعله. تقريباً لم يكن هناك أي حوار مكتوب, إنها أسوأ تجربة مررت بها في حياتي. كان ذلك جنوناً”. وهذا أدى إلى رفض بالانس التكلّم مع غودار، إلا عبر وسيط بينهما.
باختيار فريتز لانج لتأدية دور المخرج فإنه يوجّه تحية تقدير لهذا المخرج الكبير. يقول (Los Angeles Free Press, march 1968): “في رواية مورافيا، هناك شخصية المخرج الألماني، التي هي مرسومة على غرار المخرج بابست، لأنه يتحدث عن مخرج من الدرجة الثانية. في حين أنني أردت أن يكون مخرجاً عظيماً، ووقع اختياري على ثلاثة مخرجين: إريك فون شتروهايم (الذي توفى) وكارل دراير، وفريتز لانج الذي وافق على تأدية الدور”.
وفي حوار آخر (1963) يقول: “هو يمثّل السينما، كمخرج وكصوت ضميرها. ومن وجهة نظر أكثر رمزية، بما أنه يصوّر فيلماً عن الأوديسة، فهو أيضاً صوت الآلهة. الرجل الذي ينظر إلى البشر (..) بمجرّد حضوره في الفيلم، يمكن لأي شخص أن تتكوّن لديه فكرة أن السينما هي شيء مهم. وتأديتي لدور المساعد له، هو من باب الاحترام (..) لانغ في الفيلم يرمز إلى الشاعر، الفنان، الخالق”.
تصوير رائع تحت إدارة العظيم راؤول كوتار. والموسيقى، التي ألّفها جورج ديليرو، من العناصر القوية في الفيلم، والتي توصّل الحس الحزين والتراجيدي في الدراما المعروضة.
الفيلم مارس تأثيره على راينر فاسبندر، كوينتن تارانتينو، مارتن سكورسيزي الذي وصف الفيلم بأنه “رائع، رومانسي، وتراجيدي.. هو أيضاً أحد أعظم الأفلام التي صُنعت في تاريخ السينما عن العملية الفعلية لصنع الأفلام”.
ويقول سكورسيزي:
“بالنسبة لي، فيلم (احتقار) هو من أكثر أفلام تلك المرحلة تحريكاً للمشاعر (..) إنه تصوير صادم للعلاقة الزوجية التي تبدأ في التهشم والانهيار. تصوير جارح بعمق، خصوصاً في المشهد الطويل الذي يجمع بين ميشيل بيكولي وبريجيت باردو في شقتهما. حتى لو كنت تجهل أن علاقة غودار بزوجته أنّا كارينا كانت على وشك الانهيار في ذلك الوقت، إلا أنه يمكنك أن تشعر بذلك في الحدث، في حركة المشاهد، في التفاعل الذي يتمدّد على نحو مؤلم لكن بمهابة وفخامة، مثل قطعة من الموسيقى التراجيدية.
الفيلم هو أيضاً مرثية لنوع من السينما كانت على وشك الاختفاء في ذلك الحين، والذي يتجسّد في المخرج فريتز لانغ والإعداد المستحيل للأوديسة الذي يعمل على إخراجه.
الفيلم مواجهة سينمائية عميقة مع الأبدية، فيها يتلاشى الزواج المحطم والسينما معاً. (احتقار) هو أحد تلك الأفلام العظيمة الرهيبة في تاريخ السينما”.