فيلم”محمد ينجو من الماء”.. حكاية موت معلن!
تتميز الأفلام الوثائقية الناضجة بالقدرة على اكتشاف الدراما فى تفاصيل الوقائع والأحداث، والقدرة على الجمع بين النظرة الخاصة والرؤية الإنسانية العامة، فى الفيلم الوثائقى المصرى/ الفرنسى/ الألمانى “محمد ينجو من الماء” للمخرجة صفاء فتحى ما يجمع بين هذين العنصرين، ولولا بعض التطويل (مدة الفيلم 95 دقيقة)، ولولا بعض التكرار والإلحاح على بعض المعانى التى وصلت فعلاً، لكان لدينا عمل أكثر تماسكاً وإتقاناً، ولكنه يظل مؤثراً فى كل الحالات.
أساس الفكرة مأساة شخصية: محمد، شقيق المخرجة، أصيب بمرض الكلى فى سن الثانية والأربعين، هو زوج وأب لولدين، صعيدى منياوى محبوب من الجميع، مثل آلاف المصريين سيجد نفسه مضطراً الى الخضوع لجلسات غسيل الكلى، تضطرب كل وظائف الجسد تقريباً، لا حل إلا بنقل الكلى من متبرع، ولكنه يرفض الفكرة، يستقبل موتاً منتظراً ومعلناً بهدوء وتأمل وصبر.
ولكن المأساة تدفع المخرجة الى القيام برحلة أوسع تمتزج فيها آلام أخيها بآلام المصريين الذين يعانون مرض الفشل الكلوى، ننتقل من شاب مريض الى وطن مريض، من جلسات لتنقية الجسد الملوث الى وقفات لمنع الصرف فى النهر العليل، يأتلف الخاص والعام ليصنعا فيلماً يستحق المشاهدة والمناقشة، ويستحق العرض فى الفضائيات التى تكدست على شاشتها الأفلام الروائية المكررة والإعلانات السقيمة والعشوائية.
الصراع هو محور الدراما، وبناء الفيلم يسير فى خطين: شاب يصارع الموت وينتظره فى هدوء وسط ابنيه وأقاربه، ومجتمع مريض يحاول أن يسترد صحته وسط أجواء ملوثة سواء قبل أو بعد الثورة، مأساة محمد هى جزء من مأساة البيئة والنيل، وقائع الموت المعلن ستكرر نفسها طالما ظلت أسبابها موجودة، هكذا يقول الفيلم ببلاغة مؤثرة.
بداية ونهاية
يبدأ الفيلم بمركب يعبر النيل سبب الحياة، وسبب الموت بعد تلوثه، عند مقبرة محمد فتحى تتجمع أسرته، نشاهد شقيقته المخرجة تقرأ القرآن، ولداه محمود وزياد يقرآن الفاتحة، زوجته ترتدى الملابس السوداء، حارسة المقبرة تثرثر معلّقة على الزهور الحمراء فوق الشجيرات القليلة الخضراء، تراها تجسيداً لروح المتوفى، مشهد البداية يذكرك باستهلال فيلم روائى، يسود اللون الأزرق فى البداية، ثم يظهر الأخضر والأصفر، ننتقل الى أحد المعابد التى كان يحلم محمد بزيارتها، على شريط الصوت نسمع صوت المخرجة/ الأخت، وهى ترى فى المعبد تجسيداً لحب إيزيس لأوزريس، فليكن فيلمها تجميعاً لأشلاء وبقايا الأخ الغائب، مثلما فعلت إيزيس فى أسطورتها الشهيرة مع أوزريس.
يظهر محمد لأول مرة بجانب ابنه محمود داخل أحد المراكب النيلية، الابن أصغر سناً، يتكلم محمد لأول مرة عن مضاعفات الفشل الكلوى الذى لا يأتى ابداً بمفرده، تصحبه دوماً حفنة من الأمراض مثل الأنيميا وهشاشة العظام، يتكرر طوال الفيلم تصوير محمد فى مناطق مختلفة على النيل (كازينو/ مركب/ شاطئ)، معظم المشاهد فى لحظات الغروب، يبدو الشاب نحيفاً هزيلاً بعد أن كان بديناً، من الواضح أنه أقرب الى الكآبة، يحلم بأن يطير مثل الحمام، ولكن اشياء ثقيلة تربطه بالأرض، يصرّ على مسح صور التقطها ابنه لعملية الغسيل الكلوى، لا يريد أن يترك لابنه صورة تدفعه الى البكاء.
تمنح اللقطات المصورة للمريض واسرته الفيلم حيوية وتلقائية، الشاب بسيط ولديه قبول، ولهجته المنياوية تدخله القلوب، والمخرجة/ الأخت تظهر بصورتها أو بصوتها لتكمل رسم الحكاية، تتحدث مع سائق تاكسى عجوز عن أخيها الذى انتقل للعلاج فى مستشفى خاص فى القاهرة، بعد أن هدموا وحدة الغسيل فى شمال الصعيد، جلسات غسيل للكلى كل يومين، التكلفة 275 جنيها فى المرّة، وقبلها تحاليل معقدة بأكثر من 1500 جنيه، السائق، الذى يتعثّر وسط الأمطار بدون مسّاحات، يربط بين انتشار مرضى الفشل الكلوى ومؤامرات إسرائيل، المخرجة تدين المسؤولين والحكام وليس إسرائيل، يظهر محمد مبتسماً للكاميرا، تصحبه أخته فى تاكسى آخر وسط المياه الى تغسل العاصمة الملوثة.
يستمرتدفق المواد المصوّرة لمحمد، المخرجة القادمة من باريس تتحدث معه بنفس اللهجة المنياوية العذبة، راندا ابنة شقيقته الشابة تصطحب خالها لشراء الزلابيا وبلح الشام، يصر على أن يدفع ثمن الحلوى، هالة الشقيقة الثانية متحمسة لفكرة نقل الكلى، محمود ابنه يرى أن مبلغ 100 ألف جنيه لا يساوى شيئاً فى مقابل أن يسترد الأب صحته، المخرجة تزيد من الضغط فى اتجاه البحث عن متبرع” حتى لو اضطرّينا نستلف .. ح نستلف”.
الفشل المزدوج
لا مثيل لهذه اللقطات الحية فى تأثيرها، خصوصاً فى إبراز تعبيرات الوجوه والحركات والتعبيرات العفوية، وفى الإنتقالات الزمانية والمكانية، الكاميرا الذكية لا تكتفى بالشخصيات، ولكنها ترصد طائراً يحاول تسلق جدار بلا جدوى، هدهد ينقر الأرض بإصرار، قطة صغيرة تداعب أقدام محمد وهو ممدد على أرض الصالة، طائرة ورقيه هائمة فى الفضاء، الصورة ثرية للغاية، ولكن محمد متردد فى فكرة النقل، يخشى أن يصاب صاحب الكلية نفسه بالفشل بعد نقلها، لا يريد أن يقابل الله بذنب إنسان لايعرفه، يقول إنه منقسم الى نصفين، نصف يريد العملية، ونصف يرفضها.
محمد يقدّم هنا بلا رتوش، هو ابن مجتمعه، رغم أنه موظف (انقطع عن العمل بسبب المرض)،ورغم أنه تخرج فى الجامعة، إلا أنه يتقبل مرضه بما يقترب من التسليم التام، يبدو كما لو كان أباً للجميع، يصبر على آلام الغسيل رغم تأثر ابنه الى حد البكاء، ولكنه ايضاً عاشق للحياة، يغنى فى جلسة خاصة مع المطرب الذى يستعيد روائع زكريا أحمد فى أحد أفضل مشاهد الفيلم (كان الأجدر بأن يكون مشهد النهاية).
ينتقل السرد الى خطوط أكثر تعقيداً، الفشل الكلوى عند محمد، والذى أثر على عظامه ومشيته ومزاجه، هو انعكاس لفشل إدارة ملف البيئة والنيل، محمد نفسه يقول إن النيل مريض، يئن من الملوثات، ننتقل بالصورة والصوت الى حقائق مفزعة: 67 مصرفاً تصب ملوثات المصانع السامة فى النيل، مشاهد لمصرف الحوامدية الشهير، موظفو المكان يهددون المخرجة وفريق تصويرها بالقتل رمياً بالرصاص، ومع ذلك نشاهد ماسورة المياه الملوثة وهى تلقى بالملوثات دون أى رقابة، مظاهرات مصنع أجريوم الشهيرة فى دمياط، الناس ترفض مزيداً من التلوث، محمد عند مكان التقاء النيل بالبحر المتوسط، على شريط الصوت تقول المخرجة إننا عندما ننتقم من الطبيعة، فإنها تعدو للإنتقام من الناس.
تترك الكاميرا محمد الى حالات الفشل الكلوى فى المستشفيات المصرية العامة البائسة: وجوه ممصوصة، رجل ونساء فى نهاية العمر يستندون على ذويهم، أجهزة عتيقة أقرب الى غسالات المنازل الكهربائية، كانت هذه المشاهد فى حاجة الى بعض الأرقام والإحصائيات لتجسيد معنى المأساة القومية المزمنة.
يظهر أحد الأطباء الكبار الذين عالجوا محمد، لا يظهر اسم المتكلم مكتوبا رغم خطورة معلوماته، اللقاء بعد وفاة محمد، المخرجة ومعها ابن شقيقها محمود، يقول الطبيب معلومات مذهلة (1) هناك سوق لبيع كلى الأفارقة فى شارعى كلوت بك ومحمد على، القليل يذهب الى المتبرع، والجزء الأكبر للسماسرة، الأفارقة يباعون كالخراف قطعة قطعة (2) فى السعودية تجارة مشابهة ضحاياها العرب والمصريون الذين يموتون فى حوادث الطريق، يطلقون عليهم اسم “كلاب السكك”، يأتى أقاربهم، يحصلون على المال، يتركون الجثة فى السعودية، لكل عضو سعر (3) أحد وزراء الصحة المصريين ( لايذكر الفيلم اسمه) أصدر قراراً بمنع الغسيل الكلوى فى المستشفيات الخاصة، رغم عدم استعداد المستشفيات العامة، أدى انخفاض عملية الغسيل اليومى من ثلاث مرات الى اثنتين الى وفاة نصف المرضى خلال ثلاثة شهور فقط، مذبحة جماعية، ووقائع تصفية علنية!
تمنيت لو تابعت المخرجة هذه المعلومات الخطيرة والكارثية، كان الأمر فى حاجة الى بعض البحث لإثبات أن الفشل الكلوى هو الأثر الجانبى لفشل أكبر هو تلوث الماء والذمم والضمائر، ولكن الفيلم يعاود تأثيره العاطفى بلقاء فؤاد، صديق محمد، وصاحب الصيدلية، نعرف منه أنه وصديقه كانا يعتقدان أن خلاص مصر لن يكون سوى بالعصيان المدنى، مات محمد قبل ثورة يناير، ولكن ولديه سيظهران فى إحدى مظاهرات ميدان التحرير، الأحوال بعد ذهاب مبارك ما زالت قاسية، يقول الصيدلى فؤاد أن الأدوية ناقصة، يفسر ذلك بأنهم يريدون أن يؤدبوا الناس، “عاش ما يرفعوش صوتهم تانى”.
الجيل القادم
عوضاَ عن محمد، سيكون محمود ابنه رفيق رحلة المخرجة، فى النيل وأمام المعبد الذى حلم الأب بزيارته، يبدو الابن مفعماً بالأسى وهو يعتبر نفسه بديلاً لوالده الذى لم يكمل الفيلم، يعود محمد فى تسجيل قديم، وهو يحكى لأسرته عن سلوك المتطرفين الدينيين فى الجامعة، ننتقل الى اللون الأصفر العظيم، محمود يصطحب شقيقه الأصغر، يتوغلان فى عمق الرمال، يضع الصبى الأكبر يده على كتف شقيقه، يهتف محمود “السلام عليكم”، يخرج من الكادر، تتجه الكاميرا الى السماء الزرقاء، ينتهى الفيلم الهام والمؤثر.
نهاية متفائلة بالقطع، الجيل القادم أكثر وعياً بعد أن صهرته التجربة المبكرة، نجا محمد أخيرا من الماء الملوث، صعد الى السماء، ولكن الخطر ما زال قائماً، فى بداية الفيلم نشاهد طفلاً يملآ كوباً من النيل ويشرب مبتسماً فى سعادة، يضع الفيلم يده على الجرح بعد أن نجح فى مزج الخاص بالعام، وثيقة الموت المعلن للشاب محمد تحدث الآن وستحدث غداً طالما أن الماء أصبح وسيلة للموت.
قدم مدير التصوير فانسان بيرون صورة مدهشة خصوصاً فى مشاهد الغروب المتكررة، الشمس الذاهبة عند محمد هى رمز الموت نفسه، الاثار والنيل منحا الحكاية بعداً اسطوريا، وجعلاً من بطلها شخصية تراجيدية تصر على اختيار يقودها الى النهاية، مريض الفشل الكلوى يصاب أيضاُ بالإكتئاب كما يقول الأطباء، يبدو محمد طوال الفيلم كما لو أنه قد اكتفى من الحياة والألم.
ولأن الرحلة تتأمل الماساة والموت، فقد اختارت المخرجة إيقاعاً هادئاً يتدفق ببطء مثل النيل، وبين خشونة اللقطات المصورة لمحمد قبل وفاته، ولقطات الصرف فى النيل، ونعومة وشاعرية لقطات المعبد والنيل والصحراء، يرسم الفيلم لوحته القوية والمؤثرة بدعم من صوت البيانو، موسيقى شجية استخدمت فى لحظات محددة، فحققت تأثيراً مضاعفاً، ولكنى ما زلت أعتقد أن الفيلم كان يمكن أكثر تكثيفاً إذا تم اختصار بعض اللقطات والحوارات المتكررة، يتكرر مثلا سؤال الزبائن عن الأدوية الناقصة فى مشاهد الصيدلى فؤاد، وتطول مشاهد محمود وأخيه فى الصحراء، كما أن التعليقات على شريط الصوت كانت فى أحيان كثيرة أقل بكثير من قوة الصورة، الحقيقة أننى لم أفهم معنى الكلام المصاحب لرحلة الصحراء، وهى من أجمل مشاهد الفيلم بصرياً، هل هو شعر أم نثر أم مجرد حذلقة لغوية؟ لماذا أصلاً يتم حشر تعليق إضافى إذا كانت الصورة بمثل هذه الدرجة من البلاغة.
تستحق صفاء فتحى التحية أكثر من مرة: الأولى لأنها أعادت أخيها الراحل الى الحياة، والثانية لأنها فتحت العدسة على اتساعها فرأت محنة شقيقها فى إطار محنة الوطن، والثالثة لأنها أثبتت أن السينما الوثائقية الناضجة تعيد اكتشاف الدراما فى الواقع، والثالثة لأنها عالجت جراحها بالفن: بعثت الراحلين، وفضحت المجرمين، ودقت أجراس الخطر، حتى لا يتحول شعب بأكمله الى موتى على قيد الحياة.