فيروس كورونا والعودة إلى سينما الأوبئة
منذ ظهر فيروس كورونا فى يناير الماضى، واجتاح العالم كله دون تمييز، وفى سياق حالة القلق والرعب التى هيمنت على المشهد العام، اتّجه الإنسان بوعيه فى اتجاهات شتى للبحث عن تفسير للظاهرة وإيجاد الحل. فاتّّجه الوعى العلمى للبحث عن مصل للقضاء على الفيروس، واتّجه الوعى الثقافى للبحث عن تفسير للظاهرة فى الأدب وفى الفن.
وفى هذا السياق، نجحت الذاكرة الثقافية فى استدعاء العديد من الأعمال التى اتخذت من الأوبئة موضوعاً لها، فبرزت روايات “الطاعون” لألبير كامو، و”الحب فى زمن الكوليرا” لجارثيا ماركيز و”العمى” لخوسيه ساراموجو و”عيون الظلامً” لدين كونتز. وفى السينما برز فيلم “العدوى” Contagion الذي تنبأ بفيروس كورونا والأحداث المصاحبة له بشكل مدهش. والحقيقة أن البحث على الإنترنت كشف عن وجود عدد كبير من الأفلام تناولت موضوع الأوبئة والفيروسات، ومعظمها ينتمي إلى الخيال العلمي أو الخيال الخرافي (الرعب) أو إليهما معاً. فكيف تناولت السينما موضوع الأوبئة؟ وهل كان الطرح العلمى هو الغالب أم تم تجاوزه إلى أبعاد أخرى سياسية واجتماعية واقتصادية وفلسفية؟
فى محاولة الإجابة عن هذه الأسئلة اخترنا خمسة أفلام مختلفة، عالمية ومحلية، قديمة وحديثة، موضوعاً للتحليل فى هذا المقال، وهى: الفيلم الأمريكي “آخر رجل على الأرض”The last man on the earth (1984) من إخراج أوبالدو راجونا وسيدنى سالكو، وبطولة فينسنت برايس، والفيلم البريطانى ”معبر كاسندرا”Cassandra crossing (1976) من إخراج جورج كوزماتوس وبطولة ريتشارد هاريس وصوفيا لورين، والفيلم الأمريكي “العدوى” Contagion (2011) لستيفن سودربرج، من بطولة مات ديمون وكيت وينسلت، الفيلم الكوري “قطار إلى بوسان” Train to Busan (2016) للمخرج يون سانج هو، ومن بطولة جونج يو وسو هي، والفيلم المصري “أسماء” (2011) للمخرج عمرو سلامة، وبطولة هند صبري وماجد الكدواني.
1- فيلم “آخر رجل على الأرض”- 1964
يبدأ الفيلم بداية غريبة ومشوقة، من خلال مدينة كبيرة خالية تماماً من السكان، ترصد الكاميرا حالة الفراغ المرعب من أعلى، وعلى امتداد الشوارع والأرصفة التى خلت إلا من بعض الجثث المتناثرة هنا وهناك، وبعض السيارات المتوقفة بنحو يشي بأن ثمة حياة كانت تضج فى المدينة ثم توقفت فجأة، ولم يتبق سوى حركة الريح التى تطوق البيوت المغلقة على نفسها.
فى لقطة تالية مقرّبة نشاهد رجلاً نائماً فى سريره وصوت المنبه يرن، يغلق المنبه ويصحو من نومه ليبدأ فى ممارسة طقوس صباحية غريبة ومرعبة. طقوس يمارسها بمفرده بانتظام منذ ثلاث سنوات، وعن طريق الفلاش باك نعرف قصة دكتور مورجان العالم الذى كان يعيش فى هذه المدينة مع زوجته وابنته الصغيرة، ثم انتشر فيروس فى أوربا، وانتقل إلى المدينة عن طريق الهواء لتنتقل العدوى إلى معظم السكان، يحاول مورجان وصديقه دكتور ”بين” الوصول إلى سبب الوباء دون جدوى، حتى تصاب ابنته وزوجته، وتلقيان حتفهما بسبب الفيروس الغامض.
فى هذا السياق، يطرح الفيلم قضية الصراع بين العلم والخرافة من خلال الخلاف الذى دار بي ”مورجان ”و”بين”. فمورجان لا يؤمن بغير العلم والتجارب المعملية فى حين أن “بين” لا يرى غضاضة فى الاستعانة بالخيال من أجل تفسير الظواهر المستعصية على الفهم، غير أن الأمر قد جنح به إلى درجة التصديق فى تحول المصابين إلى مصاصى دماء. وبالرغم من أن مورجان رفض ذلك بشدة، إلا إن عودة زوجته، التى، دفنها بنفسه، إلى الحياة كان بمثابة نقطة التحول الكبيرة فى مسار حياته وفى مسار أحداث الفيلم.
كما تتبدى حيرة مورجان بين العلم والميتافيزيقا، عندما حاول أن يبرر ل“روث” المرأة التى عثر عليها فى الشارع وآواها في منزله لماذا هو الوحيد العائش فى المدينة دون أن يصاب بالعدوى بأنه ربما العناية الإلهية اختارته، وربما كان الخفاش الذي انتقلت دماؤه إليه فى بنما قد نقلت إليه العدوى بشكل مخفف، فصار محصناً ضد الفيروس.
لا يطرح الفيلم قضيته فى سياق تداعيتها السياسية والاجتماعية، لكن يحتفظ لها فقط بالبعد الإنسانى والفلسفى، نلمح ذلك فى أكثر من مشهد، خاصة مشهد حرق جثة الإبنة، ومشهد دفنه لجثة الزوجة فى الليل بعيداً عن أعين السلطة، التى تحرق جثث المتوفين خوفاً من انتشار العدوى. ومحاولته إنقاذ المرأة الوحيدة التى بقيت على قيد الحياة حتى لا تتحول إلى مصاص دماء.
ويتبدى البعد الفلسفى فى طرح قضية الحياة والموت من خلال توظيف السيناريو لتيمة مصاصى الدماء بشكل يبعد عن المجانية، بحيث لم يبالغ فى زيادة جرعة المشاهد الدموية المرعبة، بنحو ما نرى فى أفلام هوليود الحديثة، بل على العكس، كان السيناريو ذكياً وموضوعياً بحيث نجح فى الاستفادة من طبيعة مصاصى الدماء المتهافتة. فهى كائنات ضعيفة وغبية، حتى أنها تعجز عن كسر باب بيت مورجان واقتحامه بالرغم من شنها الهجوم عليه كل ليلة لمدة ثلاثة أعوام متواصلة. بالإضافة إلى أنها تحيا ليلاً وتموت نهاراً، فهى مخلوقات ذات طبيعة بينية، فلا هى من الأحياء ولا هى من الأموات.
وهي بهذا المعنى إنما تشبه الفيروس الذى أنتجها، بل لا نبالغ إذا ما قلنا إنها تشبه فيروس كورونا الضعيف، الذى لا تكمن قوته فى الإيذاء بقدر ما تكمن في القدرة على الانتشار السريع وإصطياد ضحاياه يومياً بالألاف.
والحقيقة أن الفيلم خلط بين مصاصى الدماء والزومبى، فالصفات التى يتمتع بها المصابون بالفيروس صفات زومبى أكثر من كونها صفات مصاصى دماء عدا كونها تمص الدماء.
وفى كل الأحوال ينتصر الفيلم للإنسان ذى الطبيعة الإنسانية المتكاملة، ويرفض المخلوقات الطفيلية الشائهة، حتى لو كانت مرضى تستحق العلاج، وهي نزعة نيتشوية عنصرية، ترى أن موت المرضى أفضل من حياتهم بنحو ما كانت نظرة مورجان لصديقه “بين” الذى تحول إلى مصاص دماء. وهو ما تبدى بوضوح فى صرخة مورجان الأخيرة على مذبح الكنيسة قبل أن يلقى حتفه على أيدي المصابين الذين اقتربوا من الشفاء، عندما أخذ يردد: أنتم مسوخ.. أنتم مسوخ.. أنا آخر رجل على الأرض.
2- فيلم “معبر كاسندرا”- 1977
خلافاً لفيلم “آخر رجل على الأرض” الذي بدأ لقطاته من مدينة غير واضحة المعالم، يبدأ “معبر كاسندرا”The Cassandra Crossing من لقطة عامة لمبنى “منظمة الصحة العالمية” فى جينيف، يليه مشهد مثير لعملية إرهابية تقع داخل مبنى المنظمة. ومن خلال أحداث متلاحقة يُصاب أحد الإرهابيين بوباء معدي، ويختبأ فى قطار أوربى عابر للقارات، متجهاً من جينيف إلى باريس. من خلال اللمس تنتقل العدوى إلى ركاب القطار، ويصبح الأمر حرجاً وخطراً إذا ما استمر القطار فى مساره إلى باريس. ينحرف القطار عن مساره ويقف فى نورنبيرج، وفيها يصعد طاقم طبىي من الجيش الأمريكي، ويتم إغلاق القطار تماماً، من جهة الأبواب والشبابيك، مع ضخ غاز الأوكسجين فى القطار، بحيث يبقى جميع الركاب فى الداخل، فى حالة أشبه بالحجر الصحى، حتى لا ينتشر الفيروس.
فى معبر كاسندرا يختفي البعد الفلسفي ويظهر البعد السياسي بجانب الإنساني. يتبدى البعد الإنسانى فى علاقات الركاب ببعضهم قبل الأزمة وبعدها. فلأن أحداث الفيلم تدور داخل قطار ضخم يحمل أكثر من ألف راكب ينتمون إلى عواصم أوربية مختلفة، فقد حرص السيناريو على رسم شخصياته بعناية بحيث شاهدنا علاقات إنسانية اجتماعية وحميمية داخل عربات النوم، ومن أبرزها علاقة الدكتور تشامبرلين (ريتشارد هاريس) بزوجته السابقة جينيفر (صوفيا لوزين)، وعلاقة نيكول دسلر(أفا جاردنر) زوجة تاجر السلاح بالمهرب الشاب روبى نافارو( مارتن شين) ، وتبدى البعد الإنسانى بنحو أكثر بعد أن علم الركاب بانتشار الوباء فى القطار، وبدأ الطبيب تشامبرلين فى محاولة علاج المصابين بمساعدة طليقته جينيفر وباقى الركاب، وقد تجاوزت النزعة الإنسانية لدى الركاب مرحلة التعاطف لتصل إلى مرحلة التضحية بالنفس من أجل الآخرين. وهي المرحلة التى يظهر فيها البعد السياسى للأحداث عندما يقرر الكولونيل الأمريكى، من داخل غرفة العمليات التى تدير الأزمة، أن ينحرف القطار عن مساره ويعبر جسر كاسندرا المتهالك، المهجور منذ الحكم النازى، معرّضا حياة الركاب لخطر الموت. يقرر ذلك ويصر عليه، رغم تماثل الركاب المصابين للشفاء، من أجل التغطية على عملية أمريكية غير قانونية لتطوير الجراثيم على أرض محايدة.
وهنا يكف الصراع عن أن يكون علمياً، بين العلم والخرافة كما فى “آخر رجل على الأرض” وبين العلم والوباء كما تمثل فى شخصية الدكتورة إلينا إسترادنر (إنجريد ثولين) التي كانت تجرى أبحاثها حول الفيروس، وطالبت ماكينزى بإيقاف القطار، ليتحول إلى صراع بين السياسة (متمثلة فى الكولونيل الأمريكى) والإنسانية (المتمثلة فى الركاب الأوروبيين). وإزاء هذا الصراع غير المتكافئ أخلاقياً، نشهد مفارقات صارخة بين سلوكيات ماكينزى الباردة وسلوكيات الركاب شديدة السخونة، لعل من أبرزها مشهد ماكينزى وهو يحلق ذقنه بأريحية شديدة بينما تدور معركة دموية بين الركاب والجنود الأمريكان المسيطرين على القطار من أجل إيقافه قبل الوصول إلى معبر كاسندرا.
رأى بعض النقاد أن الفيلم يعد بمثابة إدانة أوربية للسياسات الأمريكية اللاإنسانية، بينما نفى الأمريكان هذه التهمة. والحقيقة أن وقائع كورونا المعاصرة قد أعادت طرح التساؤلات التى سبق وأن أثارها الفيلم، ولفت الأنظار إلى ضرورة مراجعة منظومة القيم الدولية. فمازالت أمريكا، بسياستها الاستعمارية، هي الشيطان الأكبر الذي يتم استدعاؤه كلما حلت بالكوكب كارثة، كما أن الموقف المتخاذل للاتحاد الأوربى من انتشار الوباء فى إيطاليا ينذر بأن الأخلاق الإنسانية فى تراجع، وأن الضمير العالمى فى أزمة!
3- فيلم “العدوى”– 2011
يقطع فيلم العدوى خطوة أبعد فى مزج أزمة الوباء بقضايا سياسية واجتماعية واقتصادية. فالفيلم يطرح قضية الوباء الذي يصيب العالم كله فى شهور قليلة، يحسبها الفيلم بالأيام، منذ اللحظات الأولى، التى استهلها بإمرأة تسعل فى وجه الشاشة. نشهد ذلك من خلال الموظفة بيت إيمهوف (جوينيث بالترو) القادمة من رحلة عمل فى هونج كونج إلى عائلتها فى مينيابوليس، وتموت هى وإبنها البالغ من العمر ست سنوات لسبب غير معروف. ويبدأ مركز السيطرة على الأمراض فى تتبع حالات انتقال العدوى من خلال كاميرات المراقبة التى ترصد حركة كل الذين تعاملوا مع إيمهوف ويُحتمل أن تكون العدوى قد انتقلت إليهم.
فى هذا السياق، نجح سودربرج فى رصد حالات انتقال العدوى عن طريق اللمس من خلال لقطات ذكية ومتتابعة، تحمل ربطاً مقنعاً لإمكانية انتقال العدوى، بمعدلات سريعة جداً، على مستوى العالم. وبالرغم من أن المعنى الفلسفى لانتقال العدوى عن طريق اللمس لم يكن، فيما يبدو، وارداً فى ذهن صنّاع الفيلم، إلا إن الصورة المدهشة التى قدمها الفيلم لهذه الفكرة يجعلنا نتوقف لنتأمل المعنى العميق لعلاقة الإنسان بالعالم.
إن لقطات الكاميرا المقربة جداً لأسطح الأشياء وحركات الأيدى الملامسة لهذه الأسطح فى المكاتب والمطاعم وعربات المترو والحافلات، تكشف لنا أن وجود الإنسان مرتبط بملامسة العالم. فعلاقاتنا، فى الأخير، ليست روحية أو نفسية بقدر ما هى مادية، وحواسنا مهما بدت، فى أهميتها، سمعية أو بصرية أو شميّة، ستظل، فى المقام الأول، لمسية بامتياز.
سياسياً، فى أتلانتا، يجتمع ممثلو وزارة الأمن الداخلي مع الدكتور إليس شيفر (لورنس فيشبورن) من مركز السيطرة على الأمراض ويتخوفون من أن يكون هذا المرض هو هجوم إرهابي بالأسلحة البيولوجية خلال عطلة نهاية الأسبوع وعيد الشكر.
إقتصادياً، يطرح الفيلم فكرة المؤامرة، من خلال الصحفي المدون آلان كرومويد (جود لو) الذي يحقق أرباحاً طائلة من خلال الترويج الكاذب لإمكانية العلاج عن طريق نوع من الأعشاب، الأمر الذى يدفع الناس إلى الهجوم على الصيدليات لشراء العلاج. اجتماعياً يصور الفيلم اندفاع المواطنين على السوبرماركات للحصول على أكبر قدر من السلع لمواجهة تداعيات الأزمة. مشاهد الشوارع الخربة، وتلال القمامة المتكدسة حول البيوت، والمقابر الجماعية التى تبتلع الموتى يومياً بلا قلب. كلها علامات قوية ومؤثرة على توقف الحياة وتداعى مظاهر التحضر والمدنية الزائفة.
الطريقة التى تعامل بها المسؤلون مع المرضى بعد اكتشاف المصل تنطوى على عنصرية مقيتة، فإذا كان المرض يجمع البشر، فإن العلاج يفرقهم، أو أن الفيروس عادل والمصل عنصري.
ترجع أهمية فيلم العدوى، الذي عرض عام 2011، إلى قدرته التنبؤية الكبيرة، حيث قدم صورة تفصيلية دقيقة لما يحدث الآن فى حالة فيروس كورونا، ويكفي أن نرى مشهد النهاية حتى نتأكد من ذلك، وهو المشهد الذى يصور، عن طريق الفلاش باك، طريقة انتقال العدوى من خفاش فى الغابات إلى خنزير فى الحظيرة إلى الطاهى فى كازينو ماكاى، الذى يصافح السيدة إيمهوف دون أن يغسل يديه!
4- فيلم “قطار إلى بوسان”- 2016
يعود المخرج الكورى يو سانج هو إلى تيمة الزومبى، ليقدم رؤية معاصرة للصراع الكلاسيكي بين الإنسان والزومبي. غير أن السيناريو لا يكتفى بمحض هذا الصراع الذي حفظة المشاهدون، من عشاق أفلام الرعب، وسعى إلى تقديم رؤية أعمق مما يبدو على السطح. رؤية تمثل تشريحاً للمجتمع الكورى بكافة طبقاته من رجال أعمال، وعمال، وموظفين، وشيوخ وشباب وأطفال.
تدور الأحداث حول قطار متّجه إلى مدينة بوسان، تقفز إليه، فى اللحظات الأخيرة، فتاة مصابة بفيروس جعلها من الزومبى، وقامت بدورها بعض مضيفة القطار، فانتشرت العدوى بين الركاب، وأصبح القطار عبارة عن ركاب من الزومبى المصابين بالعدوى وركاب من البشر غير المصابين. والحقيقة، وبالرغم من الإثارة الكبيرة التى ينجح الفيلم فى تحقيقها، إلا إن المشاهد لن يمكنه أن يدرك أهمية الفيلم، إلا إذا فهمه على أنه نوع من الصراع بين نوعين مختلفين من الزومبى، أحدهما حقيقى والآخر مجازى. فالركاب الذين ينتمون إلى الطبقة الغنية لا يختلفون عن الزومبى فى كونهم يندفعون، بنحو أعمى، نحو مصالحهم الخاصة، وفى كونهم أحياء أموات فى الوقت نفسه. فهم أحياء بالمقاييس المادية، لكنهم أموات بالمقاييس الأخلاقية والروحية، فهم لا يعرفون سوى المتعة المادية، ولا يسلكون إلا بنحو أناني.
يتبدى ذلك فى شخصية يون سوك الذى ضحى بالكثيرين من الركاب، أثناء فراره من الزومبى، من أجل إنقاذ نفسه فقط، خاصة فى المشهد الذى يرفض فيه أن يفتح عربة القطار الآمنة التى يجلس فيها حتى لا يحتمى بها مجموعة من الركاب الفارين من الزومبى، خوفاً من العدوى. كما يتبدى فى شخصية سيوك وو، المدير المالى الأنانى، الذي انفصلت عنه زوجته بسبب أنانيته، وتركت له طفلة صغيرة فى عمر العاشرة أهمل فى تربيتها بسبب أنانيته أيضاً، غير أنه رضخ أخيراً لرغبتها وقرر توصيلها إلى والدتها فى بوسان. ليس هذا فحسب، بل إن الحوار فىالفيلم يكشف عن مسؤليته غير المباشرة عن استمرار تفشى الوباء نتيجة قيامه ببيع أسهم فى الشركة التى كان لديها تسرب كيميائى رغبةً فى مزيد من الأرباح.
غير أن سيوك ليس شخصية سيئة بإطلاق، لكنه مازال يحمل فى داخله شيئاً من الإنسانية وقدراً من الضمير الذي يشعره بالذنب. إن أزمة قطار بوسان كانت مناسبة جيدة لمراجعة حساباته، الإنسانية للمرة الأولى، وهو الذي قضى العمر فى مراجعة حساباته المادية، الرابحة الخاسرة فى الآن نفسه. لقد أدرك أن طفلته الصغيرة، فى هذه اللحظات الفارقة، هى أهم شئ فى حياته، وأن هناك من البشر من يستحقون الاهتمام دون مصلحة أو سبب سوى كونهم أشقاء فى الإنسانية مثل شباب البيسبول الذين أصيبوا بالعدوى وهم يكافحون ضد الزومبى من أجل البقاء، كذلك سانج هو وزوجته الحامل، اللذان ينتميان للطبقة العاملة، ويدركان مسؤلياتهما الأخلاقية تجاه المجتمع. فقد ضحى هو بحياته من أجل إنقاذ الآخرين داخل القطار، كما نجحت زوجته الحامل فى أن تنجو بطفلة سيوك وتصل بها إلى بوسان المدينة الوحيدة الآمنة من العدوى.
أهم ما يميز الفيلم هو ارتفاع النبرة الإنسانية فى كل مشاهده، خاصة أن الأحداث تدور فى مساحة مكانية محدودة، هى قطار بوسان، والصراع فيها ضد الزومبى مسألة حياة أو موت، ما جعل معدلات التضحية بالنفس كبيرة جداً، خاصة فى مشهد الأختين المسنّتين، التى تنتحر إحداهما مضحية بحياتها، لأن أختها الأخرى أصيبت ولا تستطيع أن تعيش بدونها. ومشهد النهاية المثير الذى يمثل ذروة الصراع وقمة الإنسانية، عندما يموت الجميع، وينجح سيوك، هو وطفلته والمرأة الحامل، باللحاق بآخر عربة قطار متجّهه إلى بوسان، قبل أن يصل إليه حشود الزومبى الراغبين فى الفتك بهم، إلا إن المفاجأة المثيرة تحدث عندما يكتشف سيوك أنه أصيب بالعدوى، وسيتحول إلى زومبى خلال دقائق، ولأن القطار كان يمضى دون سائق فى هذه اللحظة، فإن سيوك يوصى المرأة الحامل بالكيفية التى توقف بها القطار، ويوصى طفلته بالذهاب إلى والدتها فى بوسان ، بينما يلقى بنفسه من القطار وهو يشاهد تفاصيل حياته، الماضية، مع طفلته، أثناء تحوله إلى زومبى، فى مشهد بالحركة البطيئة ستتذكره السينما كثيراً. فقطار بوسان هو الفيروس الإنساني الذي أصاب سيوك، فحوله من أيقونة للأنانية إلى أيقونة للتضحية.
5- فيلم “أسماء”- 2011
لم تهتم السينما العربية كثيراً بأفلام الأوبئة، وإن كانت السينما المصرية قد قدمت بعض الأفلام التى يمكن تسميتها بأفلام العدوى، لأنها لم تتعرض لانتشار الفيروسات الذي يصل لدرجة الوباء بحيث يصيب مدناً كاملة أو مجموعة كبيرة من الأشخاص على نحو ما رأينا فى الأفلام الأجنبية. وفى هذا السياق، يمكننا أن نستثنى فيلم “اليوم السادس” (1986) ليوسف شاهين، الذى تناول انتشار وباء الكوليرا فى مصر، فى حين تناولت معظم الأفلام الأخرى مرض الإيدز كما فى أفلام “الحب والرعب”1991 لكريم ضياء الدين، و”الحب في طابا” 1992 لأحمد فؤاد، و”أسماء” موضوع مقالنا.
يطرح عمرو سلامة، مخرج الفيلم وكاتب القصة المستندة إلى واقعة حقيقية، مجموعة من القضايا الاجتماعية والإنسانية من خلال شخصية أسماء (هند صبري) مريضة الإيدز التي تفقد وظيفتها بسبب المرض، ويرفض الأطباء علاجها من المرارة خوفاً من العدوى.
يكشف الفيلم عن النظرة الدونية التى يلقاها مريض الإيدز من المجتمع، وفى مشهد معبّر يرفض زملاؤها استمرارها فى العمل خوفاً من العدوى، رغم تعاطفهم الإنسانى معها، فيجمعون لها المال لمساعدتها، لكن تضعه زميلة على الأرض حتى لا تلمس يدها، ورغم الشعور القاسى بالمهانة، تنحنى أسماء لتلتقط المبلغ نظراً لحاجتها الشديدة إليه.
الصورة الذهنية التى كونها الناس عن نقل العدوى عن طريق العلاقات الجنسية غير المشروعة، تجعلهم ينظرون إلى أسماء نظرة إدانة بوصفها تحمل وصمة عار. يتضح ذلك من رغبة المحيطين، المحمومة، فى معرفة سبب العدوى، حتى من قبل أولئك الذين تعاطفوا مع أسماء، وتطوعوا لمساعدتها، على نحو ما رأينا من تساؤل الطبيب، صاحب المستشفى الخاص، ومن الإعلامي (ماجد الكدوانى) الذي تبنى قضيتها وقرر فضح المسئولين، فى برنامجه، أمام الرأى العام.
إن محاصرة المجتمع لمرضى الإيدز، ووضعهم فى دائرة الاتهام، جعل المصابين بالمرض يعزلون أنفسهم معنوياً، ويخلقون لأنفسهم مجتمعاً صغيراً يفهمون فيه بعضهم البعض، من خلال “جمعية الإيدز” التي أنشأها دكتور هادى، أحد المهتمين بقضايا مرضى الإيدز النفسية. وتنطلق فكرة الجمعية من أن أحداً لا يمكن أن يشعر بآلامك سوى الذين يعانون آلاماً مشابهة، وهو المعنى الذي رددته أسماء، صراحةً، فى أحد المشاهد.
كما أن أعضاء الجمعية هم الوحيدون، الذين لا تشغلهم معرفة أسباب الإصابة بالمرض، فهم يتعاملون مع بعضهم كبشر لهم مشاعر وأحاسيس، ولهم خصوصيات ينبغى احترامها. يتضح ذلك من خلال علاقة أحد المرضى الموسرين بأسماء، عندما عرض عليها الزواج، ورفض أن يعرف سبب إصابتها بالعدوى، بالرغم من حرصه على الإفصاح عن سبب إصابته هو بالعدوى.
إحساس أسماء بنظرة المجتمع تجاهها وخوفه من انتقال العدوى، جعلها تمارس حياتها وهى مرتدية قفازاً، وكأنها هى التى ترفض مصافحة مجتمع مريض.
يطرح الفيلم أيضاً قضية التضليل الإعلامى من خلال استعراض ما يدور وراء الكواليس، والحوارات التى تحدث بين مقدم برنامج “صفيح ساخن” ومعدة البرنامج، وإلى أى مدى يبحث الإعلامي عن عنصر الإثارة فى الموضوعات التى يقدمها، بغض النظر عن المصداقية، حتى ولو جاء ذلك على حساب آلام الناس.
فى شئ من صحوة الضمير، يتبرع الإعلامى لأسماء بآخر قسط من ثمن فيلته الجديدة، ويمد يده مصافحاً إياها، بالرغم من أنها خلعت القفاز، فى لحظة تعاطف إنسانى عميق، غير أن الشجاعة الحقيقية تأتى من أسماء نفسها، عندما تقرر أن تظهر على شاشة التليفزيون بوجهها، دون خشية من أن يتعرف عليها الناس، وعندما تخرج إلى الشارع، دون قفاز، متجاهلة نظرات الآخرين. فإذا كان الجحيم هم الآخرون، بنحو ما أعلن سارتر، فإن لكل إنسان نعيمه الخاص الذي لا يحق لأحد أن يفسده عليه.
وأخيراً، يُلاحظ طغيان البعد الإنسانى والاجتماعى، على الفيلم، فى ظل غياب تام للبعد العلمى. وهي ظاهرة تنطبق على الأفلام المصرية، التى تتناول هذا اللون من الموضوعات، بعامة، بعكس الأفلام الأمريكية والأوربية، التى تضع قضية العلم جنباً إلى جنب مع قضايا السياسة والاجتماع والفلسفة.
ولأن الفن، فى شق كبير منه، يعتبر مرآة للواقع، فإن فيروس كورونا لا يمثل استثناءً فى هذا السياق. فهو، الآن، فى الغرب إشكالية علمية، فى المقام الأول، تستوجب البحث والتجريب من أجل الوصول إلى الحل، وهو لدى العرب ظاهرة إنسانية، فى المقام الأول، لها تداعياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والإيديولوجية.