عن فيلم “حياة الماعز” بعد هدوء الضجة

يروي فيلم “حياة الماعز” The Goat Life قصة عامل هندي هو “نجيب” يحصل على عقد عمل في السعودية، ومن أجل هذا العقد يبيع منزله وما يملكه في الهند، أملا في إعادة  ما أنفق وتعويض أهله.. لكنه يكتشف وهو على أرض الواقع السعودي زيف كل ما صوره له مسئول شركة توريد العمالة من الرفاهية التي تنتظره في السعودية، وليواجه الواقع المر حيث يجد نفسه راعيا للماشية ملقى في صحراء قاحلة.. وطبعا المخرج لا يقصد بعنوان فيلمه أن يروي حكاية ماعز، ولكنه -زيادة في التأكيد- ربما أراد القول أن الإنسان- أو نجيب- تحول -أو يمكن أن يتحول- إلى مجرد حيوان -وليكن ماعزا- في وسط هذه الظروف.

يقع فيلم “حياة ماعز – Goat Life” في عدة ثغرات درامية يرفضها المنطق – منطق حرص الكفيل أو صاحب العمل على توفير أدنى وسائل تساعد العامل على أداء عمله- وهو الهدف من التعاقد مع عمال وموظفين، فالفيلم يستعرض تفاصيل الحياة الشاقة التي يزيدها مشقة تعنت “الكفيل” السعودي معه منذ لقائهما الأول في المطار، فالعامل لا يعرف اللغة العربية ليخاطب الكفيل، الذي يجهل هو الآخر لغة العامل، كما إنه لايتحدث الإنجليزية التي يجيدها العامل الهندي، وبالتالي يتحول الحوار بينهما، ومنذ البداية، إلى حوار طُرشان، لا وسيلة لاختراقه سوى لغة الإشارة، وبهذا يعمد مخرج الفيلم “بليسي” إلى تكثيف مشاعر التعاطف مع “نجيب” الذي يرفض كفيله إعطاءه شربة ماء يروي بها عطشه، كما إنه لا يهتم بطلب العامل مهاتفة والدته في الهند التي وعدها بالاتصال وطمأنتها بعد وصوله السعودية.

وتستمر معاناة الاتصال الهاتفي أياما عديدة-، بل يستمر المخرج “بليسي” في استثمار عدم التواصل بين الطرفين لانحياز المشاهد لـ “نجيب” المقهور إنسانيا، ويزداد القهر المفتعل في إظهار عدم معرفة “نجيب” التعامل مع المواشي وكيفية حلبها، ولأن الكفيل لديه عامل هندي مسن يعمل مع الكفيل، فكان يمكنه – وهو الشئ الطبيعي- تكليف العامل القديم بتعليم “نجيب” أوليات المهنة المقبل عليها، وهو ما يصب في زيادة ربح الكفيل السعودي، وإراحة الجميع -الكفيل والعامل والمشاهدين- من هذه المعاناة، إضافة لفظاظة الكفيل وصراخه المستمر الذي يطغى على حديثه، ثم تطور الأمر لضرب “نجيب”، خاصة بعد اكتشاف محاولته الهروب من حلم الجنة التي تحولت إلى كابوس من الجحيم، كما يطلق الكفيل النار على “نجيب” في إحدى مرات الهبوط ليصيبه في ساقه، تعبيرا عن تعالي الكفيل السعودي على أي قوانين وعدم الإحساس بها، وبالتالي تجاهلها محتميا بابتعاد موقع العمل وعدم وجود أي إنسان غريب

كان اكتشاف “نجيب” لزميل قديم له سبقه في العمل ضوء شمعة يتراقص بفعل هبوب رياح الألم، فالزميل الأقدم يشترك معه في الانتماء لنفس الوطن -الهند-، وبالتالي فلغتهما واحدة، مما يقلل من مساحة الوحدة والاغتراب.. لكن ماساة “نجيب” تزداد عمقا حين يحكي له الزميل ما مر به من أحداث عاصفة منذ التحاقه بهذا العمل منذ سنوات طويلة، فقد جاء شابا يملأه الأمل الذي بدأ في الخفوت حتى خبا ومات.

ولأن “كتر الدق يفك اللحام”، تزداد فكرة الهروب إلحاحا عليه، وتحين الفرصة عندما ينشغل الكفيل بزواج ابنته، فيهرب مع زميل له جاءا معا من الهند، لكنهما افترقا في مواقع العمل، لتبدأ عملية الهروب ورحلة اللاعودة، وهي رحلة مخيفة بكل المقاييس، فكل الظروف تحول دون نجاحها، فلا يوجد أي طريق قريب، إضافة لصعوبة العوامل الطبيعية في صحراء لا حد لها، وكثرة هبوب الرياح القوية وثعابين الصحاري، وعدم وجود مؤن من الطعام والماء تكفي حتى الوصول لطريق، إضافة لعدم وجود وسيلة مواصلات، بما فيها الجمال التي يملكها الكفيل وبالتالي فالحل الوحيد هو المشي ومواجهة كل مخاطر الطبيعة التي كثيرا ما تكشر عن أنيابها.

وينهي الفيلم أحداثه لنكتشف أمرا غرائبيا هو أقرب للكوميديا السوداء، فالكفيل الذي أزعجنا طوال الفيلم يتضح أنه ليس كفيلا لأحد، وإنما هو “نصاب” استغل ظرف الشابين الهنديين التائهين في المطار دون اهتمام أحد، بل، وإمعانا في الكيد، وزيادة في البجاحة يقول الكفيل المزيف لـ “نجيب” إنه لو كان كفيله الحقيقي لفتله لهروبه منه، لينتهي الفيلم و”نجيب يستعد لمغادرة السعودية والعودة لأهله.

 واضح من الأحداث كم الفبركة والتزيد، مع الاعتراف بوجود شخصيات في العالم كله بهذا العنف وهذه الفظاظة، خاصة وسط البدو.

وإذا كان موضوع الفيلم متزيدا بعض الشئ، فإن المخرج -مستعينا بمدير التصور “كي يو موهانان” يعوضنا بمشاهد جمالية نستمتع فيها بفن السينما، فطوال الفيلم حرص المخرج على تقديم مشاهد ناعمة منذ بدء الفيلم، حيث نشاهد لقطات مكبرة “كلوز أب- Close up ” ومكبرة جدا “بيج كلوز أب- Big Close up”، مستعرضا بيئة الحدث من جبال محيطة تسهم في مضاعفة الإحساس بمدى التحديات وصعوبة مواجهة “نجيب” له.

وفي مشهد آخر يشغى بالإنسانية حيث يخاطب – نجيب- الإبل والماشية التي عاش سنوات يقدم لها الماء والعلف بأنه سيفتقدها ويخبرها بمجئ إنسان آخر لرعايتها، وتبدو الماشية وكأنها تتفهمه، عكس هذا الكفيل الفظ، وساعدت الموسيقى التصويرية لـ “أي.أر. رحمان” على توالي مشاهد استعراض الصحراء وهبوب الرياح التي تقتلع أي شئ يواجهها، وأثناء عملية الهروب يقدم عددا من الأغنيات الدينية هي مناجاة لله للخلاص من المشكلة، في ألحان هادئة تسري في الروح سريعا.

Visited 39 times, 1 visit(s) today