عن رباعية يوسف شاهين: الحساب مع الذات
1)
كان فيلم “اسكندرية ليه” قفزة هائلة أخرى فى مشوار يوسف شاهين، فقد فتح الباب واسعاً لأفلام السيرة الذاتية، رغم أن أحداً من المخرجين العرب، لم يستطع أن يتجاوز رباعية شاهين المعروفة (اسكندرية ليه، وحدوتة مصرية، واسكندرية كمان وكمان، واسكندرية نيويورك)، سواء فى جرأتها الشكلية، أوفى تنوع أساليبها السينمائية، أو فى جرأة اعترافاتها الى حد التعرية الكاملة للذات ، ولكل المحيطين به، مع الأخذ فى الإعتبار، ما أكرره دائماً، من أنه حتى القصص ذات الأصول الواقعية، لا تصبح هى نفسها بالضبط، إذا تحولت الى دراما، ولكنها تكون فنا خالصا، له قوانينه وألوانه وخياله المستقل، الحقيقة أن أعمال كل مخرج سينمائى كبير ومعتبر، فيها الكثير من سيرته الذاتية، بل إنك تستطيع أن تعرف أفكار وآراء صانعها وتفضيلاته ومخاوفه، إذا قمت بتحليلها وقراءتها بإمعان، حتى لو لم يحك مباشرة عن وقائع طفولته أو شبابه أو شيخوخته.
لم يكن اتجاه شاهين الى أفلام السيرة الذاتية، تقليدا منه للساحر فيدريكو فيللينى، كما يزعم البعض، ولكنه كان فى رأيى المحصلة الطبيعية للمشوارالفنى لأحد أكثر المخرجين العرب انتماء الى ذاته، ثم جاء الحادث الفارق الذى غير مسار حياته: فى أثناء إخراجه لفيلم العصفور عام 1972، سقط شاهين مصابا بأزمة قلبية، نقلوه الى لندن، حيث أجرى له مجدى يعقوب عملية قلب مفتوح أنقذت حياته، يقول شاهين الذى واجه الموت، أنه اكتشف يومها أنه لم يستخدم فنه أبدا لكى يقول الحقيقة عن نفسه، بعد أن قالها عن الآخرين، أفزعه هذا الإكتشاف، أقسم إن عاش أن يقول كل شئ، أقسم أن يواجه عقده ومخاوفه ونزواته وسقطاته فى أفلامه، أقسم ألا يهتم بحكاية حواديت بقدر اهتمامه بأن يضع الكاميرا داخل نفسه وزمنه وعصره.
اختار شاهين أن تحمل شخصيته فى “اسكندرية ليه ؟” اسم يحى، وهو الاسم الذى سيرافقه فى أفلام الرباعية، أراد أن يشعر بحرية فى التعرية والبوح، أن يتعامل مع نفسه على أنها شخص آخر، وتعاون مع سيناريسة عظيم اسمه محسن زايد (هو نفسه صاحب الأعمال التليفزيونية الكبيرة)، فكان أول الأجزاء الذى صار قصيدة حب للأربعينات، ولعشق السينما، وللإسكندرية الكوزموبوليتانية المتسامحة، اليهودى مع المسيحى مع المسلم، فتاة يهودية على علاقة حب بشاب مسلم (نجلاء فتحى وأحمد زكى)، تظهر شخصيات يستحيل أن تجتمع إلا فى فيلم ليوسف شاهين، وعن الإسكندرية فى الاربعينات: محام مسيحى وطنى (محمود المليجى الذى يجسد دور والد المخرج، المحامى أديب شاهين)، شيوعى متحمس وضباط جيش سذج، علاقة مثلية بين أرستقراطى مصرى وجندى نيوزيلندى، شاب يعشق السينما ويحلم بالسفر الى أمريكا، زعيم دينى سياسي يمثل حسن البنا فى أول ظهور له على شاشة السينما (لعب دوره بحضور كبير عبد الوارث عسر)، سفراء وباشوات وعاهرات، مرتزق من الكفاح الوطنى (عزت العلايلى)، لوحة هائلة مفعمة بالحياة تبدأها أفلام إستر ويليامز، ويختمها تمثال الحرية، وقد تحول الى عجوز شمطاء، تضحك مثل العاهرات، فى استقبال يحى. يظهر شاهين فى لقطة واحدة فقط، إنه يقوم بدور الرجل الثرى الذى سيقرض يحى تذكرة السفر، أما مشاهد الوداع والسفر عند الباخرة، فهى تحفة بصرية ومونتاجية (طبعا رشيدة عبد السلام ، مونتيرة شاهين الأولى)، ما شاهدت هذه التتابعات إلا وظهرت الدموع فى عينى، أى طاقة هائلة تلك التى أودعها شاهين فى هذا المشهد الذى أعتبره من أفضل تتابعات ونهايات الأفلام المصرية.
فاز الفيلم بجائزة الدب الفضى فى مهرجان برلين، وأثار جدلا واسعا عندما عرض فى الدول العربية، اعترض الجهابذة العرب على شخصية الأسرة اليهودية (هناك أداء مؤثر واستثنائى ليوسف وهبى)، اعتبروها دليلا على موافقة شاهين على التطبيع، الجهابذة لم يفطنوا الى أن شاهين يعكس واقع اليهود فى الإسكندرية فى الأربعينات، وأنه يفرق تماما بين اليهودى والصهيونى، لدرجة أن العجوز اليهودى يرفض بوضوح السفر الى فلسطين هروبا من النازية، الفيلم بأكمله أقرب الى المدينة الحلم، برج بابل يتحدى النازية والفاشية، كما أنه عبارة عن حلم شاب بالسينما، التى تعادل الحياة نفسها بالنسبة له، هذا هو الفيلم ببساطة، أنظر الى الأفيش الرائع (أحد أفضل وأذكى أفيشات الأفلام المصرية)، لاحظ هذه الألوان المتداخلة، وتلك المشاهد المتنوعة التى تجمعها رغم ذلك وحدة واحدة، الفيلم عنوانه سؤال هو : اسكندرية ليه؟” إذا لم تعرف الإجابة فى النهاية، فأنت لم تفهم الفيلم، يقول شاهين بأعلى صوت وبأبلغ عبارة: اسكندرية ليه؟ لأنها مصر الكوزموبوليتانية التى أحبها، ولا أجد نفسى إلا فيها، لأن الإسكندرية هى “أنا” فى حبى للإنسان، وفى نبرة التسامح التى ترفض أن يدين إنسان إنسانا آخر لأنه أخطأ، لأن الإسكندرية هى بلد الحرية والجمال ، ولافن بدون حرية أو جمال، لأنها ألوان متعددة وليست لونا واحدا، ولأنها أخيرا تفتح على البحر، وليس على الصحراء، وقد كان شاهين الطفل يقف لساعات أمام البحر، ليس لكى يتأمل الأمواج الزرقاء، ولكن لكى يحلم بالعالم الذى يقبع خلف البحر، وما مشهد النهاية والسفر البديع ، إلا التحقيق الفيلمى لهذا الحلم القديم.
(2)
فى الجزء الثانى من رباعية السيرة الذاتية، وهو فيلم” حدوتة مصرية”، يبدو يوسف شاهين أكثر جرأة فى محاكمة نفسه، والمحيطين به، مرة أخرى، أود أن ألفت الإنتباه الى أن تلك الرباعية لا تنقل تفاصيل حياة شاهين بحذافيرها، إذ أنها تصنع منها عملا دراميا، بما يقتضى التغيير والخذف والإضافة، ولكن الفيلم أثار مع ذلك أكثر من ضجة هائلة، على المستوى العائلى، أثار الفيلم غضب أم يوسف شاهين وأخته، كانت الأم فى الواقع أصغر بكثير من والده المحامى، وقد لمّح شاهين بدرجة تقارب التصريح، الى اكتشافه وجود عشاق لأمه، كما ظهرت الأخت (لعبت دورها ببراعة سهير البابلى) بصورة لم تحبها الشخصية الأصلية أبدا، أما الضجة الثانية فكانت نتيجة لخلاف شاهين مع كاتب القصة يوسف إدريس، الذى اعتبر أن شاهين أخذ مجرد فكرة اعملية القلب التى أجريت لإدريس فى لندن، وصنع شيئاً آخر لا علاقة له بما كتب، وكانت الضجة الثالثة لأن الخط العام المحورى للدراما (محاكمة فانتازية لمخرج وذكرياته تحت المخدر أثناء إجراء عملية جراحية له)، مأخوذ مباشرة من فيلم شهير هو “كل هذا الجاز” لبوب فوس.
الحقيقة أن كل هذه الضجة، لم تستطع أن تحرم “حدوتة مصرية” من الأصالة والإبداع المتفرد، فى النهاية، قد تتشابة الأفكار، ومعظم مسرحيات شيكسبير الهامة، اقتبس حبكتها وشخوصها من أعمال سابقة، ولكن المهم هى المعالجة التى تنطلق فى حدوتة مصرية الى آفاق أوسع من “اسكندرية ليه”، نقطة الإنطلاق سقوط يحى (اسم شاهين الدرامى كما اتفقنا) فى الأستديو أثناء تصوير مشهد النهاية لفيلم “العصفور” وهى واقعة حقيقية، فى لندن يتم تخديره لإجراء عملية القلب المفتوح (واقعة حقيقية أيضا)، ولكن ما أن يسرى المخدر الى العقل، حتى تبدأ المحاكمة القاسية للمخرج يحى فى داخل رأسه، عندما خرج شاهين من حجرة العمليات ، كأنه ولد من جديد، سأل نفسه : كيف يقوم بتشريح نفسه بعد أن عاين بنفسه تشريح جسده ؟ عاش لساعات بين الموت والحياة، شقوا صدره، وأخرجوا قلبه، وغيروا شرايينه، ثم اعادوا قلبه الى مكانه، هل يمكن لإنسان مر بهذه التجربة أن يخشى اعترافا أو مواجهة؟ هذا هو أصل فكرة السيرة الذاتية عند يوسف شاهين..لعل من أفضل الإضافات خروج هذا الطفل المشاغب الوسيم المتمرد من عقل يحى لكى يقوم بمحاكمة المخرج المريض، وفى مشهد النهاية، وبعد سلسلة الإعترافات والمواجهات أثناء المحاكمة ، تنتهى العملية، ويتصالح الطفل المتمرد مع يحى، يعود من جديد ليدخل الى عقله.
تظهر فى هذا الفيلم إحباطات شاهين المخرج المحترف، مع العناوين يظهر شخصيا وهو يصرخ فى مساعديه، نشاهده ممثلا فى باب الحديد، بعد أن قام بما يشبه حركات الأراجوز لإقناع المنتج بالحدوتة، تتخطاه جوائز مستحقة فى المهرجانات الدولية، يتذكر مخاوف الطفولة وتهديداتها وانتهاكاتها، نراه وهو يبكى فى حفل أم كلثوم، يعترف بمعاناة زوجته مع مخرج متقلب، ثم تأتى أغنية الفيلم الشهيرة، قصيدة حب للجميع، بلده وناسه وحياته وعيوبه، وكأنه يقول إنه لم يقصد أن يجرح أحدا، أراد فقط أن يكون صادقا، هو لا يدين أحدا، إنه يحترم الضعف البشرى، بما فى ذلك ضعفه هو، يعود شاهين الى مصر بعد العملية وكأنه مولود جديد، يريد أن يحكى كل ما فى قلبه، يريد أن يعالج نفسه بالفن، يصرخ منير وكأنه شاهين نفسه يشرح فيلمه : “ياناس .. يا ناس يامكبوتة .. هيّة دى الحدوتة .. حدوتة مصرية” .. لا تخافوا من الفضفضة ومواجهة أنفسكم، أو كما قال صلاح جاهين ” الغنا مش ح يموتك .. إنما كتم الغنا ( والبوح) هوة اللى ح يموتك”.
(3)
هذا الفيلم “اسكندرية كمان .. وكمان”، الجزء الثالث من رباعية شاهين لتصفية حسابه مع ذاته، هو فى رأيى أفضل أفلام السلسلة وأكثرها طموحاً وبراعة، سأشرح لكم حيثيات هذا الحكم حالا، ولكن ليس قبل أن أحكى عن ذكرى شخصية هامة، شاهدتُ “اسكندرية كمان .. وكمان” عند عرضه الأول فى سينما مترو بالقاهرة، فأصابنى العرض بحالة من الذهول والنشوة، كيف يتأتى هذا الإبداع الحر بتلك الدرجة من الإبهار والسحر؟ كيف يمكن أن تندمج دراما شبه وثائقية مع مشاهد موسيقية راقصة وثالثة فانتازية تاريخية بمثل هذا الإتقان؟ بل كيف أصلا تتحول أزمة مخرج يعيش رهين ما يشبه الإستحواذ وهوس السيطرة على الآخر الى مجاز سياسى يترجم علاقة الديكتاتور بشعبه؟ شاهدت هذا الفيلم ست مرات فى شهر واحد ما بين سينما كريم وسينما مترو، لدرجة أننى فكرت أن أبعث رسالة الى شاهين أرجوه فيها أن يرفع الفيلم من دور العرض، لأننى لن أتوقف عن الدخول طالما كان معروضا، وميزانيتى المتواضعة شارفت على النفاد (كنت وقتها بدون عمل ثابت، أقدم موضوعات بالقطعة فى صحف مختلفة)، وفى كل مرة كنت أكتشف أثناء المشاهدة أشياء جديدة، ولدرجة أننى كتبت ذات مرة تتابع المشاهد من الذاكرة بنفس ترتيبها، ومازال هذا الفيلم هو أكثر عمل شاهدته فى دور السينما حتى اليوم، ومازلت حتى الآن أعتقد أن “اسكندرية كمان وكمان” ذروة أسلوبية فى تاريخ يوسف شاهين مثل “الناصر صلاح الدين”، و”عودة الابن الضال” ( خصصت مجلة “كراسات السينما” الشهيرة موضوعا كبيرا عند تحليل هذا الفيلم بالذات عندما عرض فى مهرجان كان ) .
أخذ شاهين هنا خطوة أكبر فى عرض سيرته الذاتية، قرر لأول مرة أن يؤدى شخصية يحى، التى تمثل شاهين نفسه، وانطلق من واقعة معروفة، وهى ابتعاد ممثله المفضل الموهوب “محسن محى الدين” عنه، انفصل عنه فنيا تماما، ومن خلال هذه البداية التى قد لا تعنى شيئا لأى مخرج آخر، يبدأ شاهين فى تحليل علاقته بممثليه، يكتشف العيب الذى لم يتخلص منه أبدا حتى وفاته، وهو أنه يحوّل الممثل الى بديل له، يطلب منه أن يقلده فى كل شئ، فى الحركة، وفى النطق، يعوض عن طريقه أحلام يوسف شاهين القديمة فى التمثيل (ذهب شاهين أساسا الى معهد باسادينا لدراسة التمثيل ثم استهواه الإخراج ولكن الممثل بداخله ظل مكبوتا ومقموعاً فقرر أن يتحول كل ممثل أمامه الى شاهين الممثل)، يكتشف المخرج يحى أن فى داخله ديكتاتورا صغيرا، يريد أن يأمر الممثلين فيرضخوا بلا مناقشة، ولكن هروب الممثل الشاب (عمرو عبد الجليل)، ورفضه للتعاون معه فى دور هاملت عصرى فى فيلم جديد ( سنشاهد نسخة حداثية شعبية مصرية من هاملت على مدار الفيلم) ثم تمرد الممثلة (يسرا) على يحى، ورفضها أن تلعب دور كليوباترا، كما يريده هو، لا كما تتخيله هى، كل ذلك يصنع أزمة المخرج النفسية، أما التعبير عن هذه الأزمة فهو حرّ تماما: أحلام نوم وأحلام يقظة، عودة للتاريخ السحيق (استعراض الإسكندر الأكبر)، أو للتاريخ الأقرب (اليونانى الذى يبحث عن قبر الإسكندر)، أو الحاضر (وقائع اعتصام الفنانين الشهير)، كوميديا فارص تستوحى أفلام السينما الصامتة (علاقة أنطونيو بكليوباترا الهزلية، وعملية بناء التمثال العملاق)، ومواقف تراجيدية مؤثرة فى مشاهد اعتراف يحى بأنه كان يحلم دوما بأداء دور هاملت، ومواجهاته مع الممثلة المتمردة، استخدام مكثف للحوار التلقائى الذى يصل الى درجة الثرثرة فى مشاهد الإعتصام، واستخدام مبدع للرقص والأداء الحركى فقط فى مشاهد رقصة الألم الشهيرة أمام نافورة قصر كان، أو فى مشهد الرقصة المرحة مع عمرو عبد الجليل، التى يستعرض فيها يحى على ممثله فى البداية، ويجبره حينا على أداء نفس الحركة، ثم يتمرد الشاب بحركات معاكسة حرة، بينما يستدعى يحى حركات جين كيلى القديمة، أو مشهد رقصة التحطيب الهامة جدا مع الشاب فى المولد، والتى تبدأ بهجوم مكتسح من يحى لكى يسيطر على الشاب، ثم يسترد الشاب السيطرة، فيرضخ يحى لأول مرة، وكأنه يكتشف لأول مرة أن البشر لهم إرادات مستقلة عنه.
التيمة الرئيسية فى الفيلم هى الديكتاتورية، قيام فرد بصياغة آخرين على مزاجه، وفرض أحلامه عليهم ، أما التنويعة على التيمة فهى تتم عن طريق 3 مستويات: مستوى فردى (محاولة يحى الهيمنة على ممثله الشاب ثم على الممثلة الشابة)، ومستوى النقابة (اعتراض السينمائيين على قانون سيفرض عليهم شخصا بعينه فى دورات متتالية بلا نهاية)، ومستوى الدولة ( تأليه الإسكندر الصغير قديما عن طريق الكهنة مع أنه مجرد شبر ونص كما تقول الأغنية، وطبعا الإسقاط واضح جدا على كل نظام ديكتاتورى .. حد ينكر معجزاته ورقاصينه ورقصاته.. إلخ)، تتداخل الخطوط الثلاثة فى سبيكة واحدة، رغم التباعد الزمانى والمكانى، ورغم الحرية الكاملة فى التعبير دون أى هاجس أو خوف لدرجة أن شاهين يستخدم تكنيك التحريك فى مشاهد تاريخية، ويجمع بين المولد وجين كيلى وأغنية فات الميعاد فى عمل واحد، وينتهى الفيلم الى تفكيك الأزمة عبر الإعتراف بها، يحاول يحى أن يقتل بداخله هذا الإله (يتحول الى تابع يطارد الممثلة حتى بيتها)، فى نفس الوقت الذى ينجح فيه اعتصام السينمائيين (مشاهد تسجيلية حقيقية تنتهى الى غناء السلام الوطنى، تتأجل خطة الهيمنة على النقابة الى حين)، وفى المستوى الثالث يتحرر شاهين من ولعه بمعبوده القديم الإسكندر( يحدث ذلك عبر حلم، يعثر على جثمان الإسكندر، ولكن بريمة هائلة تخترق السقف والجثمان ويحى نفسه فيتحول الكادر الى اللون الأحمر).
ولكن التخلص من العقدة الديكتاتورية ( يعرّفها الفيلم بأنها تحقّق فرد من خلال الآخرين وترتدى قناعا زائفا من حب الآخر فيما هى فى الواقع نرجسية وأنانية) ليس سهلا على الإطلاق، ولذلك تسجل أغنية النهاية ازدواجية مستمرة، تغنى الممثلة المتمردة: ” عايزة اعيش بينكم بذاتى/ ليّا شخصية وهوية/ ليا حرية حياتى/ مش حكاية ألوهية”، فيتداخل معها صوت شاهين/ يحى وهو يغنى :” طب خد عنيا/ وشوفه بيها/ ح تلاقيه/ جوة الجميع/ ح تلاقيه/ أجمل وأجمل/ لو يكون حبك دليل”، مازال لديه حلم المعبود والإله ( فى الفن كما فى التمثيل كما فى السياسة كما فى التاريخ)، يريد أن يتحقق من خلال الآخر، وليس من خلال نفسه، لم يستطع شاهين حتى آخر لقطة أخرجها أن يتخلص من حكاية أن يطلب من ممثليه تقليده، ولكنه قرر أن يعترف بمشكلته الخاصة فى فيلم عظيم من بطولته، قرر شاهين أن يسخر من ديكتاتورية شاهين فكان “اسكندرية كمان .. وكمان” ، تستطيع أن تقول إن شاهين يحاكم ديكتاتورية شاهين الفنان، بل إنه يقول بوضوح أنه حتى الحب لايبرر أن تمتلك الآخر، أو تجعله كما تريد أنت لا كما يريد هو أن يكون، الواقع أنت لا تحبه، ولكنك تحب نفسك، تنتمى الى أنانيتك. يسأل يحى مساعده (زكى فطين عبد الوهاب وهو المساعد الحقيقى لشاهين لفترة من الزمن): “إيه الديمقراطية يا واد؟” ، يرد المساعد وكأنه يسترجع ما حفظه: “الديمقراطية هى اللى تقول عليه يا أستاذ “! .. ياله من فنان عظيم، وياله من فيلم عظيم.
(4)
فى الجزء الرابع من أفلام السيرة الذاتية الشاهينية، يحكى يوسف شاهين فى فيلم “اسكندرية _ نيويورك” عن فترة دراسته القصيرة فى أمريكا، ولكن الملاحظ هنا أن القصة تبدأ من وقائع حدثت بالفعل (الفتاة التى أحبها حقيقية، وبعض تفاصيل متاعبه واختباراته فى المعهد صحيحة، وعشق شاهين للرقص وبراعته فيه معروف)، ولكن تطوير المعالجة انتهى الى ما يشبه الحلم الذى لم يحققه المخرج الكبير فى حياته الواقعية، تقريبا نحن أمام تحقيق سينمائى لرغبات باطنية لم تتحقق، الرغبة الأولى هى أن يكون له طفل، وهذا ما سنراه فى الفيلم، بل إن الطفل سيكبر دون أن يعرف والده (المخرج يحى)، وليست هذه هى المرة الأولى التى يتمنى فيها يحى/شاهين أن تكون له ابن، شاهدنا يحى وابنته فى فيلم “حدوتة مصرية”، ظل شاهين حتى آخر أيامه يقول إنه أنجب عشرات الأبناء فى صورة تلاميذ عملوا معه مساعدين للإخراج من حسين كمال وعلى بدرخان الى داوود عبد السيد وعاطف الطيب، وانتهاء بيسرى نصر الله وخالد الحجر وخالد يوسف، ولكن إلحاح فكرة الإبن فى فيلم أو أكثر، يكشف فعلا عن حلم يقظ لم يمت، ولم يحققه على الإطلاق، أما الرغبة الثانية فهى أن يكون شاهين راقصا محترفا، ولذلك جعل ابنه الشاب راقصا للباليه، يقدم عروضا احترافية ناجحة، بل إنه أيضا الراقص الأول لفرقة نيو يورك، وكأنه يعوض ما لم يحققه والده، الولد نفسه أصبح يحمل اسم اسكندر، ولكنه من جيل آخر لا يشعر بالإنتماء الى أبيه، ولا الى الإسكندرية، ولا الى العرب الذين أصبحوا عنوانا على الإرهاب بعد أحداث 11 سبتمبر.
ما بين جنجر/ يسرا الحبيبة القديمة الأمريكية ( على اسم جنجر روجرز سيدة الرقص والإستعراض فى عالم الأبيض والأسود)، واسكندر/ أحمد يحى الذى يكاد يكون نسخة أمريكية حديثة من والده، والزوجة الوفية (لبلبة)، يحاول يحى (محمود حميدة) إعادة ترتيب حياته وذكرياته، ربما أثقلت الفيلم مناقشات عالم ما بعد سقوط البرجين، كما أن هناك تطويلا واستطرادا واضحا فى السرد، وكأن شاهين لايريد أن يحذف شيئا من شهادتة الأخيرة، هناك ما لايقل عن نصف ساعة زائدة، ولكن الفيلم ينتهى من جديد الى تيمة شاهين المتكررة: التسامح، احترام الآخر، الاسكندرية المتنوعة وليس نيويورك التى أصبحت معادية، أمريكا الأربعينات حيث الحب والرومانسية والرقص والغناء والتحقق (تلخصها أغنية الفيلم الجميلة روح .. جسد .. بنت وولد .. اتواعدنا حبنا يعيش للأبد .. يعيش للأبد) وليس أمريكا الألفية الجديدة المتغطرسة، والتى ترى فى الآخر مشروع إرهابى قادم.
لعل أبرز مشكلات الفيلم أيضا أن الوجه الجديد أحمد يحى امتلك حيوية جسدية وبدنية، ولكنه كان يفتقد الى الحضور ولمعة العين التى تميز شخصية يحى فى شبابه، الحقيقة أن محسن محى الدين هو أفضل من لعب الدور فى “اسكندرية ليه”، بل إن هناك ملامح كثيرة من شخصية يحى فى دورى محسن فى فيلمى “اليوم السادس” و” وداعا بونابرت”، أما الأخ أحمد يحى فهو خارج نطاق الشخصية تماما، عموما الفيلم نفسه هو أقل أجزاء الرباعية، ولكنه هام بالنظر الى أنه يستكمل شهادة شاهين على نفسه.