عن الفيلم القصير “جدار”.. حديث العيون ولغة الصورة
يعتمد الفيلم القصير علي مبدأ التكثيف والتركيز في عرض الحدث والحالة التي يجسدها حيث يكون بمثابة إسقاط بؤرة من الضوء علي نفس المشاهد، ويختلف كل عمل فني في تطبيق هذا المبدأ للوصول إلي الحالة الإبداعية.
وتعتبر الصورة السينمائية العنصر الأقوي في تطبيق هذا المبدأ لقدرتها علي إختزال الكثير من التعبيرات والدلالات الحوارية والصوتية وغيرها، وكذلك قدرتها علي إنتاج المعني وطرح الكثيرمن أشكال التعبير غير المألوفة، فهي تعبر عما هو قائم في حركية إيحائية معبرة تصل إلي جمهور متلصص لها.
الصورة السينمائية في الفيلم المغربي القصير “جدار” هي اللغة المباشرة للتواصل مع المتلقي، فهي جسدت حالة من الإبداع الفني اعتمدت علي مهارة المخرج مهدي الدكالي في التحكم في هذه الصورة الإيحائية للشخصيات والأشياء، فكل حركة في الصورة تعبير عن حوارية مختزلة في نفوس الشخصيات.
يحاكي الفيلم صورة من صور الإغتراب الروحي لشخصية ندي التي لا تستطيع أن تتأقلم مع حياتها، والإغتراب عموما ينشىء حالة من الصمت تكون تعبيراَ خارجياَ عما في داخل المغترب، ومن ذلك نرى أن الفيلم يسلط الضوء علي نتيجة هذا الإغتراب وهو “الصمت”، وهو ليس فقط صمت عن الحديث والتفاعل، بل هو حالة من الركود الروحي تحدث سكونا يولد صمت.
مشاهد ودلالات
هذا الصمت يبدأ من المشهد الإفتتاحي “الأم وندي” علي طاولة الإفطار لا حديث، بينما الصوت يأتي من حركة الأشياء، ولكن لا حوار، لا تفاعل لا حياة، العيون تنظر أمامها إعلانا عن رفضها للتوجه إلي الآخر.
وفي “مشهد الباص” يظل الصمت ولكن تتطلع ندي إلي كسر هذا الركود الروحي، عن طريق العيون التي تعتبر المحرك الأساسي لإثارة الحواس المتعبة من أثر الوحدة والإغتراب من خلال تلاقي العيون بينها وبين آخر مجهول في محاولة منها لإيجاد الشعور الذي يبعث الحياة من جديد داخل النفوس المنهكة، ولكن سرعان ما تذهب المحاولة هباء نتيجة تحول الانجذاب الروحي إلي رغبة غريزية من قبل الآخر.
“إن العيون مغاريف القلوب بها يعرف ما في القلب وإن لم يتكلم صاحبها- ابن القيم”
وقد ركز المخرج علي عيني البطلة طول الفيلم، وكانت كفيلة للتعبير والإيحاء دون توارد كلمات منها، كذلك تكحيل العين فقط بدون رسم بقية الوجه بأدوات المكياج لإبرازها واختراق نفس البطلة من خلالها، وكان اختيار الممثلة رجاء خرماز ذات العيون الواسعة البارزة وبقية الملامح الصغيرة للأنف والفم موفقا من قبل جانب المخرج لتحقيق دلالاته.
ويأتي “مشهد الكافية” الذي تجلس فيه ندي مع صديقتها لكسر حالة الصمت، وهذا طبيعي وموضوعي لأن الصديق يعتبر المخرج لأي انسان والمتنفس عن كل مكنوناته، والحوار في هذا المشهد يكشف عن بعض جوانب هذه الشخصية كالتمرد، عدم الخضوع، والاستسلام ولهذا فضلت ترك العمل للحفاظ علي كرامتها.
وهي تُقرر بعد هذه الجلسة الذهاب للبحث عن صديقها طارق المختفي، ولكنها لا تجده فتعود إلي البيت لتجد رسالة بريدية تزيل الإبهام عن اختفائه. تُسرد الرسالة معبر صوت طارق، وهو يحدثها عن نفسها وعن نظرَتِه الخاصة لها ولطبيعة شخصيتها التي تختلف عن الآخرين، وعن روحها التي تحمل الكثير من الحزن والفقدان لعدم إرتباطها مع هذا العالم الذي تعيش فيه، لذلك بنيت الجدران واعتلت، ولكن هذه الجدارن تحولت معه إلي حقيقة فعلية نتيجة الأسر خلفها، وهنا الفيلم يقدم الدلالة التفسيرية لعنوانه “جدر” من خلال تحقُقها الفعلي والمعنوي لشخصيات الفيلم.
وصوت صمد عياش الذي لم نر وجهه حقق الشجن المطلوب في هذا المشهد حيث جاءت نبراته قوية تعبيرا عن الحزن والتأسي لحالهما معها.
البيت الذي ذهبت إليه ندي نجد عليه رقم 20، هوو إسقاط رمزي لحركة 20 فبراير النضالية التي ظهرت أثناء الربيع العربي، وهي حركة تناضل من أجل اسقاط الفساد وقيام النظام البرلماني في المغرب، أبدت هذه الحركة فشلها ولكنها لم تستسلم إلي الآن، وصمد عياش الذي جسد صوت طارق ينتمي إلي هذه الحركة، و هو لم يتعرض للإعتقال في الواقع، ولكن اعتقال طارق في الفيلم يعتبر معالجة فنية تربط بين علامات فشل الحركة وبين انزواء طارق خلف جدران الأسر.
التشظي
حالة الاغتراب ولدت نوعا من أنواع التشظي في الصورة السينمائية حيث جاءت المشاهد عبارة عن شذارت تحاكي هذه الحالة، غير خاضعة للسببية في توالد الأحداث، لذلك اعتمد الفيلم علي تقنية “الحذف” التي تخللت مراحل انتقال الشخصية من مكان إلي آخر، وهو ما نطلق عليه “المسكوت عنه ” فالصورة لا تنقل لنا كل تحركات الشخصية منذ الصباح حتي عودتها إلي البيت وانتهاء السرد، ولكن تنقلنا من مكان إلي آخر من خلال خلفية ” fade to black“، وهذا تمعناً في تجسيد اللاتفاعل بين البطلة وبقية الموجودات سواء كانت شخصيات أو أشياء.
كذلك تنوعت الصورة بين الألوان، والأبيض والأسود، وهذا له مغزي فلسفي فكل مكان لا وجود للألوان فيه يثبت اغتراب الروح وعدم استقرارها مثل البيت، أو يكون رمزا للتشتت كالمقهي الذي ذهبت للبحث فيه عن طارق وهي لا تعلم هل ستجده أم لا فهو شئ غيبي مجهول، وهذا بخلاف الأماكن التي ظهرت الألوان فيها مثل الكافية التي رأت فيه صديقتها وتحاكت فيه عن ذاتها، كذلك الباص التي حاولت فيه البحث عن الروح من خلال الحواس “نظرات العيون”، وبيت طارق، وهو بالطبع مكان حميمي عندها، وهذا دليل على أن الصورة السينمائية بعناصرها استطاعت تجسيد هذه الحالة الإنسانية بعمق فني من خلال الإسلوب المركب غير المباشر.
* ناقدة سينمائية وباحثة من مصر