عن الفيلم الإسرائيلي “ركبة عهد”
كنت أنتظر بشغف مشاهدة الفيلم الإسرائيلي “ركبة عهد” (أي عهد التميمي) بعد ما أحدثه من أصداء في مهرجان كان السينمائي. فالفيلم من إخراج ناداف لابيد، الذي حصل فيلمه السابق البديع، “مترادفات” Synonyms الجائزة الذهبية في مهرجان برلين السينمائي 2019.
جاء الفيلم الجديد، كما كان منتظرا، إلى مهرجان لندن، كما جاءت كل الأفلام المهمة من مهرجان كان وغيره، وأعترف أنني لم أتأثر كثيرا. فالفيلم أقل في مستواه الفني من الفيلم السابق، رغم أن جرعة النقد للسياسات الإسرائيلية فيه، أكبر وأكثر عنفوانا وجرأة.
في فيلم “مترادفات” جانب واضح من السيرة الشخصية للمخرج ناداف، الذي هاجر إسرائيل إلى باريس قبل عشرين عاما حيث قضى هناك سنوات، قبل أن يرتد عائدا إلى إسرائيل. وهو يصور في فيلمه، تلك الحالة النفسية الشعورية العبثية التي تنبع من شخصية الغريب القادم من مجتمع ذي تكوين شديد الاختلاف، إلى فرنسا، ساعيا للاندماج، ويلجأ في سبيل ذلك إلى هدم ما يعتبره الأساس الأول للهوية أي اللغة، فيقرر ألا يتحدث العبرية وأن يتعلم الفرنسية ومترادفاتها العديدة.
كانت الحبكة التقليدية مفقودة في هذا الفيلم. أي أننا لسنا أمام قصة لها بداية وذروة ونهاية، بل مشاهد متفرقة تجمع بينها الحالة النفسية للبطل/ اللابطل، الذي يبدو وكأنه يريد أن يقاتل ضد ماضيه وحاضره بل وضد نفسه، ويتطلع إلى ولادة جديدة سيدرك في النهاية أنها مستحيلة، وأن الخروج من تحت جلد الذات أمر مستحيل لمن تكوّن وانصهر في أتون تجربة ذات طبيعة خاصة. وكان سحر الفيلم وجاذبيته، يكمنان في النقد اللاذع وروح السخرية، التي تفجر الكوميديا، ليس فقط من خلال التعليقات اللفظية، بل من المفارقات بين الشخصيات التي تنتمي إلى ثقافتين مختلفتين، ومن التناقض بين شخصيات الإسرائيليين أنفسهم.
أما “ركبة عهد” Ahed’s Knee فهو أكثر صرامة وتجهما وتعبيرا صارخا مباشرا عن الشعور بالإحباط والرفض والغضب والقرف، من النفس ومن الثقافة السائدة في إسرائيل، من العنصرية والعنف والتعامل الفظ مع الآخر، ومن الكذب والهيمنة الفاشية التي تمارسها السلطة على الإبداع.
ناداف لابيد يصوغ فيلمه، بأحداثه وشخصياته، من خلال بناء شديد التوتر والالتواء مع المغالاة الشديدة في تصوير المشاعر الجياشة والتعبير عن الغضب الشخصي والشعور بالذنب والرفض، في فيلم من نوع أفلام الاعترافات الذاتية التي يقصد منها عادة، البوح وتفريغ المكبوت الكامن، وصولا إلى لحظة الارتياح النفسي أو “الشفاء”.
عنوان الفيلم “ركبة عهد” هو عنوان رمزي فقط، فالموضوع لا يدور حول ما حدث للفتاة الفلسطينية الشجاعة عهد التميمي التي صفعت جنديا إسرائيليا أمام الكاميرا على الهواء مباشرة وعلى مرأى من العالم كله، وقضت فترة في السجن (وهو مشهد لا نراه في الفيلم!)، بل إن ناداف لابيد الذي يجعل بطله يتقمص شخصيته من دون اسم، بل يكتفى بالإشارة إليه بحرف “ي”، وهو مثله مخرج سينمائي حقق لتوه نجاحا كبيرا في مهرجان برلين، وعاد فصنع فيلما آخر، ويستعد الآن لتصوير فيلم جديد عن عهد التميمي، نراه في البداية وهو يختبر عددا من الممثلات لكي يرى من منهن تصلح للدور، لكنه يتوقف مرة ومرات، أمام مقطع فيديو على شبكة الانترنت لأحد أعضاء الكنيست وهو يقول إن من الأفضل، ليس سجن عهد التميمي، بل إطلاق الرصاص على ركبتها، لكي تصبح مقعدة في منزلها عاجزة عن الحركة!
هذا المدخل سرعان ما ينفصل عن الفيلم. لكنه لا ينفصل تماما، بل يبقى على الصعيد الذهني فقط، كامنا تحت السطح، فهو جزء من الهوس الإسرائيلي العام الذي يصوب إليه لابيد سهامه، بكل قسوة.
إن المخرج السينمائي في الفيلم وهو في الخامسة والأربعين من عمره (مثل ناداف نفسه) يذهب إلى بلدة نائية تدعى سابير، في منطقة Arava وهي منطقة صحراوية تمتد من جنوب البحر الميت إلى النقب، وغالبا الإسم اقتباس من (عربة) أي أن المنطقة الصحراوية الجافة التي تعتبر امتدادا لوادي عربة الموازي في الأردن. ولاشك أن اختيار المكان مقصود تماما، فالمنطقة أجريت فيها حفريات كثيرة، وارتبطت بالقصص التوراتية، عن الملك سليمان، والرومان ومملكة إيدوم.. أي أن “ي” يذهب إلى منطقة شبه خالية، لا يقيم فيها أكثر من ثلاثة آلاف شخص كما تخبره “يالوم” الفتاة الجذابة التي تستقبله وهي نائبة مدير قسم المكتبات بوزارة الثقافة، وقد جاءت خصيصا إلى هذه البلدة (التي تقول له إنها تنتمي إليها في الأصل) حتى تكون في استقباله، وتحضر معه عرض فيلمه ثم المناقشة التي تعقب العرض مع الجمهور.
شخصية المخرج على العكس تماما من شخصية يالوم.. الشابة الجميلة المبتسمة دائما في استرخاء وليونة، التي تبدي إعجابها بأفلامه ولا تمانع من التمدد إلى جواره في المسكن المخصص له، والمقصود من تصوير التناقض بين الشخصيتين، أن نرى كيف يبدو المخرج سلبيا تماما تجاهها، غارقا في أفكاره، متجهما، صارما، لا تنبسط أساريره قط، ولا يستجيب لمداعباتها ذات التوجه الجنسي الواضح.
وهو يخرج إلى الصحراء، يصور كل ما يراه، وهو في الحقيقة لا شيء، أي صور في الفراغـ ويرسل تلك الصور للصحراء والرمال الممتدة والتجاويف، إلى والدته في تل أبيب التي نعرف أنها تعاني من سرطان الرئة وأنها مشرفة على الموت. ونكتشف أن كلمة “سرطان” في العبرية هي نفسها في اللغة العربية. ووالدة المخرج (ي) هي كاتبة سيناريوهات أفلامه، وهو مرتبط بها ارتباطا شديدا، وهي نقطة أخرى من السيرة الذاتية لناداف لابيد نفسه، المعروف بعلاقته بأمه التي كانت تقوم بعمل المونتاج لأفلامه، وقد ماتت قبيل انجاز فيلمه هذا مباشرة. ولذلك جاء الفيلم أيضا مليئا بالكآبة والتعبير عن الاكتئاب.
من ناحية البناء يمكن القول إن الفيلم يدور على ثلاثة محاور:
الأول: علاقة (ي) بأمه التي لا نراها في الفيلم ولكننا نرى أنها الشخص الوحيد الذي يحبه ويثق فيه، وعلاقته بها تتبدى من خلال مكالمات هاتفية أو تسجيلات فيديو يقوم بها بواسطة التليفون المحمول. أما زوجته فلا نعرف عنها شيئا. هناك مكالمة تليفونية سريعة معها لا تبدي فيها اهتماما كبيرا بما يفعله بحيث يكثف شعوره بالوحدة والعزلة. وهناك مكالمة أخرى تأتيه من طرف فتاة تريد أن تحصل على دور عهد التميمي في فيلمه الجديد؟ تقول له في انفعال وحماسة كبيرتين، أنها تشربت الشخصية وعايشتها وتفهمها جيدا.
إن لابيد يبدو متأثرا، دون شك، بفيلم فيلليني الشهير “8 ونصف”، فهو مثل فيلليني يعبر هنا عن شعوره بالتعب والارهاق والرغبة في الفرار من عالمه وممن يطاردونه من اجل الظهور في أفلامه، ولكن فيلليني كان يصور حالة “وجودية” أما ناداف فهو يعبر عن الشعور بالغثيان الناتج عن التجربة الشخصية، وأساسا- تجربة العيش في مستنقع السياسة الإسرائيلية. ولكن هناك شيء لم يكن بالطبع موجودا عند فيلليني وهو يصنع فيلمه. وهذا هو العنصر الثاني.
ثانيا: بينما كان فيلليني يتذكر ويستعيد علاقته بالجنس وبالكنيسة الكاثوليكية وما تعرض له في طفولته من قمع، أما الذكرى التي تطارد (ي) فتتداعى فترة تجنيده في الجيش الإسرائيلي، والتي سيرويها على مراحل متقطعة تتبدى في مشاهد سريعة أولا، لمجموعة من الجنود الإسرائيليين (زملاؤه في الفصيلة) يرقصون على نغمات أغنية غربية مرة ومرتين، قبل أن يصل إلى “الكريشندو” وهو يبوح للفتاة بقصة مرعبة لعب هو فيها دورا ما، لكنه يصورها بحيث يصبح تارة الضحية، وتارة الشاهد الصامت، وتارة الجلاد.
ثالثا: المواجهة التي تحدث مع الجمهور بعد عرض الفيلم حينما يعلن هو داخل قاعة العرض ثم خارجها، رفضه لإسرائيل بتكوينها الحالي، ورغبته في أن (يتقأ قذارتها في وجه وزير الثقافة). لماذا؟ لأن يالوم تخبره أنه يتعين عليه أن يوقع على استمارة بيانات تفرضها وزارة الثقافة على كل الفنانين الذي يعرضون أعمالهم في أماكن تخضع للدولة حتى يحصلوا على المكافأة المالية المخصصة، يقرون فيها بطبيعة الموضوع الذي تتناوله أعمالهم. والقائمة التي لا يجب الخروج عنها تشمل أشياء مثل: قضية المهاجرين، الهولوكوست، التنوع العرقي والثقافي في إسرائيلي، الحب، الأسرة، التعليم والأطفال، الرعاية الاجتماعية.. إلخ وكلها بالطبع مواضيع “لطيفة” مشروعة من وجهة نظر السلطة. أما لو أقر بأن عمله يوجه النقد لـ “المؤسسة” فلن يحصل على المكافأة المالية!
وهو يقوم بتسجيل المحادثة التي تعترف له خلالها يالوم برفضها مثل هذه السياسة وإن كانت تخضع لها بحكم وظيفتها فقط، بل وتعرب عن إدانتها للسياسة الثقافية في إسرائيل وتشاركه انتقاد الوزير والحكومة. وهو يدير التسجيل أمام الجميع ويخبرهم أنه أرسل به إلى جميع الصحف والقنوات التليفزيونية ووكالات الأنباء. وهو تصرف يجعلهم يهاجمونه بعنف ويعتدون عليه ويتهمونه بالخيانة، كما يتصاعد غضبهم بعد أن تنهار يالوم التي فضحها على هذا النحو، وتهدد بإلقاء نفسها من فوق ربوة جبلية.
الجزء الأخير من الفيلم هو أضعف وأكثر أجزاء الفيلم هشاشة وارتباكا. فالبطل- اللابطل، يتقيأ كل ما لديه من شعور بالقرف والرفض والإدانة، في مونولوج واحد طويل ومباشر، أمام الفتاة بعد أن يخرج معها الى الصحراء، وهو ما لا يضيف جديدا، ويأتي على النقيض من الصيغة التي تتميز بالطرافة والسخرية المحببة التي تصبغ الفيلم السابق “مترادفات”، فالسيد (ي) يصل في هجائه للوضع في إسرائيل، إلى حد وصم إسرائيل بأنها بلد متعفن حتى النخاع، وأنها لو واصلت هكذا فمصيرها الزوال، إلى أن يصل إلى الانهيار التام، والبكاء والارتماء فوق صدر يالوم، كطفل صغير محموم يهذي. هذا المشهد يصنع ذروة ميلودرامية، تتناقض مع الطابع العام للفيلم الذي يميل إلى تكسير السرد التقليدي، والتلاعب بالزمن، والتداخل بين التداعيات الصادرة من ذهن البطل، من ماضيه في الجيش، وكيف شهد أشياء شديدة القسوة والفظاظة ترقى إلى التدمير النفسي للجندي الشاب المثالي، والعلاقة مع السينما ومفهومه عن الفن عموما. والتعبير الذي يمزج بين الشذرات، في pastiche أو مزيج من الفن البصري: الفيديو ميوزيك، مع الرقص والغناء والصور المتدفقة من الذاكرة، بل وغرابة الطائرة الصغيرة جدا التي يأتي بها إلى تلك المنطقة ومعه على متنها ثلاثة عسكريين، تبدو كلها وكأنها تحدث “خارج الواقع”.
في أحد المشاهد يسير (ي) في الصحراء، يتوغل وسط كثبان الرمال، يصور ويرسل الصور الى أمه بالتليفون المحمول. تخبره يالوم أن هذه المنطقة شهدت معجزة، فوسط الصحراء، تكونت بحيرة من مياه المطر، وهو أمر نادر الحدوث. وفي لحظة تتبدى فيها الرغبة في تدمير الذات، يخوض هو في مياه البحيرة بكامل ملابسه، يرى في القاع قوقعة ضخمة، تعيده إلى السطح ليقول ليالوم، ثم يكرر القول فيما بعد للجمهور في المكتبة: “أمي كانت دائما تقول لي إن الجغرافيا هي التي تنتصر في النهاية، وهو ما ينطبق على إسرائيل نفسها.. وهذا بالمعنى السيء للتعبير”. ترى ما المقصود بهذا القول؟ هل ستنتصر جغرافيا الصحراء وتبتلع إسرائيل مثلا؟ هل ستهزم الجغرافيا إسرائيل؟
هناك إفراط كبير في افتعال زوايا وحركات سريعة جدا للكاميرا للتعبير عن الحالة الذهنية المضطربة للبطل، فالكاميرا تتحرك في حركات بان pan سريعة للغاية من الشمال لليمين وبالعكس وهي تتابع حديث الشخصيتين: (ي) ويالوم، كما تدور حول نفسها وتحصر (ي) في لقطات قريبة جدا، تارة للجزء السفلي من وجهه، وتارة أخرى تنتقل لتحصر الجزء العلوي من وجهه، وعندما يسقط على الأرض، تسقط معه ثم تنهض معه تدريجيا وتظل تحصره في كلوز أب. وكثيرا ما تبدو الصورة أقرب إلى ما نراه في شرائط الفيديو ميوزيك، وفنون التجريب البصرية والفنون الطليعية التي أصبحت الآن “موضة قديمة”.. وربما لا بأس من استخدام أجزاء من الصورة وصورا أخرى غائمة ومهتزة غارقة في الضوء أو في الظلام، وكسر التكوين والتسلسل الطبيعي في الانتقال بين اللقطات، ولكن تكرار هذا كله، كما لو كان اكتشافا جديدا، لا يبدو موفقا بل يشتت الرؤية ويربك الفيلم.
إن “ركبة عهد” الذي يمتليء بلقطات كبيرة جدا لركبة فتاة أو أكثر، يركز عليها تركيزا فيزيائيا وتشريحيا مقصودا في بدايته، هو رحلة اعتراف بالذنب من جهة، وتعبير عن الغضب على “المؤسسة” من جهة أخرى. ولكن هل هذا الغضب موجه فقط ضد “حكومة اليمين الإسرائيلي” التي ظلت تحكم إسرائيل طيلة عقود، أم ضد إسرائيل الصهيونية ككل؟ سؤال لا تتضح الإجابة عليه. ومع ذلك، فالأمر المؤكد أننا أمام عمل شجاع وصادق يعبر عن رؤية المخرج- المؤلف، فنان السينما الذي أغضب المؤسسة بفيلمه السابق.
ناداف لابيد يقول إنه صور الفيلم في 17 مشهدا فقط، وانه لم يكن يعرف ما إذا كان الفيلم سيصبح فيلما قصيرا أم متوسط الطول أم طويلا، كما أن ما حصل عليه من تمويل من الحكومة لا يزيد عن 2 في المائة من ميزانية الفيلم، ويضيف في حديث لمجلة “جويش كرونيكل”، أنه لا يخشى رد الفعل عند عرض فيلمه في إسرائيل، ولا يتصور أنه حتى لو جاء معظم التمويل من الحكومة الإسرائيلية كان يجب أن يجامل الحكومة أو يمتدحها، وأن من حقه أن يصنع عملا يعبر عنه بصدق عما يراه. أما عما يوجهه من نقد في أفلامه لإسرائيل فيقول إنه يوجه أيضا نقدا مماثلا إلى نفسه: “أنا إسرائيلي، وأعاني أيضا من نفس الأمراض، ونفس المشاكل”.