عن الأفلام القصيرة للمخرجة المغربية أسماء المدير

بحصولها على حائزة الإخراج في تظاهرة “نظرة” ما بمهرجان كان السينمائي 2023، عن فيلمها “كذب أبيض”، استطاعت المخرجة الشابة أسماء المدير أن تلج عالم السينما في أحد أبرز الأماكن للاحتفاء بالفن السابع، هي التي ما فتئت عند كل عمل سينمائي من أعمالها تنال الجوائز تلو الأخرى بعن فلامها القصيرة خاصة ” ألوان الصمت (2012) و” جمعة مباركة ” (2013)، و” دوار السوليما ” ( 2014 ) ثم فيلمها الوثائقي الطويل ” في زاوية أمي”.

والحق أن نيلها الجائزة عن الإخراج أمر منطقي ويصب في صلب عملها في الإخراج القائم على دراية بأساليب نقل واقع ما إلى صورة متحركة مضبوطة العناصر وتسعى إلى إيصال معنى ما.

فما يسترعي الانتباه لديها هو القدرة على مراودة الكاميرا وتمكينها من التحرك بسلاسة ويسر في فضاءات حكاياتها الفيلمية، وليس الموضوع المطروق وأهميته في المقام الأول، الذي يظل يخضع لمباشرة واضحة، خاصة عندما يغامر بالتطرق إلى القضايا الكبرى المرتبطة بأحداث مفصلية في تاريخ المغرب الحديث، أو إلى القضايا الاجتماعية الأساسية مثلا، التي تتطلب انخراطا شخصيا وثقافيا قويا. وهو ما يسبب اختلالا في ضبط الشخصيات غير المستعدة للانخراط فيما يتجاوز إمكاناتها التشخيصية.

الملاحظ أن أسماء المدير أكثر تمكناً فيما يتعلق بالتقاط ما يُعضد مكونات أفلامها من قصة، وأماكن، وأزمنة مرتبطة بها، متبعة لغة سينمائية محفوظة عن ظهر قلب، لا تكتفي بالتصوير الجَبهي لما ينتصب امام العدسة، بل بتغيير اللقطات وزوايا النظر حسب ما تمليه ضروريات السيناريو أو التصوير أحيانا.

استعارت أسماء العنوان من التهنئة الأسبوعية التي دخلت قاموس المغاربة قادمة من الشرق وخاصة من مصر، وهي التي لم تكن معروفة ولا متداولة إلى حدود عشرين سنة خلت.

وقد أوردت العنوان عن قصد للإشارة إلى تقاليد يوم الجمعة، عيد المسلمين كما يطلق عليه، والذي يجتمع فيه أفراد عائلتها، ككل العائلات المغربية، حول صحن كسكس بعد صلاة الجمعة. وما رامته هو الانطلاق منه لتمرير الحكاية الشخصية لكل فرد وخاصة البطل الرئيسي، الخال مرزوق، اليساري الحالم بتغيير العالم لصالح الشعب والبروليتاريا، والذي يجلس دوما على يسار الوالدة. بينما عن يمينها يجلس أخوه المتدين والملقب بـ”الطالبان”.

يدور بينهما الصراع الأيديولوجي والحديث المتناقض، الذي تهدئ من حدته الأم ما أمكنها ذلك. الواضح أن المخرجة حاولت الإمساك بموضوع “جدي جدا”، مع أمنية مشروعة على كل حال، أن يجعلها عبر التعبير السينمائي، تُدلي بدلوها، كصوت أو كرأي فيما عرفه البلد في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، ولو عن طريق الشهادة الفيلمية، حين كل من التيار الاشتراكي والتيار الإخواني يتنازعان أهواء الشباب وبعض الأحزاب التي كانت تعتبر نفسها متكلمة باسم الشعب أو باسم الأمة، حسب التسمية المنتقاة من أدبياتها الخاصة.

لكن الأمر ليس بالبساطة التي يصورها الشريط. تدور حيثيات هذا الصراع في وسط عائلي من فوق، يمر كمحتوى دون أن يترسخ كفاية. وبالرغم من ذلك، يلبي الفيلم هدفه. فقد انقده النزوع السينمائي الواضح للشكل المُتبَع، الذي يتغلب على المضمون. فنشاهد حينها تلخيصا مصغرا للمجتمع المغربي بالأشخاص والعادات والمأثور في القول والسلوك العامين، ونشاهد بورتريهات معبرة في حد ذاتها.

موضوع جدي آخر حاولت المخرجة معالجته سينمائيا، وهو ظاهرة إغلاق قاعات السينما، فتخيلت حجرة دراسية وقد حولتها إلى قاعة سينما في دوار قروي (مجموعة منازل طينية واطئة في البادية) أسمتها “سينما الدوار”.

يتكلف بالعرض شيخ، ويتكلف بالدعاية للفيلم في طرق الدوار المتربة ومرتفعاته وتعرجاته، حفيده الطفل الذي يجري ما أمكنه الجري، وهو يحمل ملصقا عن الفيلم على ظهره، ويعلن عن وقت عرضه عبر مكبر صوت.

الطفل هو البطل. ولا يمكن سوى أن نتذكر الشريط التحفة “سينما باراديزو”. لكن لا مجال للمقارنة. فهذا الأخير لم يتخيل بل يحكي عن الدور الكبير للسينما في حياة أناس يشكل لديهم الفن عنصرا من عناصر الحياة اليومية، والسينما طقس أسبوعي، منذ عقود طويلة.

أما في الفيلم القصير لأسماء المدير، فيعرض الشيخ الحجرة/ القاعة، للبيع، ويسميها “زريبة للبيع”، أي حظيرة بهائم للبيع، بدعوى أن سكان الدوار لم تعُد تستهويهم السينما. لكن الطفل لن يتقبل الأمر، فيقوم بصنع شريط من بقايا أشرطة السيليولويد التي كان جده يقتطعها من الأفلام لأنها مُمِلَّة (في الفيلم الإيطالي، كان المسؤول عن آلة العرض يُزيل لقطات القبل)، ويعيد فتح الحجرة/ القاعة، فيعرض فيلمه ويُسعد سكان البادية/ الجمهور.

نعم، كل شيء جائز في السينما، لأنها مجال تخييل لانهائي، شريطة أن لا يتم التعارض مع استقامة منطق الأشياء. ففي الحقيقة، ما يُشاهد هو تمرين سينمائي ناجح، على مستوى ضبط اللغة السينمائية، على مستوى التأطير، مما يجعل الفضاء هو الذي يسترعي الاهتمام، مع فكرة خلفية، يمكن أن تُستشَف بسهولة، وهي محاولة الشهادة على واقع قروي مهمش وقاس على أصحابه. وهذه كما يعرف الكثيرون، سمة من سمات الفيلم الوثائقي.

ذات الملاحظة يمكن إيرادها بخصوص هذا الفيلم الذي اتجهت به صاحبته صوب البحر. بحيث تم تأطير الأمكنة والوجوه بغرض صنع مقاربة جمالية متقنة، ولكن حول موضوع اجتماعي اتسم بصيغة ميلودرامية ترمي إلى استدرار ما أمكن من العواطف لدى المشاهد، ولو استدعى الأمر المبالغة في إمارات الحزن على السحنات وفي الحوارات التي شُحنت بالمرارة والتبرم وعدم الرضى عن الأحوال المعيشية.

فهنا طفلة بكماء تتكلم بعينيها، وتتابع كل شيء، وتتكلم من خلال الرسم على أوراق بيضاء، تعيش ما بين أب صياد بقصبة في انتظار أن تكَمل له زوجته الحامل رتقَ شبكة صيد بصبر وأناة. في انتظار ذلك، لا يكفي مدخوله اليومي الشحيح من الصيد لدفع إيجار المنزل حيث يقيمون، وهو عبارة عن غرفة واحدة لا غير، الأمر الذي يجعل صاحب المنزل يضغط عليه، ثم يقترح على زوجته أن توصيه بإيداع البنت الصغيرة لدى عائلة ما لتشتغل خادمة لديها فيضمن مالا ويؤدي ما بذمته.

وهكذا نرى مصائب عديدة في زمن قصير تصب على رأس فتاة صغيرة، لينتهي الأمر بغرق الأب في البحر بعد أن تمكن من الصيد بالشبكة. هنا تصل الميلودراما إلى أقصى حد ممكن في فيلم قصير. فالأحداث تتلاحق بشكل لا يحقق أثرها المطلوب. وهو ما يظهر على أداء الشخصيات، فالقصد هنا أيضا هو الحديث عن الهامش والفقر والاستغلال، لكن دون أن يصل إلى مداه المرجو. وبالتالي، ما يبقى لدى المشاهد هو الصورة الجميلة.

هي إذن أعمال سينمائية استرعت الانتباه بوجود عفوية سينمائية محمودة، وإمكانات فنية لا تهاب التطرق إلى الثيمات الهامة، مع تخييل يسعى إلى أن يكون متفردا. لكن السينما تُعلمنا أن التعبير الأصوب هو الذي يُمرَّر ضمنيا عن طريق توليفة كل العناصر التي تشكل الفيلم السينمائي.

Visited 5 times, 1 visit(s) today