“عن إيلي” كيف حاصر أصغر فرهادي الطبيعة البشرية في فيلا ساحلية
وليد خيري
فيلم “عن إيلي” About Elly (2009) للمخرج أصغر فرهادي لا يعد مجرد فيلم غموض سينمائي بسيط، بل هو دراسة معمقة عن كيفية انهيار البنية الاجتماعية للطبقة الوسطى الإيرانية تحت ضغط الحقيقة والكذب.
يمثل هذا العمل لحظة تحول في السينما الإيرانية المعاصرة، حيث استطاع أصغر فرهادي خلق درامية متعددة الطبقات داخل فضاء محدود جدا – فيلا ساحلية على بحر قزوين – بواسطة ثماني شخصيات فقط. إن هذا الإنجاز السينمائي ليس مجرد براعة تقنية، بل هو نموذج متقدم لكيفية تحويل الفضاء المحدود إلى آلية درامية قوية تعكس الأنظمة الاجتماعية والأخلاقية المعقدة.
الرحلة من الصورة الذهنية إلى الواقع السينمائي
لم يكن فرهادي يمتلك حبكة كاملة عندما بدأ تطوير الفيلم، بل كانت لديه صورة ذهنية ظلت ملازمة له لثلاث عشرة سنة. هذه الصورة تعكس جوهر الفلسفة الفنية لفرهادي: البدء بعاطفة بصرية نقية ثم السماح للسرد أن ينبثق من داخلها، وليس فرض حبكة مسبقة على الشخصيات.
الصورة كانت بسيطة لكن قوية: رجل يقف بجانب البحر في لحظة الغروب، مبلل، بمظهر مشبع بالانتظار المرير، كأنه ينظر إلى جسد غرق في المياه. هذه الصورة الوحيدة حملت في داخلها أسئلة وجودية متعددة المستويات.
ما يميز نهج فرهادي هو أنه لم يقرر بسرعة علاقة القرابة بين الرجل والجسد الغريق. لقد سأل نفسه: من هو هذا الرجل؟ من الذي غرق؟ هل هي زوجته، أمه، أم ابنه؟ هذا التردد الواعي في تحديد الهوية لم يكن تأخيرا في الكتابة، بل كان تقنية فنية مقصودة. فرهادي كان يسمح لعقله الباطن بالسيطرة على العملية الإبداعية، لأنه يؤمن أن القرارات التي تُتخذ من مكان عميق وغير واع في الذات الفنية تحمل صدقا عاطفيا أعمق من القرارات الذهنية المحسوبة. عندما اقترب من السن الخامسة والثلاثين، استطاع أخيرا تحويل هذه الصورة إلى سرد سينمائي متكامل.
الشخصيات كأدوات اجتماعية
تكمن إحدى أعظم براعات فرهادي في “عن إيلي” في كيفية ابتكاره الشخصيات، ليس من خلال الوصف المباشر أو المونولوج الفاضح، بل من خلال ردود أفعالهم الجسدية والنفسية في لحظات الأزمة. هذا الأسلوب يحول الفضاء المحدود إلى معمل اجتماعي حيث يتم اختبار هويات الشخصيات. تحت الضغط، تسقط الأقنعة الاجتماعية، وينكشف جوهر كل شخصية.
أمير يمثل المحافظ الخائف: عندما تغرق فتاة في البحر، لا يقفز أمير في الماء مثل الآخرين. وبدلا من ذلك، يقف على الشاطئ ويصرخ، وقوفه المشلول يخبرنا عن شخصيته أكثر من أي حوار. في مشهد آخر، يفحص زيت السيارة وماء التبريد بدقة مفرطة – هذا الفحص الدقيق والقلق لا يكشف فقط عن طبيعة حذرة، بل يعكس الطريقة التي ينظر بها المحافظ إلى العالم: كل شيء قد ينهار في أي لحظة، لذا يجب مراقبة كل التفاصيل.

زبيدة تتحول من امرأة اجتماعية متفائلة ومتدخلة إلى شخصية مدمرة نفسيا بسبب كذبة. لكن كذبتها الأولية لم تكن عمليا بحتة – كانت مزيجا من الحسن النية والهيمنة الاجتماعية. أرادت أن تساعد صديقتها “إيلي” بدون أن تستمع إلى رغباتها الفعلية. كذبة زبيدة بأن إيلي وأحمد زوجان قادمان من ألمانيا تكشف عن شخصية امرأة تؤمن بأنها تعرف الأفضل للآخرين – وهي أنانية مموهة بقناع الحب. كلما ازداد الضغط، ازداد كذبها، حتى أن الكذب يصبح آليتها الدفاعية الوحيدة. الجمهور يكتشف أن كذبتها لم تكن مرة واحدة، بل تكررت ثلاث مرات، في كل مرة بدافع مختلف ولكن بنفس الهدف: السيطرة على السرد.
نازي وزوجها يمثلان نقطة تفاصل فلسفية. كلاهما يؤمن بالقدر والخرافات، وهذا الإيمان يمنحهما نوعا من الهدوء الذي ينقص الآخرين. عندما تقول نازي “رأيت في حلمي أن أسناني تسقط”، هذا ليس مجرد إشارة خرافية بسيطة. إنها رسالة تكشف عن أن هذه الشخصيات تعيش في نقطة تقاطع بين الحداثة والتقليد – هي مثقفة وعصرية، لكنها تحتفظ برؤية عالمية قدرية تجعلها أقل مسؤولية شخصيا.
الفضاء المحدود كمحرك درامي
الفيلا على بحر قزوين ليست مجرد خلفية، بل هي شخصية ثانية في الفيلم. فرهادي يستخدم الفضاء المحدود بطريقة تذكرنا بأفلام إنجمار بيرجمان “chamber films”، تلك الأفلام التي تختزل القصة إلى عدد صغير من الشخصيات في مكان واحد لكي يحدث تقاطع موسيقي بينهم مثل الآلات في فرقة موسيقية. الفيلا الفسيحة القديمة ذات الأعمدة والنوافذ الكبيرة تصبح مصدرا للقلق. المشاهد لا يسعه إلا أن يشعر باختناق في هذا الفضاء ذاته الذي كان يبدو محررا قبل قليل.
السيارة الحمراء (BMW) التي تعطلت في رمال الشاطئ تعمل كعلامة بصرية قوية. إنها ليست رمزا مجردا بالمعنى الأدبي الكلاسيكي، بل هي علامة وظيفية داخل سياق الفيلم. الألوان الزاهية للسيارة تتناقض مع اللون الباهت للرمال والسماء، محققة تأثيرا بصريا يثير الاستياء اللاواعي في المشاهد. كلما حاول الرجال دفع السيارة، استمرت في الغوص أعمق في الرمال. هذا الجهد العبثي ينعكس على محاولاتهم للخروج من المأزق الأخلاقي – كل كذبة إضافية تدفنهم أعمق في الرمال.
الحوار كأداة سينمائية
جملة “نهاية مرة خير من مرارة لا تنتهي” تحمل الموضوع الفلسفي الأساسي للفيلم. لكن فرهادي لم يسمح لها بأن تصبح منصة للخطابة المباشرة. عندما تقال هذه الجملة، تقال وسط الفوضى والطعام والضحك والحوارات المتداخلة. تقال بنبرة عابرة، تقريبا مثل تفكير شخصية بصوت مرتفع. هذا الأسلوب الدرامي يضمن أن الجمهور لن ينتبه للثقل الفلسفي للجملة في لحظتها، لكنه سيتذكرها لاحقا، عندما تبدأ الأحداث تتكشف.

توزيع المعلومات في الفيلم يتبع تقنية البازل. معلومة صغيرة في النصف الأول – إيلي تتصل بأمها – تبدو عادية تماما في اللحظة التي نرى فيها الفيلم. لكن عندما تختفي إيلي، ندرك أن هذه المكالمة كانت ذات أهمية عميقة. إيلي كانت تخفي شيئا عن والدتها. تجميع هذه الجزأين – المكالمة والاختفاء – يخلق حقيقة جديدة تماما. هذا الأسلوب يجعل المشاهد يعيد نظره للفيلم في عقله حتى بعد انتهائه.
حوار آخر يتحول من عابر إلى اتهاما دراميا. صرخة من شخصية ما في منتصف المشهد – قد تبدو مجرد ردة فعل عاطفية عادية – تصبح، في لحظة لاحقة، دليلا على الكذب. عندما يقول أحد الرجال لامرأة “أنتِ أيضا صرختِ”، يتحول الحوار الهامشي الذي نسيناه إلى اتهام درامي قوي. هذا يجبرنا على إعادة تقييم كل ما شاهدناه حتى الآن. قوة الحوار أيضا تظهر في صياغته في شكل سؤال يرد على سؤال فيبدو الحوار معلقا مشوقا جذابا.
هندسة الحبكة والعقد الدرامية
الفيلم يتطور من خلال سلسلة من العقد الدرامية المترابطة:
العقدة الأولى: الاختفاء الغامض لإيلي. لا نرى لحظة الغرق. هذا الفراغ السينمائي ليس فشلا سرديا، بل هو استراتيجية عبقرية. بعدم إظهار الحادثة، يجبر فرهادي الجمهور والشخصيات على تخيل ما حدث، وهذا الخيال الجماعي يصبح جزءا من الدراما.
العقدة الثانية: البحث الهستيري عن الجسد. هذا المشهد يذكرنا بفيلم “Jaws” لسبيلبرج – الحركة الكاملة، الكاميرا الارتعاشة، الموسيقى الصامتة (هي صوت طبيعي – اصطدام الموجات، أصوات الحوار، أصوات الحركة. هذا يخلق شعوراً بالواقعية المؤلمة). الرعب في هذا المشهد عميق وشامل.
العقدة الثالثة: اكتشاف الهاتف المحمول والرسالة بعنوان لا يطابق الاسم. هذا يكشف أن إيلي كانت تخفي هويتها الحقيقية.
العقدة الرابعة: وحلول الليل دون العثور على الجثة. هذا يجبر الشخصيات على مواجهة احتمالية أنها قد لا تجد الجسد أبدا، وهذا يعني أنهم قد يضطرون إلى الكذب حول ما حدث.
السياق الاجتماعي والفلسفي
“عن إيلي” ليس مجرد فيلم غموض. إنه استكشاف عميق لكيفية أن المجتمع الإيراني – على الرغم من الحداثة الظاهرية – يبقى مقيدا بقيود أخلاقية وجنسانية صارمة. الطبقة الوسطى المثقفة والعصرية التي نراها في الفيلا تكتشف، عندما تواجه أزمة، أنها ليست حرة كما تخيلت نفسها.
المفهوم الفلسفي الأساسي في الفيلم هو نسبية الأخلاق. فرهادي يقدم لنا شخصيات حسنة النية لكنها تكذب باستمرار. يكذبون ليس لأنهم أشرار، بل لأنهم يعتقدون أن الكذب سيحمي المجموعة من الدمار الكامل. كل كذبة لها سبب معقول. زبيدة تخفي الحقيقة لحماية سمعة الجميع. أحمد لا يقول الحقيقة عن علاقته برغبته بالزواج من إيلي. الجميع يقولون الأكاذيب الصغيرة لحماية أنفسهم وأحبائهم.
هذا يثير سؤالا فلسفيا عميقا: في مجتمع حيث الصدق قد يدمر حياتك، هل الكذب يصبح واجبا أخلاقيا؟ فرهادي لا يجيب على هذا السؤال مباشرة. بدلا من ذلك، يظهر لنا عواقب هذا الالتباس الأخلاقي.
الأداء التمثيلي والحساسية السينمائية
تقديم جولشيفتة فرحاني لشخصية زبيدة هو عمل من الأعمال الكبرى في السينما الإيرانية المعاصرة. فرحاني تنقل التحول النفسي من امرأة مرحة وثقة بنفسها إلى شخص مكتئب عاطفيا عبر تغييرات دقيقة في التعبير والحركة. لا توجد لحظة درامية صريحة حيث تنهار تماما. بدلا من ذلك، نلاحظ شيئا صغيرا تلو الآخر: طريقة وقوفها تتغير، عيونها تفقدان الثقة، صوتها يصبح أضعف.
تاره علیدوستی تلعب الدور الصعب لإيلي – شخصية تكاد لا تتحدث كثيرا ولا تشارك كثيرا في الفعل، لكن وجودها يحرك كل شيء. دورها هو دور الغياب، والغياب نفسه هو درامي. فرهادي لا يجعلها ضحية سلبية. بدلاً من ذلك، نشعر بنوع من المقاومة الهادئة في شخصيتها حتى قبل اختفاءها.
فرهادي اختار نهجا واقعيا في التمثيل. الممثلون لا يقومون بـ “تمثيل” دورا بالمعنى المسرحي التقليدي. بدلا من ذلك، يبدون وكأنهم يعيشون هذه اللحظات. هذا يتطلب مستويات عميقة من الثقة بين المخرج والممثلين. فرهادي قام بعملية بروفات طويلة جدا، وأحيانا أخفى من بعض الممثلين جزء من السيناريو لكي تكون ردود أفعالهم أكثر صدقا.
التقنية السينمائية والحاضر

الكاميرا في الفيلم لا تكون ثابتة أبدا. يستخدم فرهادي hand-held camera حتى في المشاهد الهادئة. هذا الخيار التقني يخدم هدفا سينمائيا: إنه يجعل المشاهد يشعر بأنه على حافة أزمة حتى قبل أن تحدث. عندما تكون الأشياء هادئة نسبيا، الكاميرا.. الارتعاشة تخلق توترا تحت السطح.
اللقطات القريبة من وجوه الممثلين مهمة جدا. فرهادي يعرف أن وجه الممثل هو آلة معقدة جدا. تغيير صغير في زاوية العين أو طريقة الفم يمكن أن يعبر عن حالة نفسية بأكملها. هذا يتطلب كاميرا قريبة، وهذه القرب تخلق علاقة حميمية بين المشاهد والشخصيات.
الحداثة مقابل التقليد

الفيلم يستكشف التوتر بين ما تريده هذه الطبقة الوسطى أن تكونه (حر، حديث، عقلاني) وما يفرضه عليها المجتمع الإيراني بالفعل. الرجال والنساء يتسامرون معا، يرقصون. لكن عندما تأتي أزمة، الأدوار التقليدية تعود فورا. الرجال يتولون القيادة والسيطرة. النساء تصبح خاضعة. الكود الأخلاقي التقليدي يعود بقوة.
فرهادي لا يدين هذا التحول الاجتماعي. بدلا من ذلك، هو يصوره بإنسانية وتعاطف. هو يفهم أن السلوك الإنساني معقد وأن الناس ليسوا أبطالا في فيلم من أفلام هوليوود. الناس يتصرفون بناء على الضغط الاجتماعي والخوف والقيم التي ترسخت عميقا في ثقافتهم.
الإرث السينمائي والتأثير
“عن إيلي” فاز بجائزة الدب الفضي لأفضل مخرج في مهرجان برلين عام 2009، كما فاز بأفضل فيلم في مهرجان Tribeca. الناقد الأمريكي الشهير ديفيد بوردويل وصفه بأنه “تحفة فنية”. لكن الأهمية الحقيقية للفيلم ليست في الجوائز، بل في كيفية أنه غيّر الطريقة التي ننظر بها إلى السينما الإيرانية المعاصرة.
الفيلم تأثر بأنطونيوني وبيرجمان لكنه فريد من نوعه في طريقة استخدامه للسياق الإيراني المحدد. إنه يثبت أن الدراما الحقيقية، الدراما التي تلمس روح الجمهور، لا تحتاج إلى مواقع متعددة أو ميزانيات ضخمة. كل ما تحتاجه هو حقيقة عميقة عن الطبيعة البشرية وفهما عميقا لكيفية جعل هذه الحقيقة على الشاشة.
“عن إيلي” هو دليل رئيسي لأي كاتب أو مخرج يريد فهم كيفية خلق دراما معقدة داخل قيود شديدة. فرهادي أثبت أن الفضاء المحدود وعدد الشخصيات ليست قيودا، بل هما أدوات قوية جدا. عندما تجبر الشخصيات على العيش معا بلا هروب، تُجبر على كشف حقائقها الأعمق.
الفيلم يبقى متصلا بموضوعات إنسانية عالمية: الحب والخسارة والذنب والمسؤولية – لكنه يفعل ذلك من خلال عدسة إيرانية محددة جدا. هذا التوازن بين الخاص والعام، بين السياق المحلي والقيمة الإنسانية العالمية، هو ما يرفع الفيلم إلى مستوى التحفة الفنية الحقيقية. إنه يذكرنا بأن أعظم أفلام السينما لا تحتاج إلى أن تكون مهيبة أو ضخمة. أحيانا، كل ما تحتاجه هو حقيقة إنسانية صادقة وشريط سينمائي يفهم كيفية جعل تلك الحقيقة حية على الشاشة.
