علاقة فؤاد المهندس وجمال عبد الناصر في كتاب جديد
حسام الخولي
رحلة مجهدة تلك التي خاضها الباحث وليد الخشاب أستاذ الدراسات العربية بجامعة يورك بكندا، في كتابه الأحدث “مهندس البهجة.. فؤاد المهندس ولا وعي السينما” للبحث في مشروع فؤاد المهندس في الكوميديا وتقاطعاته مع سياسات جمال عبد الناصر، وإظهار العلاقة المتبادلة عمومًا بين الفن والسياسة، قدم من خلال الكتاب نظرة تاريخية للستينات والسبعينات بعيون المهندس كرجل لا يزال مشروعه الكوميدي مضحكا|ً لأجيال تالية مقارنة بغيره ممن طوى مشروعهم النسيان.
الدراسة تعيد إحياء فؤاد المهندس بعد حوالي مئة عام شخّص خلالها مختلف الفئات الإجتماعية والمهن التي تنامى صعودها بفضل سياسات التحديث التي أنتجتها دولة عبد الناصر، وكيف كان يحاول إعادة تفكيك النظر إلى الكوميديا باعتبارها تقدم نظرة جادة إلى التاريخ.
يقول الخشاب في حوار أجريناه معه: “فؤاد المهندس من أحب النجوم إلى قلبي، هو بطل طفولتي الفكاهي، حاولت تقديم كتابات عربية تأخذ الفكاهة مأخذ الجد، وتعتني بمنجز فنان مثل فؤاد المهندس يحترمه الجميع لكن ينظرون إليه فقط على أنه نجم مسلٍ، إنتاج المهندس الثقافي والفني يتزامن ويتوازى مع ظهور وترسخ وترهل دولة التحرر الوطني: نؤرخ لدولة التحرر بيوليو 1952 وبدايات المهندس في الإذاعة والسينما قريبة من ذلك التاريخ، ومساره الفني ارتبط ارتباطاً وثيقاً بتلك الدولة”.
هندسة طبقات المجتمع
بدأت شهرة فؤاد المهندس تترسخ أكثر مع التفاعل الكبير الذي تلقاه مع البرناج الإذاعي “ساعة لقلبك” الذي بدأ مع أحداث يوليو 1952 تقريبًا وعبر عن أزمات المواطن المصري المعاصر آنذاك، كما عبر تحديدًا عن طموح وخيالات الطبقات الصاعدة حديثًا، المتعلمة المدنية التي تؤيدها دولة عبد الناصر عن غيرها. في فؤاد المهندس يندمج صنّاع خلف الشاشة تمثل أفكارهم أفكار الدولة الحديثة وقتها، ومنذ ذلك الوقت اكتسب المهندس الوعي ولو بشكل غير مباشر، بعد أن اصبح هو المنصة التي تتواصل مع أفكار الناس في الشارع وتنتزع منهم الضحك في بساطة وسعة صدر، ليخرج الضحك من قلوبهم مباشرة.
بدأت من خلاله دولة “التحرر الوطني” تقدم نموذج للإنتاج الثقافي المستقل، وتفتح من خلاله مشروعات للقطاع الخاص بخطاب “ترضى عنه الدولة”، فكانت الدولة بذلك “تمارس شكلا من أشكال هندسة المجتمع مرة أخرى وإعادة تشكيله” عن طريق مركزية الحركة السياسية والإجتماعية والفنية التي وجدت نفسها بشكل غير واعٍ، وغير مباشر، في فؤاد المهندس.
يقول الخشاب إنه لا يوجد قبل “مهندس البهجة” كتابٌ نقدي كامل مخصص لدراسة أفلام هذا النجم الكبير وتفاعلها مع سياق التحرر الوطني وتمثيلها لما سميته “أيديولوجية الفودفيل”، وهي العقيدة الفكرية التي أستخلص ملامحها من أفلام الكوميديا في الستينات بالذات، وأجد أقوى تجلٍ لها في أفلام ومسرحيات فؤاد المهندس. ويمكن تلخيص أيديولوجية الفودفيل في خطاب يقترح مقايضة الولاء لنظام دولة التحرر الوطني في مقابل التمتع بوعد الحصول على فرصة للانضمام إلى الطبقة الوسطى التي تنشئها دولة التحرر، والتمتع بالملذات التي تعد بتوفيرها تلك الدولة، والتي تشبه في بعضها “ملذات” نوع الفودفيل الكوميدي، ومنها التحرر والتعدد والخفة في العلاقات العاطفية، وإقامة علاقات مع شريك أو شريكة يتمتعان بقدر من بحبوحة العيش الحديث المرفه.
كما يعتقد أن تأمل منطق سياسة فريق عمل برنامج “ساعة لقلبك” الإذاعي الفكاهي، يلقي الضوء على علاقة الكوميديا بمشروعات التحديث في الدولة، وعبارة “ساعة لقلبك” تستدعي المثل الشهير “ساعة لقلبك وساعة لربك” النصف الأول يحمل ضمنًا مشروعًا لتقديم الترفيه للمجتمع، مصاحبًا لمشروع علمنته، لكن المنطق يضمر أن النصف الثاني سيصبح ساعة لوطنك، وهو ما يتماشى مع منطق العلمنة.
ينقسم الكتاب إلى أربعة فصول من تاريخ الكوميديا الوطنية، التي يقف أمامها الكاتب لوضع سياق عام للحديث عن أهمية تناول الكوميديا بشكل جاد، وربما في ذلك ما يستدعي الإعجاب بباحث أكاديمي يستهل مشروعه بتفكيك الكوميديا التي يتجاهلها البحث العربي باعتبارها أدنى أهمية من أن تعبّر عن الأفكار والمجتمعات عمومًا، ثم تعمّق أكثر في هندسة المجتمع عبر الفنون التي قدمها، على اعتباره الممثل ربما الوحيد، الذي نالت أعماله النجاح الساحق في مختلف وسائط العرض (الراديو/ التلفزيون/ السينما).
بعد ذلك ينتقل إلى الكوميديا ومأساة الازدواج: القرين والفصام، ليحكي عن فؤاد المهندس في (لا وعي الناصرية)، وهو الفصل الأكثر تجريباً وجرأة في الكتاب، فهو يقدم محاولة للتناص بين مشروعات الأفلام التي قدمها المهندس كبطل وبطل مضاد باعتبارها تعبيرا مذهلا عن المرحلة الناصرية التي ظلت لفترة طويلة بين جمال عبد الناصر/ عبد الحكيم عامر وما ترتب على ذلك من سياسات وخلخلة سياسية وإجتماعية وثقافية طويلة المدى، واختتم الكتاب بالحديث عن اقتباس الكوميديا. وربما في هذا الفصل ما يحيلنا إلى كتاب اشترك فيه الباحث نفسه عن فكرة الاقتباس عمومًا ومركزية وجودها عربيًا وما يمكن أن نفهمه من ذلك.
المهندِس المهندَس
كانت تيمة الازداوجية هي الحاكمة لرواية التاريخ لمجمل عصر عبد الناصر وفق عدد من المؤرخين، هذه الازداوجية التي كانت ارهاصا مناسبا للدخول في حرب خاسرة تمامًا مل النكسة، دون استعداد كافٍ، فالسلطة كانت لسنوات طويلة مشتركة بين شخصين همال: عبد الحكيم عامر وجمال عبد الناصر، لناصر الشارع ولعامر الجيش.
هذه الازدواجية بين التشريق والتغريب بين الخطاب التحرري الناصري وبين سجن المعارضين كان في مقابله ازدواجية سينمائية للمهندس الذي يخرج بشخصية طيبة ساذجة بريئة وأخرى خطرة شريرة “غربية”، في أنجح أفلامه “أخطر رجل في العالم” وغيرها.
وإذًا كان في مشروع المهندس ثمة نقطة محورية يمكن التأكيد على خدمتها للمشروع الناصري ومعبّرة عنه؛ فهي فكرة التهريج المتحرر أكثر من كل ما سبقه مقارنة بنجيب الريحاني النجم المسرحي والسينمائي الأقدم الذي استمد المهندس منه بعضاً من أنجح أعماله التي ساعدته على استقطاب جمهور أوسع كان عصارة مشروع عبد الناصر أساسًا.
هذا الجمهور انضم في الستينات والسبعينات إلى الطبقة الوسطى المتعلمة لكنه لم يتخلص تمامًا من أشكال التسلية المتجذرة في الريف والمدن الصغيرة التي تعتمد أحيانًا على التهريج والقفشات و”القلش” والحركات البدنية المضحكة المتحررة التي كان يفتعلها المهندس دون خجل” مقارنة بالكوميدية الكلاسيكية التي اعتمد عليها الريحاني قبله على سبيل المثال.
يحتاج الكتاب إلى أكثر من قراءة تشمل قراءات متعددة لأفلام المهندس متعددة الجوانب، لكن تظل النقطة الأكثر مركزية تخص سؤالا هو: كيف يمكن للكوميديا التي تخص المهندس أو الكوميديا عمومًا، أن تخدم السلطة كما فعلت كوميديا المهندس؟
يقول الخشاب قد يتبادر للذهن أن الكوميديا بطبيعتها ضد السلطة. يقول الفيلسوف الفرنسي ميشيل أونفراي ما معناه إن الضحك يدنس ولا يقدس، وإن الضحك لا يعفي المقدس من السخرية. وهو يعني بالمقدس هنا كل سلطة لها احترام رمزي كبير كالدولة والشخصيات العامة.
“الكوميديا لا تقتصر على المقاومة أو المعارضة، الكوميديا تعتمد على التناقض والتضخيم، فهي “تهز” كل ما يمثل سلطة. لكن قد تركز الكوميديا في هز بعض الأفكار الثابتة العتيقة بل ونقضها، فتكون من قبيل المعارضة، سواء كانت معارضة بأضعف الإيمان أو معارضة تحريضية، وقد يتم استلاب الكوميديا وتوظيفها في خدمة السلطة نفسها”.
ويضيف الخشاب: “دريد لحام كان يقدم كوميديا تهز العروش المحافظة التي لا تدعم الحقوق الفلسطينية، لكنه بتجنبه نقد دولته الوطنية، كان يقدم بشكل غير مباشر -وربما غير مقصود- دعماً لتلك الدولة. عادل إمام كان يقدم كوميديا تهاجم اليمين المتطرف الديني، لكن بتركيزه على نقد ذلك الفصيل السياسي/ الاجتماعي دون نقد دور الدولة في رعايته واستغلاله، كان يقدم دعماً غير مباشر لدولته الوطنية”.