“10 أيام قبل الزفة”: الفنّان يصفعُ السياسيّ
في عام 1910 قام رجلُ الأعمالِ العدنيّ طه محمد حَمُود الشهير بـ”مَستر حَمُود” ببناءِ صالةِ سينما لعرضِ الأفلامِ الصامتةِ في المُديريّة التي أسماها الإنكليز “كريتر” لوجودِها على فوهةِ بُركانٍ خامدٍ في عدن عاصمةِ اليمن الجنوبيّ آنذاك، وكريتر هو الاسم الذي يستخدمه الأهالي إلى الآن، حتى أولئك الذين ناضلوا ضد الاستعمار الإنجليزيّ، بعد ذلك يبني مستر حَمُود دارَ سينما حديثة يبدأها من كريتر، ومنها إلى أحياءٍ أخرى، ويقومُ رجالُ أعمالٍ آخرون ببناء دورًا مشابهة في صنعاء، وتعز، والحديدة، لتكون عدن، وكريتر تحديدًا، أوّل منطقة تعرف دورَ السينما في تاريخِ الجزيرةِ العربيّةِ!
بعدَ أكثر من مائةِ عام، وعلى طريقةِ القصصِ التي يُحبّها حكّاؤو هوليوود، جلس شابان يُناقشان أوضاعَ عدن بالغة السوء داخل سيّارةِ أحدهما، لتهبط عليهما فكرةٌ مجنونةٌ بأنْ يصوّروا فيلمًا سينمائيًا يدورُ في كريتر أيضًا عن عروسَيْن في آخرِ عشرةِ أيّام لهما قبلَ حفلةِ العُرسِ في أسوأ حقبة تعيشها البلادُ في تاريخِها الحديثِ، إنّها فكرة ليْست صعبة فقط بل خطيرة وقد تُفضي إلى موتٍ جماعيّ في ظلّ الأوضاعِ الأمنيّة الهشّة وحضورِ الجماعاتِ المتشدّدة، لكن شجاعة الشابيْن؛ المُخرج عَمْر جمال والمُنتج مُحسن الخليفي وطاقم العمل فاقتْ ما سواها، فكان فيلمُ “عشرةُ أيّام قبل الزفّة”؛ أوّل فيلم روائيّ يمنيّ يُعرَض جماهيريًا في تاريخِ الجمهوريّةِ اليمنيّةِ.
عشرةُ أيام وثلاثةُ عقود
كان كُلُّ شيء في حياةِ رشا (سالي حمادة) ومأمون (خالد حمدان) يسيرُ مُتعثرًا بصورة سيّئة لكنّها مألوفة، تلك الصعوبة التي اعتاد عليها اليمنيّون منذ سنوات وأجادوا التعايشَ معها وتذليلَها، فلم يتبقَ لعُرسِهما سوى عشرة أيّام يجب أن تمرّ بخير، لكن أنصاف عمّة مأمون (رويدا ربيح) تنتقل إلى بيتِ والدها بعدَ خلافٍ عائليّ وتحتل الطابقَ الذي خصصه الأوّل ليكون منزله وزوجته، حدثٌ بسيطٌ كهذا كان قطعة الدومينو الأولى في سلسلةِ العراقيلِ أمامَ العروسيْن اللذيْن تأجّلت زفّتهما في المرّةِ الأولى بسبب الحرب التي اندلعت في عدن بعد الاجتياحِ الحوثيّ عام 2015.
ويمرّ بنا المُخرج عَمْر جمال بفيلمِه في عشرةِ أيّام على لوحة فُسَيْفِساء تُشكّلُ صورةً دميمةً لما آلت إليه أحوالُ المدينةِ التي تخنقُها رائحةُ البالوعات المفتوحة، ويعطّلُ مفاصلَها الموتُ المتراكمُ لأكثر من ثلاثةِ عقود.
أجريتُ مع المُخرج عَمْر جمال حوارًا لأوّل مرّة في 2012 عندما كنتُ محرّرةَ الصفحة الثقافيّة في جريدةِ “الجمهوريّة”، بعدَ ثلاثِ سنوات من عرضِ مسرحيّته “معك نازِل” في صنعاء بنجاحِها مُنقطعِ النظيرِ بعدَ “عدْنَنة” نَصّها الألمانيّ، وقد كانت أوّل مسرحية يمنيّة تُعرض في أوروبا، ألمانيا تحديدًا، حيث وقف الحاضرون يُصفّقون لعشرِ دقائق إعجابًا بالعرضِ المُتكامل.
في الحوارِ أخبرني عَمْر جمال عن زملائِه في فرقتِه “خليج عدن” التي تأسّست في 2005، وعن طُرقِهم العجيبةِ في تخطّي التعقيداتِ الإداريّة، والمشاكلِ الماليّة، أذكر منها، مثلًا، موافقتَهم في بداياتِهم على كنسِ إحدى الحدائق العامّة ليمنحهم المديرُ مساحةً صغيرةً يعرضون عليها فقراتَهم التمثيليّة!
إنّ نجاحَ عَمْر جمال الكبير في المسرحِ والتلفزيون لم يُنسِه حلمَه الأكبر: الإخراج السينمائيّ، وهي الفكرة التي تأجّلت منذ سني السلام، لكن الجمود الذي دخلتْه عدن منذ “تحريرها” في يوليو/ تمّوز 2015 جعل طاقمَ عمل الفيلم يُفضّلون الموتَ في الشوارعِ وهم يعملون على الموتِ حزنًا وانتظارًا في بيوتهم كما قال جمال في إحدى المقابلات، وقد بذل صانعو الفيلم جُهدًا خارقًا في تحويلِ قاعتيْ أعراس مُدرّجة إلى صالتيْ سينما، وبناءِ شاشتيْ عرض، وطباعةِ التذاكر، وشراءِ أجهزة التشغيل، لأنّ دُور السينما في عدن لم تعد صالحة للاستخدام بسبب الفساد السياسي، والظروف الاقتصادية.
ليس هذا الفيلم اليمنيّ الأوّل بالتأكيد، فهناك أسماء لافتة منها المُخرجة سارة إسحاق بفيلمِها الوثائقيّ “ليس للكرامةِ جُدران” الذي وصل إلى نهائيات مهرجان الـ “أوسكار” 2014 في فئة أفضل فيلم وثائقيّ قصير ولكنّ فيلمًا عن عازفةِ بيانو ناجية من الهولوكوست التقط الجائزةَ، كما نال المُخرج بدر بن حرسي جائزة أفضل فيلم عربي من مهرجان القاهرة السينمائي الدوليّ في 2005 عن فيلمِه “يوم جديد في صنعاء القديمة”، بالإضافة إلى أفلامِ المُخرجة خديجة السلامي الذي كان آخرُها “أنا نجوم ابنة العاشرة ومُطلّقة”، و فيلمَي “واجب وطني” و”مُلغّم” ليوسف الصباحي حيث فاز الأول بجائزةِ أفضل فيلم طلابيّ في مهرجان نيفادا السينمائيّ الدوليّ وعُرض الثاني في مهرجان كرامة لأفلام حقوق الإنسان. وغيرها من الأفلام التي عُرضت إمّا في التلفزيون، و/ أو المهرجاناتِ الدوليةِ و/ أو الفعالياتِ الخاصّةِ التي تقُيمها المراكزُ الثقافية، والمنظماتُ، والجامعاتُ وغيرها.
“عشرةُ أيّام قبل الزفّة” هو أوّل فيلم روائيّ أتاح للمواطنِ اليمنيّ العادي وعائلتِه في 2018 شراءَ التذاكرِ، وبعضَ المرطًبات والفشار أو “الساكت” بلهجةِ بعض مناطق اليمن، لمشاهدة فيلم محليّ كما يفعلُ أيّ شعبٍ “طبيعيّ” في العالم.
واقعٌ غير واقعيّ
رغم أنّ كاميرا الفيلم تسكّعت في أزقّةِ المدينةِ كما تُريد، إلا أنّها لم تلتقط الشعارات السياسيّة كما أراد لها أصحابُها، حتى علم اليمن الجنوبيّ الذي نعرفُ، كيمنيين، أنّه مطبوعٌ على كُلّ حائط في مُطالبة واضحة ومُصرّة على الانفصال عن اليمن الشماليّ لم يظهر سوى متواريًا بشكل أو بآخر. فالكاميرا، إذن، لم تكن على طبيعتِها كما توحي “واقعيّة” العمل. لقد نجا الفيلمُ بهذا التكنيك الذكيّ من أنْ يمنعَ عرضَه أحدُ أطراف النّزاع، لكنّه ظفر في نفسِ الوقتِ بفرصةِ توجيه الاتّهام للجميع بشكل متساوٍ.
العبارةُ السياسيّةُ الوحيدةُ التي ظهرت بوضوحٍ كانت “إرحل يا علي” وهي من الزمن الذي أصاب اليمنيين بالأمل حينَ ظنّوا، وبعض الظنّ إثم، أنّ في مقدورِهم الخلاصَ من دولةِ الفسادِ والقبحِ، دولةِ الرئيس الراحل علي عبد الله صالح التي لوّثت علاقة اليمنيْن الشماليّ والجنوبيّ إلى الأبد، كانت العبارة مكتوبة على البنايةِ التي يقولُ مالكُها للعروسيْن ومن معهما بوجه مبتسم بأنّهما سيعتادان على رائحةِ المجاري ومنظرِها كما لو كانا في بُندقيّة إيطاليا. ولم أستطع منعَ نفسي هنا من الربطِ بين المجاري التي تعوّد عليها السُكّان حتى رأوها البندقيةَ “بُكلّها” وزمن علي عبد الله صالح. يا لها من رمزيّة!
ينجو “عشرةُ أيّام قبل الزفّة” بمهارةٍ واضحةٍ من أغلبِ النقائص التي تميّز بها معظمُ الإنتاج الفنيّ اليمنيّ؛ في التمثيلِ والإخراجِ والتصوير بشكل رئيسيّ، في الفيلمِ أكثر من مشهدٍ قُدّم بلغةٍ سينمائيّةٍ جيّدة جدًا، يُذكر هنا، مثلًا، مشهدُ ذهابِ الوالد شكري (قاسم عُمر) وابنه خالد (هشام الحمّادي) إلى سليم (محمد ناجي بريك) ليبيعا رشا مُقابل البيت و”حق التخزينة” أي ثمن القات في ليلة مطيرة دون ستارٍ يمنعُ عنهما البللَ المُمرضَ، كانا مَكشوفيْن للأذى، و”كشف الحال” باللهجة اليمنيّة يعني الفضيحة بعد الستر، لم تكن زيجة بل “مِفْتالة” أي قِوادة كما وصفها وليد (بكّار باشراحيل)، وما للقوّادِ، في العرفِ المحليّ على الأقل، سوى الأذى!
في الفيلمِ بعض المشاكل التي تركّزت في السيناريو، خاصة في النصفِ الثاني من الفيلم، حيث اتّسمت الثلاثةُ الأيامُ الأخيرةُ بـ”الكَرْوَتة” مع خفّة ملحوظة في التناول، وكان مشهدُ الاجتماعِ في البيت المُهدّم وكأنّه ترضية مُسْتسهلة للجمهورِ المُتلهّف، أغنية “أم المساكين” كانت مُباشرة ومُحقونة بالاستجداء والتوسّل، لكنّها مُناسبة لأجواءِ الفيلم، وقد غطّى صوتُ المغنّي سالم فدعق الجميل على كل عيوبها المُحتملة، وهو أيضًا واضع الموسيقى التصويريّة. وإن تسنّى أن نطلبَ المزيدَ من عناصرِ الفيلمِ لما كان إلّا أغاني الموسيقار أحمد قاسم؛ أكثر مفاجآته بهجةً.
الظريف أنّ في الفيلم كلمة “بذيئة” مرّت دون أن تلقى اعتراضًا من الجمهور اليمنيّ المُحافظ، رُبّما لأنّ قائلَها خفيفُ الظل مُشتاق (قاسم رشاد)، كما أنّ الترجمة تقول في بعض الأحيان ألفاظًا غير مُتطابقة لمعنى الشتائم المحليّة “المُهذّبة”.
كان الأداءُ التمثيلي للجميع على قدرٍ كبيرٍ من الإبهار، كُل ممثل وممثلة في الموقع الصحيح تمامًا بغضّ النّظر عن حجمِ الدورِ وترتيبه.
مسّ الفيلمُ صعوباتِ المعيشةِ في عدن مسًا خفيفًا دون أيّ تفاصيل. لدينا، على سبيلِ المثال، البطالة، ونُدرة الشقق الصالحة للسكن، وارتفاع الأسعار، واستيلاء المُتنفّذين على ممتلكاتِ المُغتربين، وانتشار السلاح في مدينة لم يكن أبناؤها حتى وقتٍ قريبٍ يملكون رصاصةً واحدةً، والبيوت المُدمّرة بفعل القذائفِ ولم يُصلحها أحدٌ رغم الوعود، والنازحون الذين ضاقت عليهم أنفسهم، وإضراب عمال النظافة والقمامة التي غطّت الشوارع.
إنّ الأيام العشرة المُنتزعة من واقع عدن اليوم قد أوحت للمشاهدين بواقعيّة خاتمة الفيلم أيضًا، وهذا ليس صحيحًا، فقد كانت أكثر النهايات “افتراضًا” من بين أفلامِ الحروبِ التي شاهدتُها مؤخرًا، وهي تتشابه مع رومانسيّة الأبيض والأسود في السينما المصرية التي تأثر بها عَمْر جمال أشد التأثر، والمقصود هنا اجتماع الحبيبيْن في النهاية رغم كل شيء، إنّ هذا لا يحدث في اليمن اليوم، فكل يمنيّ يعرفُ ،على الأقل، ثلاث زيجات فصمتْها الحربُ قبل أن تتم، ويعرف أصحابَ الوعودِ الذين تجمّدوا تحت أيامينهم المُغلّظة، ولذلك ضجّت القاعات بالتصفيق والزغاريد في مشهدِ العُرسِ النهائيّ، فالفيلم يزفّ إشارة ما للانفراجِ العظيمِ الذي لم ينتظر اليمنيّون، وسكان عدن بالذات، مثله منذ عقود طويلة، وربمّا أي نهاية “واقعية” أخرى لخصمت من رصيد الفيلم الكثير.
إنّ “عشرةُ أيّام قبل الزفّة” فيلم أوّل بامتياز، بكل ما للأعمالِ الأولى من إيجابيّات، ومشاكل، وتوقعات، بالإضافة إلى السلبيّات الناجمة عن ضعفِ الميزانيةِ التي لم تبلغْ الثلاثين ألف دولار.
في الفيلم دزينة من التحيّاتِ والصلواتِ الطيّباتِ وزّعها على المدينةِ/ الرمزِ ما قبل اقتتال 1986، على عدن الـ”كوزموبوليتانيّة” التي كان يتواجد في منطقةٍ صغيرةٍ منها، كريتر على سبيلِ المثال، عربٌ وآسيويون ويهود ومسيحيون، وأوروبيون وشيعة ومجوس وأفارقة، ومتديّنون وقوميّون، ونجومُ غناء ومسرح وتلفزيون، ورجالُ دين ورجالُ “كُفر”، واشتراكيّون وهاشميّون، وسلاطينٌ وعبيدٌ وقبائل، وشمالُ اليمنِ وجنوبُه ووسطُه، وجواسيسٌ ومناضلون، و”شحّاذون ونبلاء”، ومثليّون مُجاهرون بدون التخفي في أيّ “خزانة”!
في الفيلمِ تحيّة كبيرة أيضًا للمرأةِ العدنيةِ/ اليمنيةِ، التي يقع على عاتقِها في يمن اليوم إنقاذُ الأسرةِ وتأمينُ احتياجاتها الاقتصاديّة بعدَ الحربِ التي لا يبدو لنهايتِها أفق.
كانت هناك محاولاتٌ كثيرةٌ لعرضِ الفيلمِ في مدنٍ يمنيّة أخرى لكن القوى الدينيّة المتشدّدة التي تسيطر على تعز منعت العرضَ، ومزّقت المُلصقاتِ الدعائيّة رغم التذاكر المُباعة، كما ألغت المواجهاتُ العسكريّة في شَبْوة عرضَ الفيلم، أمّا في صنعاء فلا يُمكن الاقترابُ من هكذا فكرة في ظلّ سطوة الحوثيين المُتْلِفة لأشكالِ الحياة كافّة.
عُرِض “عشرةُ أيّام قبل الزفّة” في أمريكا، وكندا، والهند، ومصر، وروسيا، والإمارات، وكوريا الجنوبية، والسعودية، ولبنان، وعُرض في جامعة هارفارد، ومبنى الأمم المتحدة في نيويورك، وجامعة جورج تاون، وجامعة فيرجينا وغيرها.
وشارك الفيلمُ في المهرجان العربي في كالغاري، ومهرجان قازان الدوليّ للسينما الإسلاميّة، ومهرجان بونا السينمائي الدوليّ وغيرهم، ومثّل الفيلمُ اليمنَ في ترشيحات أفضل فيلم دوليّ (أجنبي سابقًا) في مسابقة الـ”أوسكار” لكنّه لم يصل إلى القائمةِ القصيرة.
كما حاز الفيلمُ على جائزةِ لجنةِ التحكيمِ الخاصّةِ عن فئةِ الأفلامِ الطويلةِ في مهرجان أسوان الدوليّ لأفلامِ المرأةِ في دورتِه الثالثةِ، ونال جائزةَ أفضل سيناريو في مهرجان الدار البيضاء للفيلم العربي في دورتِه الثانيّة، وحصلت المُمثلة سالي حمادة على شهادةٍ خاصّةٍ من لجنةِ التحكيم، وفاز العملُ أيضًا بجائزةِ الجمهورِ في مهرجانِ الفيلمِ العربيّ بعمّان متفوقًا على تسعةِ أعمال عربيّة أخرى، وفاز بجائزةِ الجمهورِ في مهرجان سان دييغو للفيلم العربي في 2019.
وقد كرّم مهرجان جايبور السينمائيّ الدوليّ في افتتاحه عام 2019 المخرجَ عَمْر جمال، كما منح الفيلم جائزتَيْ أفضل تصميم ملابس، وأفضل ماكياج وتصفيف شعر، وإن كنتُ أتساءل عن الجائزة الأخيرة؛ فلم تستدعِ طبيعة الفيلم أيّ ماكياج أو تصفيف خارج عن المألوف، كما أنّنا لم نرَ شعرَ أي ممثلة باستثناء سالي حمادة والممثلة القديرة إنصاف علوي في دور العمة تقيّة التي تُصرّ على أنّ حوشها “حوش مُحترم”!.
هديّة عدن فيلم يوحد اليمنيين
لقد دارت نقاشاتٌ كثيرةٌ ومحتدّةٌ حولَ الفيلمِ بين اليمنيين، وهو أمر صحيّ وإيجابيّ للغاية، وهناك من انتقد الفيلمَ بأنّه لم يرقَ إلى مستوى “العالمية”، وهذه فكرة أجدُها على قدرٍ من المحدوديّة، وربما قليلًا من عطوب المنطق، فلا يُمكن محاكمة فيلم ما بشيء لم يدّعيه أصلًا، لم يصف أيّ من طاقم عمل الفيلم بأنه “عالميّ”، أو أنّه جاء بمعاييرٍ “عالميّة”، أو ليُنافس “عالميّة” غيره، بل قد قال عَمْر جمال في مقابلته مع قناة “بلقيس” بأنّ فيلمَه “لايت ولطيف ويبعث على الأمل”، ثم إنّ مفهوم “العالميّة” نفسه مفهوم غير دقيق، وغير مُحدّد، وما زال محلّ جدلٍ حتى الآن، فما هي “العالميّة” المقصودة هُنا: أمريكا؟ الصين؟ الهند؟ ألسنا، كشرق أوسط، “عالميين” بالنسبة لمناطق جغرافية أخرى؟
من المبكّرِ أيضًا الحديث عن بداية لصناعة سينمائيّة يمنيّة، لا شيء يدل على أنّ تجربة “عشرةُ أيّام قبل الزفّة” يُمكن أن تُكرّر قريبًا في مناطق أخرى كصنعاء أو تعز، وغالبًا سيكون الفيلم اليمني الروائيّ الجماهيري التالي من إخراج عَمْر جمال أيضًا.
يقول هيتشكوك أنّ الفيلمَ الجيدَ هو ما يُمكن فهمُه حتى بدون أن تسمعَ الحوارَ، وهذا لا ينطبق على فيلمِنا هذا، ويقولُ في موضعٍ آخر أنّ الدراما ما هي إلا الحياة بعد إزالة الأحداث المُملّة، و”عشرةُ أيّام قبل الزفّة” قد يصح هنا مثالًا جيدًا، فأيّ العبارتين يجبُ الاحتكامُ لهما؟ لا أحد يمتلكُ الإجابةَ النهائيةَ، لكن ما يُمكن قولُه بثقةٍ مُكتملةٍ هو أنّ الفيلمَ قد خرج في لحظة سحريّة مُتخطيًا ظروفه، وأنّ الأهاليّ قد رحّبوا بطاقم العمل واقتسموا معهم زادهم القليل، ومساحاتهم الضيّقة بكرمٍ بالغ، وأنّهم حضروا بصورة فاقت أكثر التوقعات تفاؤلًا من كل زاوية في عدن لمشاهدته تحت ظروف أمنيّة واقتصاديّة واجتماعيّة كسرت ظهر الجميع في “أم المساكين” التي لم تعد كذلك، وأنّ أوّل فيلم يمنيّ جماهيريّ تم تصويره على نفس الأرض التي شهدت أوّل عرض سينمائي في الجزيرة العربية، وأنّ هدية عدن لباقي الوطن كان، يا للمفارقة، فيلمًا “وحّد” اليمنيين!
لقد حاز “عشرةُ أيّام قبل الزفّة” على تقديرِ الآلاف، وأزاح الجدارَ العازلَ في المشهدِ الثقافيّ اليمنيّ قدر ما أزاح، وفعل ما عجز سياسيو اليمن عن فِعلِه رغم نفوذهم، والدول التي تدعمهم، وترسانتهم، ومالهم الحرام، وهذا، في هذه اللحظةِ السياسيّةِ اليمنيّةِ الفارقةِ، كافٍ للغاية!