عدنان مدانات يكتب عن: ربيع السينما العربية المتحول
ربيع أول:
في العام 1968 أسس مجموعة من السينمائيين الشبان في مصر جماعة سينمائية أطلقوا عليها اسم ” جماعة السينما الجديدة ” وأصدروا بيانا سينمائيا نظريا دعوا فيه إلى تطوير سينما مصرية تعبر بصدق عن قضايا الواقع المصري وهموم الناس وتتمتع بمستوى فني وتقني متطور. بعد عامين من تأسيسها نجحت الجماعة في إنتاج فيلمين روائيين طويلين اعتمادا على دعم من القطاع العام السينمائي في مصر. بعد ذلك توقفت الجماعة عن الانتاج وكان من أسباب ذلك صعوبة الحصول على الدعم المالي بعد إلغاء القطاع العام السينمائي في مصر.
وهكذا خلت الساحة لمنتجي القطاع الخاص التجاري، فكان لا بد لمخرجي جماعة السينما الجديدة من المصالحة معهم، كي يتمكنوا من العمل وتحقيق الأفلام، بعد أن كانوا أعلنوا الحرب السينمائية ضدهم. بهذا انتهى العمل الجماعي الهادف إلى إيجاد حلول جماعية من أجل تطوير السينما المصرية ككل وحل محله جهد فردي.
نتج عن هذه المصالحة خلال العقود التالية بعض الأفلام المصرية المميزة التي تنسجم مع اهداف الجماعة، ولكنها لا تحقق حلم تطوير السينما المصرية، في حين أخذت صناعة السينما المصرية في التردي وتقلص حجم الانتاج السنوي من الأفلام الروائية الطويلة بنسبة كبيرة، وتصدرت شاشات العرض السينمائية موجة الأفلام التجارية التى يصفها النقاد بأنها أفلام هابطة.
ربيع ثاني:
في العام 1972 انعقد في مدينة دمشق المهرجان الأول لسينما الشباب العرب تحت شعار “السينما البديلة”. حضر المهرجان سينمائيون شباب من مختلف الأقطار العربية. عقد المهرجان برعاية المؤسسة العامة للسينما بدمشق التابعة للقطاع العام من خلال وزارة الثقافة. وكانت تلك الفترة تتسم بوجود أكثر من قطاع سينمائي عام واعد ترعاه وزارات الثقافة في عدة دول عربية، في المشرق والمغرب. كان السينمائيون الشباب آنذاك مشبعين بالأحلام والآمال والطموحات ومفعمين بالعواطف، لكن القطاع السينمائي العام في العالم العربي ككل سرعان ما خيب الآمال وأجهض الطموحات الخاصة بالسينما العربية كما يحلم بها السينمائيون الشباب.
ربيع ثالث:
في العام 1972 ذاته، ونتيجة لأجواء الحماس التي سادت أثناء مهرجان دمشق الأول لسينما الشباب، وبالتزامن مع الحماس الذي أشعلته المقاومة الفلسطينية في نفوس السينمائيين العرب، تنادى مجموعة منهم، ممن شاركوا في مهرجان دمشق، لدعم سينما المقاومة الفلسطينية، التي كانت آنذاك لا تزال بعد تخطو خطواتها الأولى. وهكذا جرت عدة لقاءات بينهم اسفرت عن تأسيس “جماعة السينما الفلسطينية” والتي اتخذت من بيروت مقرا لها وتلقت الدعم من أهم المؤسسات الثقافية آنذاك والتابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية. بعد فترة وجيزة من تأسيسها تمكنت الجماعة من إنتاج فيلم تسجيلي قصير. وكان هذا الفيلم نهاية المطاف في مسيرة الجماعة ولم يعد لها وجود بعد ذلك.
خلال فترة السبعينات أنشأت بعض فصائل المقاومة الفلسطينية أقساما للسينما أنتجت بضعة أفلام تسجيلية. ولكنها عجزت عن تحقيق حلم السينمائيين بإنتاج فيلم روائي طويل. وكان يسود شعور عن السينمائيين العاملين والمتعاونين مع دائرة الثقافة في منظمة التحرير وبقية أقسام السينما التابعة لفصائل المقاومة أن ثمة حاجة ملحة لوجود مؤسسة سينمائية فلسطينية قوية تضم الجميع وتكون قادرة على خلق سينما فلسطينية والانتقال من الفيلم التسجيلي إلى الفيلم الروائي، الذي هو الحلم الأكبر بالنسبة لكل سينمائي.
العام 1982 تمكن أحد أقسام السينما الفلسطينية من إنتاج فيلم روائي طويل، وكان يمكن لهذا الفيلم ان يمهد لانتاج أفلام روائية فلسطينية أخرى، لولا ان العام نفسه كان عام خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان نتيجة للاجتياح الاسرائيلي. وهكذا تشرذم السينمائيون الذين تعاملوا معها في أرجاء المعمورة، مما أعاد الأمور إلى نقطة الصفر.
ربيع رابع:
في أواسط سبعينات القرن العشرين التقى مجموعة من السينمائيين العرب في مهرجان سينمائي عقد في دولة اوروبية. كان اللقاء مناسبة لاحياء حلم مشترك بتشكيل اتحاد للسينمائيين العرب طالما سعوا إليه وتداولوا بشأنه في كل تجمع سينمائي تواجدوا فيه. وهكذا عقد السينمائيون العرب اجتماعا تحضيريا ابتدأوه بالتعريف بأنفسهم: قال واحد انه لبناني يقيم في السويد، قال ثان انه عراقي يقيم في لبنان، قال ثالث أنه مصري يقيم في العراق، قال رابع أنه أردني يقيم في لبنان، قال خامس أنه سوري يقيم في مصر، قال سادس أنه جزائري يقيم في فرنسا، قال سابع أنه عراقي يقيم في سوريا، وهكذا دواليك. كان معظمهم يعيش خارج بلده.
لقطة من فيلم “الفهد” لنبيل المالح
أسفر هذا الاجتماع بعد نحو عام عن تأسيس اتحاد للسينمائيين العرب العاملين في مجال السينما التسجيلية بعد اجتماع ثان موسع عقد في بغداد، وكان ذلك في العام 1976. بعد عامين من تأسيسه تمكن الاتحاد من دعم انتاج ثلاثة مشاريع لأفلام تسجيلية، أحدهما انتجه اتحاد السينمائيين التسجيليين المصري، والثاني أنتجته مؤسسة السينما الفلسطينية في بيروت، والثالث أنتجه سينمائي سوري مستقل. بعد ذلك لم يستمر الاتحاد في النشاط، ولم يكن ذلك نتيجة تقصير من السينمائيين العرب الدين أخلصوا له، بل كان ذلك نتيجة لظروف قاهرة.
ربيع خامس:
نتيجة فشل كل الحلول التي اقترحها السينمائيون الشباب عبر تجمعاتهم ونتيجة كل الاحباطات التي رافقت محاولات العمل الجماعي الهادف لتطوير السينما العربية والتي أدت إلى حالة من اليقين بأن القطاع العام السينمائي في الدول العربية ليس في حالة تجعل من الممكن الاعتماد عليه للنهوض بصناعة السينما في العالم العربي وتوفير قاعدة راسخة للانتاج السينمائي تسمح للسينمائيين بتحقيق طموحاتهم، بدأ بعض السينمائيين العرب الشباب البحث عن حلول فردية تسمح لهم بتحقيق أفلامهم الخاصة.
من بين تلك الحلول كانت صيغة الانتاج المشترك الذي يعتمد على التمويل الأوروبي. وقد حققت معظم الأفلام التي انتجت على قاعدة الانتاج المشترك أو التمويل الأوروبي مستوى متطورا فنيا وفكريا، لكن بالمقابل، فإن السينمائيين الذين أخرجوا تلك الأفلام تعرضوا لحملات من التشكيك والاتهامات من أطراف متعددة. غير أن المشكلة الفعلية التي جابهت خطوات السينمائيين العرب نحو الانتاج المشترك لم تكن في حملات التشكيك والاتهامات التي تصدوا لدحضها، بل كانت تكمن في أن هذا الطريق شاق وطويل ومليء بالعوائق، وهو ليس متاحا للجميع ، كما انه ليس متاحا بما يكفي لاشباع طموحات السينمائيين العرب بإنتاج متواصل للأفلام التي يطمحون لتحقيقها ، حيث ينتظر معظمهم سنوات طوال فرصة لتحقيق مشروع فيلم واحد، يبذلون خلالها جهودا مضنية للحصول على التمويل، أو الدعم المالي، الذي يكون في أحيان كثيرة شحيحا ، بالكاد يسد جزءا يسيرا من الأموال اللازمة لانتاج الفيلم، مما يضطرهم للبحث عن مصادر دعم وتمويل متعددة ومتنوعة لكل منها شروطها الخاصة.
هكذا بدأ السينمائيون يعيدون النظر في جدوى توجههم الفردي نحو الخارج والتمويل الأجنبي على المدى البعيد، وعادوا من جديد للبحث عن حلول من الداخل، أي من داخل بلدانهم، تستند إلى قاعدة يمكن الاعتماد عليها، وتكون قادرة على إيجاد حلول جماعية لمستقبل السينما العربية.
هنا يحضرني مثال دال: ففي اواسط تسعينات القرن العشرين وأثناء أحد المهرجانات السينمائية التقى سينمائي فلسطيني شاب من الأرض المحتلة جاء مع فيلمه الروائي الطويل الأول الذي تمكن من انتاجه بدعم أوروبي مع سينمائي فلسطيني عتيق كان من العاملين في مؤسسة السينما الفلسطينية في بيروت في السبعينات وواحد من مؤسسي “جماعة السينما الفلسطينية”.
قال السينمائي القادم من الأرض المحتلة حاملا معه فيلمه الطويل للسينمائي الآخر القادم إلى المهرجان كضيف خالي الوفاض ساخرا: لقد أضعت انت وزملاءك عمركم وأنتم تحاولون إنجاز فيلم طويل من خلال مؤسسة رسمية ففشلتم، أما أنا فقد نجحت بجهودي الخاصة في تحقيق فيلمي الروائي الطويل الأول. رد الآخر عليه بالقول: نعم هذا صحيح، لكننا كنا نحاول التأسيس لقاعدة مؤسسية راسخة تسمح لنا ولمن بعدنا بالعمل، ولم نبحث عن حلول فردية. كانت السينما الفلسطينية هي القضية بالنسبة لنا وليس الفيلم الواحد.
بعد عشر سنوات تقريبا من هذا اللقاء حصل بين الاثنين لقاء آخر، وفي هذا اللقاء اعترف السينمائي الذي انجز بعد فيلمه الروائي الطويل الأول فيلمين روائيين طويلين آخرين، أنه على الرغم من إنجازه الفردي الذي حقق له سمعة طيبة، فإنه بات مقتنعا بضرورة العودة إلى البحث عن حلول مؤسسية من داخل الوطن لمستقبل السينما الفلسطينية ككل. ومن المفيد هنا ملاحظة أنه بعد أربع سنوات من هذا اللقاء الثاني تم في الأرض المحتلة الاعلان عن إعادة تأسيس جماعة السينما الفلسطينية.
ربيع جديد محتمل:
على الرغم من الاحباط الذي اصاب السينمائيين العرب من مؤسسات القطاع العام السينمائي إلا ان هذا الاحباط لم يصل إلى مرحلة اليأس المطلق، خاصة وأن تجربة بعض البلدان العربية في مجال دعم الانتاج السينمائي المحلي بينت أنه لا يزال ممن الممكن أن يلعب القطاع العام السينمائي دورا رئيسيا في قيادة مسيرة الانتاج السينمائي الوطني، كما هو الأمر بالنسبة لمؤسسة السينما السورية التي بدأت تستعيد عافيتها بعد تعثر طويل، او دورا داعما للإنتاج السينمائي الوطنى، وهذا ما يفعله المركز الوطني للسينما في المغرب او وزارة الثقافة في تونس، اللذان عادا للعب دور تخليا عنه لسنوات سابقة.
لكن، انطلاقا من الحديث الذي يقول بان المؤمن لا يقع في الجحر مرتين، فإن السينمائيين العرب الذين عادوا ليطالبوا القطاع العام بلعب دوره في دعم السينما الوطنية، لا يستطيعون الركون إلى ذلك كليا، حتى ولو أحسن مسؤولو القطاع العام النية، فليس من السهل أن يحل يقين جديد محل شكوك قديمة كان لها ما يبررها. ولهذا بات من الضروري البحث عن حلول جماعية موازية على شكل تجمعات وتعاونيات انتاجية الطابع تضم السينمائيين معا. وما يشجع على إعادة إحياء فكرة التجمعات هو انها هذه المرة لا تقوم على مبادئ أيديولوجية مثالية، بل استجابة لمصالح عملية وتحقيقا لأهداف إنتاجية، صار بالامكان تحقيقها بيسر أكثر بفضل تقنيات الفيديو الرقمي، وهي البديل المعاصر والمستقبلي لتقنيات صناعة الفيلم التقليدية والتي تعيد صياغة مفهوم “صناعة السينما” لتجعله ينسجم مع التغيرات والتطورات التقنية المتواصلة.