عاطف الطيّب.. الباحث عن القيم في السينما المصرية
عاطف الطيّب هو أحد رُوّاد السينما الواقعيّة في ثمانينات القرن العشرين، وقد أعاد من خلال أفلامه قراءة الشخصيّة المصريّة كَمَوْجةٍ سينمائيّة مُضادة لسينما استهلاكيّة صاحبت عصر الانفتاح.
وتبدو براعته في اكتشافه الواقع الذي يتقاطع مع هموم المُواطن المصريّ، وقدّم لأجل ذلك 21 فيلمًا في 15 عام، وأُدْرِجت ثلاثة منها ضمن أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما المصريّة.
وُلِد عاطف الطيّب في 26 ديسمبر عام 1947م، وعندما التحق بقسم الإخراج بالمعهد العالي للسينما عام 1970م عَمِل مُساعدًا للإخراج في فيلمي “ثلاث وجوه للحبّ” و “دعوة للحياة” مع مدحت بكير، كما عَمِل مّساعدًا للمُونتاج مع كمال أبو العلا، وبدأ حياته الفنيّة مُخرجًا للأفلام التسجيليّة عام 1972م، ثمّ مُساعدًا للمُخرج شادي عبد السلام في فيلم “جيوش الشمس”، ومع المُخرج محمد شبل في فيلم “أنياب”، ومع المُخرج محمد بسيوني في فيلم “ابتسامة واحدة لا تكفي”.
وبعد تخرّجه في معهد السينما عَمِل مُساعدًا للمُخرج يوسف شاهين في فيلم “إسكندرية ليه”، كما عَمِل مع العديد من المُخرجين الأجانب مثل لويس جيلبرت (فيلم الجاسوس الذي أحبّني)، وجون جيلرمن (فيلم جريمة على النيل)، ومايكل بنويل (فيلم الصحوة)، وفرانكلين شافنر (فيلم أبو الهول)، وفيليب ليلوك (فيلم توت عنخ آمون).
ارتبط اسم عاطف الطيّب ارتباطًا وثيقًا بقضايا المُواطن البسيط وبحقوقه الطبيعيّة، وأثارت أعماله جدلًا واسعًا لما تطرّقت إليه من قضايا تتعلّق بالحريّات العامة والخاصة على السواء، وقضايا الحرب ضدّ الاستعمار بكافة أشكاله، إلى جانب القضايا التي تخصّ علاقة المُواطن بالسُّلطة، ومن أبرزها “التخشيبة” و “الزمار” عام 1984 والذي تمّ عرضه في عُروضٍ خاصة رغم اشتراكه في مهرجان موسكو 1985م ومهرجاني برلين والقاهرة، وعلى إثر تلك الأفلام وغيرها لقّبه البعض بمُخرج “الغلابة والمُهمّشين”.
وبعد إصابته بأزمة في القلب ثُمّ مرض السُكّر، رفض الطيّب السفر إلى ألمانيا للعلاج على نفقة الدولة؛ مُشدّدًا على أنّ “الغلابة” الذين دافع عنهم في أفلامه (أولى منه)، ليُغادر دُنيانا إلى مثواه الأخير في 23 يونيو عام 1995م تاركًا خلفه آخر أفلامه “جبر الخواطر” والذي لم يتمكّن من إنجازه.
طرح عاطف الطيّب العديد من المشاكل الاجتماعية، كمُشكلة عدم قُدرة الشباب على الزواج وقلّة الدخل وعدم العثور على العمل المُناسب أو السكن، فنجد فيلم “الحُبّ فوق هضبة الهرم ـ 1986م” والذي تدور قصته حول شاب وفتاة يتزوّجان سِرًّا نظرًا لعدم القُدرة على تكاليف الزواج الباهظة، وحين حاولا مُمارسة حياتهما الزوجية لم يجدا أفضل من جدران الأهرامات ساترًا لهما ليقعا في قبضة شرطة الآداب. وقد تتفاقم الأمور ليتمّ الضغط على الفتاة للزواج من أول ثري يطرق باب أبيها، وهو ما حدث مع أمينة (ليلى علوي) في فيلم “إنذار بالطاعة ـ 1993م” ما اضطرّ زوجها المُحامي إبراهيم (محمود حيدة) لرفع قضية طاعة ضدّ زوجته، ومع خوفها من عادات المجتمع وصورة الأسرة أنكرت أمينة ليخسر إبراهيم القضية، والذي أصرّ على استرجاع زوجته، وتتوالى الأحداث لتعترف أمينة أنها زوجة إبراهيم ليعيد الأب الأمور إلى مجراها الطبيعي ويُتمّم الزيجة.
ومن جانب آخر، عرض لنا فيلم “ليلة ساخنة ـ 1995” والذي استعرض فيه جانبًا من مُعاناة المُواطن البسيط خلال سعيه لكسب رزقه بالحلال في شخص سائق التاكسي سيد (نور الشريف)، وشهامته مع حورية (لبلبة) العاهرة التائبة والتي تسعى لدبير مبلغ لتنكيس المنزل الذي تعيش فيه، ومع تطوّر الأحداث في مشوار الكفاح المعيشي يلتقيان بجماعة مُتطرّفة وحقيبة نقود وجريمة قتل شهد عليها سائق التاكسي، ليضعنا المُخرج في صراع مع السؤال القيمي: هل يجوز احتفاظ سيد ـ رغم ظروفه البائسة والتهمة التي قد تُلصق به ـ الاحتفاظ بحقيبة النقود والتي كانت بحوزة القتيل من أفراد العصابة!
كذلك، فقد أدمى قلوبنا من خلال العديد من المشاكل والهُموم الأسريّة، فتراه يُناقش قضية انحراف الأبناء بجوانبها المُتباينة، فتارة يُسلّط الضوء على دور الفقر في ذلك المرض الذي يُهدّد الكيان الاجتماعيّ ويدفع بالمُجتمع نحو حافة الانهيار، في ظلّ غياب الوعي الأسريّ، وذلك في فيلم “البدرون ـ 1987″، والذي يُعتبر مُجرّد مُحاولة للاقتراب من الواقع المُعاش لاستجلائه وفهمه وتحليله والخروج منه بِنتائج تُسهم في إكمال وعي المُواطن المصريّ البسيط.. والفيلم في شكله ـ بحسب مُخرجه ـ ميلودراميًّا، ويُمكن اعتبار الشكل مُجرّد وسيلة مُوظّفة سينمائيًّا لتوصيل المفهوم وإبراز التناقض الطبقيّ في مُجتمع الانفتاح الاقتصاديّ وما بعده وما أفرزه من سلبيّات سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة وأخلاقيّة.
وتارة أخرى يؤكد الطيّب على أنّ من أسباب الانحراف غياب الدور التوعويّ الأبويّ وذلك في فيلم “دماء على الأسفلت ـ 1992″، حيث تمّ اتهام الأب أبو النور (حسن حسني) المسئول عن الأرشيف في وزارة العدل بسرقة ملفّ قضية هامة تشغل الرأي العام، ليكتشف ابنه الأكبر الدكتور سناء (نور الشريف) فور عودته ـ من عمله خارج مصر ـ لمُساندة أبيه حدوث شروخ خطيرة في الأسرة: فشقيقته ولاء (حنان شوقي) تُمارس أعمالًا تتنافى والآداب العامة، وشقيقه الأصغر علاء (طارق فهمي) يسقط في هاوية الإدمان والإتجار في المُخدّرات، لتُصبح رحلة سناء غوصًا في أعماق المُجتمع، واستكشافًا للفساد المُستشري والذي طال شقيقته.
ولم يُهمل الطيّب القضايا الاجتماعيّة الأخرى من قبيل جشع الأهل والتفكّك الأسري وخيانة الزوجة كنتيجة لجشع الزوج وظروفه البائسة وما نتج عن جميع ذلك من كوارث طالت الأبناء.. فعن جشع الأهل والأقربون في مُقابل شهامة ونخوة الغُرباء قدّم لنا فيلم “الدنيا على جناح يمامة ـ 1989” ليُقدّم لنا سائق التاكسي رضا (محمود عبد العزيز) دروسًا في البساطة والتلقائيّة والصدق والأمانة، في مُقابل جشع أهل الأرملة الثريّة إيمان (ميرفت أمين) وطمعهم في ثروتها التي تُقدّر بالملايين والتي ورثتها عن زوجها، وحين قرّر خال إيمان فؤاد بيه (عبد الله فرغلي) وابنته فوزية (إنعام سالوسة) التخلّص من إيمان بقتلها، يستيقظ ضمير زوج فوزية ليفضح الأمر.
وعن التفكُّك الأسري والتنصّل من المسئولية ونُكران الجميل، يقدّم لنا الطيّب فيلم “سواق الأتوبيس ـ 1982” الذي يُصوّر الحالة الاجتماعية لمُجتمع ما بعد حرب أكتوبر 1973م من تغيير طرأ على الشخصيّة المصريّة، وحالة الأصدقاء الذين دخلوا في حالة انعزال بعد عودتهم من ميدان القتال بعد أن انتصروا ولم يجنوا ثمار انتصارهم في ميدان الحياة العملية، ووجدوا غيرهم قد حصد باسمهم. ويقول حسن الحداد عن الفيلم في مقال له بمجلة “هنا البحرين”: إنّ سرّ نجاح فيلم “سواق الأتوبيس” أنّه يُحدّثنا عن الأشياء العادية التي يتصوّر البعض بأنّها ليست موضوعًا للسينما، وقد لا يختلف اثنان على أنّنا أمام فيلم ينتقد بقوة ذلك الخراب الذي حلّ بالإنسان المصريّ العادي في عصر الانفتاح ـ تلك الكلمة التي لم ترد في حوار الفيلم ولو لمرّة واحدة؛ إنّما هي دليلٌ واضح على أنّ الفيلم قد تحاشى جاهدًا تقديم مواعظ وخُطبًا رنّانة ومُباشرة عن الشرف والأمانة والوطنيّة.
وعلى العكس من غالبية الأفلام التي تناولت مرحلة الانفتاح، ففيلم “سواق الأتوبيس” صبّ كلّ الاهتمام في تأمّل التطوّرات والتغيّرات الدقيقة في الأخلاقيّات والمشاعر، وكذلك الروابط العائليّة والآثار النفسيّة المُترتِّبة منها، وكم هو صعبٌ حقًّا الإبداع في هذه المنطقة الوعرة.
إن فيلم “سواق الأتوبيس” ينتمي إلى “الواقعيّة الجديدة” التي كان عاطف الطيّب ومحمد خان من أهمّ أقطابها. و “الواقعيّة الجديدة” ـ حسب الكاتب والناقد الفرنسيّ أندريه بازان 1985 ـ هي حركة سينمائيّة تتميّز بالمحتوى الاجتماعيّ؛ والحسّ التوثيقيّ للمُجتمع (من خلال التصوير في الشوارع وسط المارة مثلًا)؛ وحسّ الأفلام الوثائقية في تقنيات التصوير وزواياه؛ والإكثار من المُمثّلين غير المُحترفين.
وأخيرًا، نجد جشع الزوج البائس والذي كان سببًا في خيانة الزوجة من خلال فيلم “أبناء وقتلة ـ 1987″، حيث سرق شيخون (محمود عبد العزيز) مجوهرات زوجته ليبتاع محلًّا للخمور كان يعمل به، لتغتاظ الزوجة وتُقرّر الإبلاغ عن زوجها كونه متستِّرًا على زوج أخته الهارب من العدالة خليل (أحمد بدير) ليدخل شيخون السجن وتتزوّج هي من ضابط الشرطة، وبعد خروجه من سجنه يُقرّر شيخون الانتقام بالقتل، كما يعرض الفيلم لمسألة في غاية الخطورة وهي إغواء الإناث من قِبل الذكور الأقارب وأسباب ذلك ودور الأبّ المُتخاذل في مُقابل موقف أخته المُنصف للحقّ.
ولم تعدم السياسة نصيبًا في أفلام عاطف الطيّب؛ فتارةً نراه يناقش مسألة حُماة القانون في مُقابل الفاسدون، وذلك في فيلم “ضربة معلم ـ 1987م” والذي يسعى فيه الأب شاكر عبد الرحيم (كمال الشناوي) لإنقاذ ابنه وليد (شريف منير)، بكُلّ السُبل، من حبل المشنقة كونه قتل عشيق أمه، ليبدأ الصراع بين المسئولين عن تحقيق العدالة من جهة وبين الفاسدين والمُتحايلين على القانون من جهة أخرى. ويحاول الطيّب في الفيلم تعريف المُشاهد بالظروف العامة والخاصة التي تصنع مناخًا فاسدًا يُساعد على انتشار الجريمة، ويجعل من المقاومة لأجل تطبيق القانون نوعًا من المُغامرة المحفوفة بالمخاطر؛ كون الفاسدون أكثر وأقوى وطأةً من حُماة القانون.
وتارة أخرى يعرض الطيّب لصورة أجهزة الأمن في علاقتها بالمواطن، وذلك في فيلمي “البريء ـ 1986” و “ملف في الآداب ـ 1986”. فقدّم الأول صورة المُواطن البسيط الجاهل أحمد سبع الليل (أحمد زكي) الذي التحق بالعسكريّة وتمّ غسل مُخّه هو وغيره وتعليمهم الطاعة العمياء وإيهامهم بأنّ كلّ مَن في المُعتقل أعداءٌ للوطن، في مُقابل صورة المُواطن المُثقّف الوطنيّ حسين وهدان (ممدوح عبد العليم) ـ الذي علّم سبع الليل الوطنية ـ وقد تمّ القبض عليه وآخرين ويُحوّلوا لنفس المُعتقل الذي يعمل به سبع الليل، ويلتقي الصديقان في لحظة فارقة تنكشف فيها الحقيقة للمُجنّد المُغيّب. بينما قدّم الفيلم الثاني قضية خطيرة وهي صورة الأمان وتحقيقه في أجهزة الأمن وعلاقته بالمُواطنين من خلال مجموعة من المُوظّفين البُسطاء الذين اجتمعوا في منزل أحدهم ليُقنعهم بالتوسّط عند إحدى الزميلات كي يتزوّج بها، ليتمّ القبض عليهم بتهمة الدعارة من الضابط سعيد أبو الهدى (صلاح السعدني) انعدم ضميره وسعى لاهثًا وراء إثبات الذات.. ليضعنا مُخرجنا أمام التساؤل: كيف لجهاز الأمن الذي يلجأ إليه الجميع للاحتماء أن يُصبح جلّادًا؟! ليكسب الفيلم من خلال حبكته السينمائيّة تعاطفنا مع المُتّهمين، مُوضّحًا مدى الآثار النفسيّة والاجتماعيّة التي أُصيبوا بها، وبرغم حُصولهم على البراءة، إلا أنّ تلك الأخيرة غدت بمثابة لا شيء مع تواجد ملفات هؤلاء في إدارة مُكافحة الآداب، بل هي وصمة عارٍ لا يمحوها حتى الموت.
وأحيانًا أخرى يُسلّط الطيّب الضوء على بعض الفاسدين من رجالات الدولة، وذلك في فيلم “ضد الحكومة ـ 1992” والذي يعرض لشخصية وكيل النيابة المُرتشي والمفصول مصطفى خلف (أحمد زكي) والذي يعمل كمُحامي يستغلّ أُسر ضحايا حوادث الطُرقات لفائدته المادية، ثمّ يتخلّى لأول مرة عن تلك الأساليب ويُطالب بتحقيق العدالة إثر إصابة ابنه الوحيد في حادثة من نفس النوع.. هنا يُساومه أحد رجالات الدولة للعدول عن قضيته المرفوعة ضدّ الدولة (وزيري النقل والتعليم).
أخيرًا، يكشف عاطف الطيّب ببراعة وجُرأة عن انحراف بعض رجال المُخابرات من خلال فيلم “كشف المستور ـ 1994″، والذي يُوضّح الابتزاز القذر للنساء في أشخاص كلٍّ من: سلوى شاهين (نبيلة عبيد) ونجوى (شويكار) وناهد عصفور (نجوى فؤاد) ووفاء المغربي (عايدة عبد العزيز)، وتسخير أجهزة الدولة لأهواء الساقطين، في شخص كلّ من رشاد عويس (يوسف شعبان) والضابط الجديد محسن (فاروق الفيشاوي)، لينتهي الفيلم بمقتل سلوى شاهين بأيدي مجهولة خلال رحلتها للكشف عن المستور ورفضها العودة للغواية.
وعلى مستوى الوطنيّ والقوميّ، قدّم عاطف الطيّب فيلم “ناجي العلي” مُعبِّرًا به عن القومية ومُدافعًا عن القضيّة الفلسطينيّة ورافضًا أيّ شبهة تطبيع مع الكيان الصهيونيّ الغاشم. كما ناقش قيمة الوطنيّة في شخص حسن عز الرجال (نور الشريف) مُقابل العمالة والخيانة في شخص فرج الأكتع (عبد الله مشرف) وذلك في فيلمه “كتيبة الإعدام ـ 1989” والذي يُجسّد الأحداث في مدينة السويس أيام الصُمود عام 1973، وتطرّق خلال الفيلم لعديد من القيم منها الخيانة الزوجية في شخص مشيرة (شادية عبد الحميد) زوجة حسن، وإنصاف المظلوم والبحث عن الحقيقة في أشخاص كلّ من نعيمة الغريب (معالي زايد) والضابطان يوسف (ممدوح عبد العليم) وكمال (شوقي شامخ)، كما أشار إلى سلوك المهندس أبو خطوة ـ فرج الأكتع وقدرته على إيقاف ضابطي الشرطة عن العمل وتحويلهما للتحقيق والذي يعني أنّ للخيانة وجهًا غير منظور وأنّ الفساد هو الواجهة الشرعيّة للخيانة.
هذا ولم تغب الفلسفة وقضاياها عن أفلام عاطف الطيّب، فقدّم لنا فيلم “قلب الليل ـ 1989” عن رواية بنفس الاسم لنجيب محفوظ. وفي اعتقادنا بأنّه كان اختيارًا صعبًا؛ إذ تتعرّض الرواية للمنطقة الرمادية التي يعلوها الضباب، والتي تُمثّل بُعدًا من أهم أبعاد رؤية نجيب محفوظ للحياة، كما أنّها تُعالج قضية فلسفية هامة طالما أرهقت الفكر الإنساني وهي قضية الحرية والاختيار، مرورًا بالأشواق والرغبات التي تعتمل في أعماق الشخصيات مُحطّمةً النواهي والممنوعات، كما أنّ الرواية تتناول اليقين المُهتزّ بالشكوك والأسرار الغامضة والتي غالبًا ما يعجز العقل البشري عن كشفها أو إدراكها، وهي جميعها قضايا فلسفية قيمية بعيدة تمامًا عن هموم السينما السائدة وقتئذٍ. أضف إلى ذلك أنّ تحويل القصة لفيلم يطرح قضية فنية هامة وهي مسألة العلاقة بين الأدب والسينما، إذ ما زال تطويع البُعد الروائي الأدبي لصالح المشهد السينمائيّ مُرتبكًا ضعيفًا.
أخيرًا، فقد بحث الطيّب عن القيم في العديد من أفلامه، ففي فيلمه “التخشيبة ـ 1984م” يُجسّد قصة الطبيبة آمال (نبيلة عبيد) تورّطت في تهمة ظُلمًا انطلاقًا من حادث سيارة بسيط، لتُمضي أيامها بين أقسام الشرطة وغُرف المُستشفيات مُنتظرةً نجاح مُحاميها مجدي (أحمد زكي) في إثبات براءتها، وخلال تلك الأيام العصيبة تشهد الطبيبة تهاوي القيم الاجتماعيّة والمبادئ الإنسانيّة من حولها، لتندفع للانتقام من الرجل سبب الفضيحة كمال رستم (حمدي الوزير).
وخلال فيلمه “الهروب ـ 1991م” أمتعنا بالتبحّر في أعماق الشخصيّة الصعيديّة والمُمثّلة في شخصيّة منتصر (أحمد زكي) وما يحمله بداخله من موروث قيمي، والمُتأرجح بين قيمه ونخوته، فأحيانًا نراه يغضّ الطرف عن مبادئه بموافقته على العمل مع مدير مكتب تسفير العُمال للخليج بتأشيرات مُزوّرة، ثُمّ يستيقظ ضميره ويُعارض مدحت حينما حاول الأخير إلحاق العديد من عشيرة منتصر للخارج بتلك التأشيرات، لتأتي رجوات (ليلى شعير) غاويةً زوجته على الورق زينب (عايدة فهمي) وتُلحقها بالدعارة لحسابها في تركيا، لتبزُغْ قيمه مُجدّدًا من خلال رغبته السفر والثأر من زوجته الهاربة، وخلال ذلك تُطارده الشرطة كونه قتل رجوات، وخلال هروبه لم تسقط منه قيمه، بل خاطر بحياته وعاد إلى بلدته ليُواري أمه الثرى، ثّم تسقط منه القيم خلال مُعاشرته للراقصة صباح (هالة صدقي) ليعود إليه ضميره سريعًا ويرفض وعدها بالزواج كونه محكومًا عليه بالإعدام، ما يدلُّ على الصراع القيمي إثر الانتقال من القُرى إلى المُدن، أو بتعبير الفيلسوف الفرنسيّ برغسون (1941) من المجتمع المُغلق إلى المفتوح، ليُؤكّد لنا منتصر خلال رحلته قصور نظريّة ابن خلدون (1406) في الانتقال من البدو إلى المُدن وما ينتُج عنه من فُقدان النخوة والشهامة وغيرها.
إنّه عاطف الطيّب: نجيب محفوظ السينما المصريّة، الذي اهتمّ بتصوير هموم الطبقة الوُسطى المصريّة ورصد تغيّراتها وواقعها، رحل عاطف الطيّب ولكنّه لم يغب ولن يغيب، وستظلّ أعماله شاهدةً على خُلوده وبحثه عن القيم.