صراع الضابط والقس في مهرجان الاسكندرية السينمائي
محمد كمال
رياضة تنس الطاولة تعتبر من أكثر الألعاب التي فيها يكون رد فعل الخصم سريع من خلال المبادلة في التحول بين الجانبين الرئيسين الهجومي والدفاعي، هناك رياضات أخرى يكون رد الفعل فيها سريع مثل المنازلات لكن مسألة بناء الهجوم يجب أن تأخذ جانب تصاعدي عكس تنس الطاولة لهذا سميت “بنج بونج” فهو مسمى جاء من خلال الوضع الصوتي للكرة في سرعتها وحركتها وكثرة تنقلها، وهنا يجدر السؤال ماذا لو تواجدت رياضة البنج بونج في السينما؟
هذا ما يمكن أن نصف به الفيلم الكرواتي “المحادثة” أو “The Conversation” الحاصل على جائزة نجيب محفوظ لأفضل سيناريو وأحد بطليه وهو الإنجليزي دايلان ترنر على جائزة عمر الشريف لأفضل ممثل مناصفة من الدورة 38 بمهرجان الإسكندرية السينمائي التي اختتمت فعاليتها منذ أيام، والفيلم من تأليف وإخراج دومينيك سيدلر وشارك في بطولته بجانب ترنر الممثل الدانمركي كاسبر فيليبسون.
يبدو أن سيدلر مغرم بفكرة طرح الطريقة التنافسية في أعماله عن طريق صراع حيوي دائر في التوقيت الحالي كأنه مباراة يشاهدها الجمهور، ففي فيلمه السابق “المبارة” عام 2021 وهو مستوحى من أحداث حقيقية عام 1944 يقرر أحد قادة معسكرات الاعتقال النازية بالمجر الاحتفال بعيد ميلاد أدولف هتلر عن طريق تنظيم مباراة كرة قدم بين فريق نازى من النخبة ومجموعة من نزلاء المعسكرات بقيادة لاعب منتخب المجر السابق لازلو هورفات وإذا تمكن فريق السجناء من الفوز يتم منحهم الحرية.
وعلى هذا النحو وفي نفس الإطار الدرامي، يقدم سيدلر فيلمه الجديد المأخوذ من أحداث حقيقية حدثت في نفس العام 1944 لكن الفارق هو محدودية المكان والشخصيات، فيلم “المحادثة” معظمه يدور في مكتب وتضم المشاهد شخصين فقط، ومن هنا يأتي التشبيه بتنس الطاولة فالفيلم عبارة عن منافسات حوارية طويلة لشخصين مختلفين تماما لكنها ليست مناظرة لأن المناظرة تكون أقرب إلى جمل وأسئلة طويلة بها بعد أقرب للشرح والتفصيل عكس هذا الفيلم الذي كان الحوار فيه سريعا الكلمة ردها كلمة والجمل يرد عليها بجملة توازيها، والمشاهدين يتنقلون سريعا بين الأحداث.
بالطبع يتشابه اسم الفيلم مع العمل الخاص بالمخرج الأمريكي فرانسيس كوبولا الذي عرض عام 1974 لكن التشابه في العنوان فقط، لأن الفيلمين مختلفان تماما، قد يكون فيلم 2022 قريبا بعض الشئ من فيلم “البابوان” الذي أنتج عام 2019 في الارتكاز على حوار يدور بين شخصين، كل منهما لديه وجهة نظر معينة لكن الفارق أن الفيلم الكرواتي قد يبدو أكثر محدودية في الشخصيات لكنه أكثر شمولا وعمقا من نظيره الأمريكي.
قبل أي مبارة يقوم المتنافسان بالتدريبات الإحمائية التي يطلق عليها “التسخين” وفي السينما يمكن أن نطلق عليها التمهيد، فقد بدأ سيدلر فيلمه بلقطات قصيرة على أجزاء من جسد البطلين قبل اللقاء حيث لقطات على شخص يرتدي زيه الديني والآخر يقوم بإشعال سيجاره ويقوم لتعديل بدلته التي تبدو عسكرية كأن سيدلر يريد ان يظهر لنا ما يقوم به المتنافسين كتمهيد للقاء غير عادي.
في المكتب حيث تدور معظم أحداث الفيلم أو “المباراة” عن طريق محادثة بين خصمين الأول هو جوزيف تيتو العسكري الكرواتي الذي اختارته دولة يوغوسلافيا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وهزيمة هتلر ليكون مندوب أو والي أو حاكم مصغر لكرواتيا بعد أن تنضم مثل غيرها من دول البلقان إلى يوغوسلافيا (وفيما بعد يصبح جوزيف تيتو رئيسا ليوغوسلافيا حتى وقاته عام 1980)، أما الآخر فهو القس أوزولي ستيبيناك رئيس الكنيسة الكاثولوكية بكرواتيا.
في المنافسات الرياضية يوجد عرف يسمى “جس النبض” وهي الفترة الأولى التي يحاول فيها كل منافس رسم تحديد مبدئي عن مدى قوة خصمه في الغالب لا تطول لكنا في الفيلم جاءت أقرب إلى تمهيد ثاني حيث بدأ كل منهما عرض مجموعة من أفكاره وأرائه لندخل بها إلى معرفة تفاصيل كل شخصية حيث ان تيتو الضابط الكرواتي الموالي لشيوعية لنين مؤمن بجميع الأفكار الاشتراكية ملحد مؤيد لستالين يرى المستقبل في دولة يوغوسلافية كبرى وركز تيتو في البداية أمام خصمه على نقطتين “الدين” و”يوغوسلافيا الجديدة”.
أما أوزولي فهو قس متدين ليس له توجه سياسي، خاضع لتعاليم الكنيسة الكاثولوكية ومتمسك بكونه كرواتيا قوميا وضد الإنضمام إلى يوغوسلافيا لوجود إشكاليات عقائدية وفكرية واجتماعية وأحيانا دينية مع الصرب أولا ومع الشيوعية كفكر جديد صحيح يدعو للعدالة الاجتماعية لكنه بديل للديكتاتورية العسكرية ليس إلا.
كعادة أي مبارة تتغيير السيطرة وتتبادل بين الخصمين طوال الأحداث وفق الحالة التي عليها كل خصم سواء هجومية أو دفاعية وهذا ما حدث في التمهيد الثاني الطويل نوعا ما، فقد اتخذ تيتو وضعا هجوميا منذ البداية مما جعل أوزولي يلجأ للخطوط الدفاعية واستخدم فيها المخرج لقطات قصيرة قريبة من الوجوه لكن في تلك الفترة كان التركيز الأكبر على وجه القس أوزولي لإظهار تعابير وجهه بحكم أنه الذي يتخذ موقف دفاعي تجاه هجوم تيتو العنيف.
في الجزء الآخر من التمهيد الثاني تبدل الوضع فقد بدأ أوزولي يستعيد توازنه ويدخل في المبارة وأصبحت ردوده أكثر جرأة وثقة وأحيانا قسوة خاصة بعد أن تحدث تيتو عن أمرين أزعجا خصمه الأول حبيبته ماريا والثاني ان الكنيسة الكرواتية كانت موالية لهتلر، وعن طريق اللقطات القريبة على الوجوه أيضا تعامل المخرج لكن هذه المرة كان التركيز الأكبر في تنقلات الكاميرا على وجه تيتو الذي وجد منافسه بدأ يدخل أجواء المبارة سريعا.
في أفلام بها حبكة مشابهة في الغالب يتحول الأمر إلى ثرثرة خطابية وجمل حوارية رنانة لكن جزء كبير من ذكاء الفيلم الكرواتي أنه برغم اعتماده وارتكازه على حوار ثنائي بين شخصيتين إلا ان الملل لم نشعر به مطلقا فالحوارات بين الثنائي شيقة وجذابة تسير بوتيرة سريعة تخرج من منحنى إلى اخر وأحيانا تعود لطرح سابق وكل هذا في إطار سيناريو متماسك محكم اعتمد على صنع حالة إبداعية خاصة.
ركز دومنيك سيدلر على تلك المحادثة دون غيرها فهي البطل والمحرك وبمنتهى الحرفية والتمكن يأخذنا خارج الإطار المكاني في تفاصيل يسردها كلا منهما لكنه قصد أن تكون تلك المشاهد مجرد صورة فقط وهذا بهدف عدم تشتيت ذهن المشاهد وإبعاد تركيزه عن الحدث الرئيسي “المحادثة” لدرجة ان هذه المشاهد التي كانت خارج المكتب ظهرت بشكل مقصود صامتة فلا صوت يعلو فوق صوت المحادثة أو “المبارة”.
بعد التمهيدين يأتي الإعلان عن الهدف الرئيسي من المناقشة والذي لاحت ملامحه في الأفق خلال المحادثة، فالإتفاق الذي أتى به تيتو هو أن يعلن أوزولي انشقاقه عن الفاتيكان وأن تكون الكنيسة الكرواتية موالية ليوغوسلافيا وهنا استخدم المخرج اللقطات المتوسطة التي تظهر الشخصين في مواجهة بعدهما وهو دليل على تكافئ الكفتين “تعادل” حيث ان كلا منهما لديه وجهة نظره المتمسك بها بل ولديه حجته وأسبابه لكن لم يعد الأمر البقاء الأقوى لأن حتى في ظل حالة التكافئ تظل يد تيتو هي العليا والأكثر سيطرة خاصة واننا نكتشف ان يوغوسلافيا تنتظر الرد بعد ساعة ونصف وهي مدة المحادثة الحقيقية وأيضا مدتها على الشاشة.
في اي مواجهة بين خصمين وفي حالة تمسك كل طرف برأيه يتواجد عند كلايهما نقطة ضعف يظل كلا منها يخشى ان يتطرق إليها الآخر وهو ما حدث في النهاية عندما طرق كلا منهما على وجع الآخر، فقد قال أوزولي لتيتو بأن مسألة انتمائه الشيوعي ما هي إلا فترة بحكم انهم أصحاب السيطرة وان بداخله مواطن كرواتي قومي متدين، أما تيتو والذي كالعادة هاجم خصمه أولا قال له أن إيمانه غير كامل لأنه يخفي مشاعره الحميمية والجنسية داخله رغم احتياجه لها.
ولهذا جاء الطلب الأخير من كلا منهما، فقد أعطى تيتو كأسا من النبيذ لأوزولي الذي بدوره أهدى له الصليب صحيح ان كلاهما في الظاهر يبدي بأنه متمسك برأيه وهو حقيقي لكن في داخل كلا منهما منطقة صغيرة تعبر عن جزء بسيط من القناعة ببعض آراء الآخر وتحديدا المتعلقة بالطلبين الذين انتهت بهم المحادثة “المبارة” الممتعة.