“شفيقة ومتولّي”.. تراجيديا مصرية معتبرة
تبدو الكثير من القصص الشعبية المصرية، الصعيدية على وجه التحديد، كما لو كانت قصصا تراجيدية مكتملة وناضجة، فيها الحضور الهائل لسطوة الأقدار، أو ما نطلق عليه في التراث الشعبي “الوعد والمكتوب”، وفيها أيضا الشخصيات التي تضل الطريق، فتلقى عقابا مروعا، وفيها عناصر التطهير بإثارة الخوف والشفقة لدى الجمهور، لقد شهدوا مأساة مروعة، وهم خارجها، ولكنهم لم يعودوا مثلما كانوا، فقد تأثروا وانفعلوا، وخافوا وأشفقوا، لم يستطيعوا أن يغيروا النهايات المعروفة، فاغتسلوا بالدراما من مشاعر قاسية ومؤلمة.
الفيلم المصري “شفيقة ومتولى” الذي أخرجه علي بدرخان (عرض في نوفمبر1979) نموذج لهذه التراجيديا المعتبرة المستلهمة من حكاية شعبية صعيدية بنفس اسم الفيلم، وهي بدورها مستلهمة من حكاية واقعية، ولكنها صارت قصة تغنى، اشتهر بغنائها مغني صعيدي الأصل مقيم في الإسكندرية اسمه حفني أحمد حسن، أما مغزى قتل متولي لأخته شفيقة المنحرفة، فهو تمجيد مفهوم الشرف في الصعيد، والذي يرتبط بالمحافظة على عفة الأخت أو الزوجة، ويرتبط بالحفاظ على عفة المرأة عموما، سقوطها عار لا يمحوه إلا الدم، وفي القصة الشعبية، فإن القاضي الذي حوكم أمامه متولي تفهم دوافعه في قتل أخته المنحرفة، وخفف الحكم عليه الى ستة أشهر فقط، كما تسهب الحكاية الشعبية في وصف قتل متولي لشفيقة، وتقطيعه لجثتها.
بذرة التراجيديا موجودة بالأساس في فكرة الوعد والمكتوب التي تلح عليها القصة، والتي جعلت الكاتب شوقي عبد الحكيم يركز عليها في مسرحية “شفيقة ومتولي” القصيرة، والتي تظهر فيها أربع شخصيات فقط هي شفيقة ومتولي ووالدهما وهنادي القوادة التي فتحت الطريق أمام انحراف شفيقة، والكورس في المسرحية يكرر دوما فكرة الوعد والكتوب، وهنادي تقول لشفيقة طوال الوقت إن ما حدث لها قدر ومكتوب، وشفيقة نفسها تنتظر قدرها متولي لكي يقتلها، اعترافا منها بأن هذه هي النهاية اللائقة بمأساتها.
لكن تترات فيلم “شفيقة ومتولي” تخبرنا يأن شوقي عبد الحكيم هو كاتب قصة الفيلم، وأن صلاح جاهين هو كاتب الحوار والأشعار والأغاني، فهل قام شوقي عبد الحكيم بكتابة قصة سينمائية جديدة مستلهمة من الحكاية الشعبية؟ أم أن المقصود بالتترات هو أن الفيلم مأخوذ مباشرة من المسرحية القصيرة مع عمل معالجة مختلفة للأحداث بما يناسب طول الفيلم؟
خلفية اجتماعية وسياسية
في كل الأحوال، فإن ما رأيناه في فيلم “شفيقة ومتولي” أعمق بكثير مما تناولته المسرحية، لا أقصد فقط في عدد الشخصيات، أو في مواقفها وعلاقاتها، ولكن، وبالأساس، في إعادة بناء كاملة للخلفية الإجتماعية والسياسية لمأساة مقتل متولي لشقيقته، حيث تدور الأحداث على خلفية مأساة أخرى أكبر، وهي حفر قناة السويس في عصر الخديوي سعيد.
بسبب هذه الإضافة الهامة فإن انتهاك شفيقة يتم بالتوازي مع انتهاك الوطن، ومأساتها تتقاطع مع مأساة مصر كلها، والحظ السيء، والوعد البائس يطال شفيقة ومتولي معا، كما يطال البلد كلها، وبدلا من تجد ابن حلال ينقذها مما هي فيه، فإنها تتخبط بين أولاد الحرام الذين يبيعون كل شيء، وأي شيء، وهو ما سيحدث حرفيا مع مصر، التي يتداولها الأفاقون والسماسرة طمعا في الحصول على أكبر قدر من الثروة والسلطة.
ظلت عناصر التراجيديا في القصة الأصلية قائمة، فلا مفر من الوعد والمكتوب، وشفيقة وحيدة وجميلة وفقيرة، والذئاب حولها كثيرون، ولذلك فالمأساة قادمة لا محالة، ولكن المعالجة الجديدة أدت الى تعميق التراجيديا وأخذها الى أفاق أوسع، بالريط بين وعد شفيقة ووعد متولي، وبين وعد الاثنين ووعد بلدهما أيضا، سقوط شفيقة مرتبط بأخذ متولي للجهادية، وأخذ متولي للجهادية سيكشف له مأساة بلده، فكأننا أمام سلسلة من الإنتهاكات، وماساة شفيقة حلقة فقط في هذه السلسلة، رغم أنها ظلت أيضا في المعالجة السينمائية محور الحكاية.
وبينما يقوم متولي في الحكاية الشعبية بإنهاء المأساة بقتل شفيقة، فإنه في الفيلم يبدو كجزء من مأساة أكبر، ورغم أن شفيقة في الفيلم ترفض في البداية فكرة الوعد والمكتوب، وترى أن كل شيء نختاره بعقولنا، إلا أنها تكتشف تدريجيا أنها دخلت دائرة قدرية محكمة، حيث ترتبط بالرجل المسؤول عن توريد أنفار قناة السويس، وحيث تكتشف أن هناك في الأعلى من يحدد ويغير مصائر الفقراء، ولذلك تعود الى قريتها مستسلمة لمصيرها، ومنتظرة متولي، لكي يغلق أقواس الحكاية.
ولكن متولي الذي يؤمن بغسل العار، وبالشرف الصعيدي، والذي يحمل السكين لقتل شفيقة، لن يفعل ذلك، وستقتل شفيقة عدة رصاصات يطلقها الكبار، الأعيان والأجانب في عربة واحدة، هم أصل المأساة التي انتزعت متولي من شفيقة، فأصبحت عارية في مواجهة مصيرها، سيصاب متولي أيضا برصاصهم، ولكنه سيحمل شفيقة ملطخة بالدماء، تصبح شفيقة مسؤولة وضحية في نفس الوقت، لقد أخطأت بلا شك، ولكن الظروف أيضا كانت مأساوية، لم تكن تراجيديا مقتل شفيقة فحسب، ولكنها أيضا تراجيديا تغريبة وقهر متولي، لم تعد المسألة انتهاك جسد شفيقة فقط، ولكنها أيضا حكاية انتهاك وطن بأكمله، ونهب خيراته، وكسر إرادته، هذا العار أكبر مما نظن، وأكثر مما اعتقدت شفيقة، ومما اعتقد متولي.
الكورس والراوي
هنا تغيير أساسي في المعالجة السينمائية لأصل الحكاية المحدود، وهنا تتعدد الضحايا، وتتفرع المسؤوليات، أما الكورس الذي يمثل صوت الوعد والمكتوب، وصوت القدر الذي لا فكاك منه، فإنه يتحول في الفيلم الى صوت فرد واحد هو صلاح جاهين، الذي يبدأ الحكاية بعبارة “قال الرواي”، وهي العبارة التي يبدأ بها رواة الملاحم الشعبية المصرية حكاياتهم على الربابة.
صوت الراوي في الفيلم يحقق أكثر من هدف: إنه يذكرنا بالأصل الشعبي للقصة، ولكنه لا يكتفي بالكلام عن الوعد والمكتوب، وإنما يدعونا الى التأمل، وبأن ننظر الى ما وراء الحكاية، ويصل الراوي في النهاية الى درجة التشكيك في نهاية القصة الشعبية الأصلية، بعد أن أعاد معالجتها، فلم يعد يليق بالمعالجة الجديدة أن تنتهي بقتل متولي لشفيقة، هما ضحيتنان لمغتصب أكبر، ولذلك يقول الراوي إنه رغم ما شاهدناه من رفض متولي لقتل شفيقة، إلا أن البعض ما زال يقول إنه قتلها.
الراوي ينبهنا بذكاء الى نهاية جديدة مقترحة، هي الأكثر اتساقا مع فكرة بيع الوطن كله، وليس بيع شفيقة لجسدها فحسب، بل إن سقوط شفيقة، وخطف وجلد وإهانة متولي، كل ذلك يمثل تداعيات للمآسي الناتجة عن بيع الوطن.
الراوي أيضا يقدم تكثيفا وتلخيصا للأحداث، وانتقالات عبر الزمن، وإن كانت المشكلة الواضحة في صوت الرواي في الفيلم أنه يكرر في مشاهد كثيرا ما نراه على الشاشة، ولكنه ظل بالتأكيد بديلا ممتازا للكورس الإغريقي، وللكورس كما استخدمه شوقي عبد الحكيم في مسرحيته القصيرة.
صار معنى الإنتهاك متسعا، وتحولت التراجيديا الى مأساة اجتماعية واقتصادية، دون تجاوز فكرة الوعد والمكتوب، ودون أن تكون شفيقة شخصية منقادة طوال الوقت، بل لقد تحولت في الفيلم الى باحثة عن الحب والحماية والأمان، مخدوعة أكثر من كونها منحرفة، الرجال الثلاثة الذين عرفتهم خدعوها، وأخذوا منها ما يريدون: دياب ابن شيخ البلد، الوسيم والإنتهازي، أخذها الى عالم هنادي ثم عالم أختها فلّة، ثم خانها مع سيدة إنجليزية عجوز، لكي تأخذه الى القاهرة، ودياب أيضا هو الذي سيفضح شفيقة أمام أخيها، بعد أن تم تجنيد دياب، إثر إبعاد والده شيخ البلد عن منصبه.
والطرابيشي بك، الجنتلمان المهذب، الذي يحب الفلاحين، والذي وجدت فيه شفيقة ما يشبه الأب الغائب، اكتشفت شفيقة في النهاية أنه تاجر أنفار وعبيد، وأنه لا يتردد في أن يتركها ل يسري بك، حتى يهرب من العقاب، والطرابيشي هو أيضا الذي سيبيع خادمه الأثير بلبل، وسيتركه ليشنق بدلا منه، الطرابيشي هو أقذر شخصيات الفيلم قاطبة.
يسري بك عشيق شفيقة الأخير، تكتشف أنه يتلذذ بالإهانة وضرب الكرباج، لا يبدو مثلما يظهر، قويا وباطشا، ولكنه أيضا شديد الوضاعة، ولذلك لا يتردد بالتضحية بشفيقة، لأنها عرفت الكثير عن عالم الكبار، يسري بك نموذج جديد لمنطق بيع أي شيء، وهو لن يخرج متولي من الجهادية بناء على طلب شفيقة، حيث سنرى متولي من جديد وهو يدرب العساكر الجدد، لم تعد “جهادية” ولكنها أوقات ذل وهوان، وخدمة شاقة لحفنة أوغاد، ولمجموعة من الطرابيش تافهة، ولمرضى يذلون الآخرين، بينما هم أنفسهم يتلذذون بضرب الكرباج.
الخطأ التراجيدي
خطأ شفيقة التراجيدي أنها تركت جدها العجوز، وتركت أبو زيد، الشاب المصري الشهم، ابن قريتها المهتم بها، والذي كان يمكن أن يكون بديلا لغياب متولي، ولكنها قررت أن تصنع حياتها، وأن تتجاوز فقرها وحياتها البائسة، وخطأها أيضا أنها صدقت الأوغاد، وأنها تصورت أن الفقير يمكن أن يصعد حتى النهاية بدون عقبات، بينما هو في الحقيقة مجرد بضاعة يتداولها الأغنياء، شفيقة .
مثل أبطال التراجيديا، أخطأت شفيقة الطريق، ولم تقتل ضميرها تماما، بدليل ظهور متولي في أحلامها وهو يقتلها، وبدليل اختيارها العودة الى قريتها رغم معارضة هنادي، لقد استسلمت شفيقة أخيرا لمنطق الحساب، وكأنها تريد للحكاية أن تنتهي أيضا كتراجيديا معروفة النهايات.
المأساة هي أيضا مأساة متولي، الذي استسلم عندما قبض عليه الغُز، وأخذوه الى الجهادية، بل إنه تفوق على أقرانه في الرماية، فحصل على شريطين، ولكنه سيرى ينفسه مأساة العمال في حفر القناة.
يمنعون عن العمال المياه، فيثور، فيجلدونه، يشاهد مأساة الكوليرا التي فتكت بالعمال، فيساعد في تهريب علاج لهم، مع أحد الأطباء الوطنيين، ويشارك الاثنان في علاج المرضى في مشهد ساذج، حيث يعالجان مرضى في العزل الصحي من وباء معد دون أن يصابا بالمرض!
القصة الشعبية والمسرحية القصيرة والفيلم يربطون بوضوح سقوط شفيقة بغياب متولي في الجهادية، ولكن الفيلم يجعل من هذا الغياب وسلية لاكتشاف انتهاك وسقوط الوطن بين أيدي أخلاط شتى: بقايا الأتراك، والإنجليز، والفرنسيين، الصراع على القناة كشف حرب اللصوص على انتزاع الأسهم، كما أن مصريين أوغاد شاركوا في النهب، الصراع بين فرنسا وبريطانيا على مصر يمكن إسقاطه أيضا على صراع القوى الكبرى على مصر في كل العصور، وفي جملة حوار مهمة ينحاز الفيلم الى مصر التي تنتمي الى نفسها، لا الى مصر المنهوبة والمستغلة بفتح الغاء، ولا اللى مصر التي تقع فريسة لقوة عظمى مهما كان اسمها.
مع الرسم البارع للشخصيات وأطماعها، ومع الرسم البارع للظروف السياسية والإجتماعية، يصبح الوعد والمكتوب أمرا مفهوما بل وحتميا، هذا زمان القحط والعبودية والإستغلال، هذا زمان دياب والطرابيشي ويسري بك وبقايا الغّز، فكيف توقعت شفيقة أن تنجو من مصيرها؟! وكيف توقع متولي ألا تولد الماساة في أسرته؟!
أما الفقراء الذين اعتقدوا بالنجاة مثل شفيقة وبلبل فسيضحى بهم في أول أزمة، وستبقى هنادي معلقة في مهنتها، ومعها فرقة الغناء والتسلية، أصحاب الوجوه المدهونة بالطلاء، إنهم يجسدون عصر الزيف والأقنعة، فيهم البهلول وملك الزمان والراقصة، أراجوزات كل زمان، ومثلهم بالضبط من يلعبون نفس الأدوار، ولكن بألقاب البكوات والباشوات من نجوم العصر، الذين يبيعون كل شيء، حتى أنفسهم.
انتهاك وطن
يمكننا إذن الحديث عن تراجيديا شعبية تنتقل بقوة وبراعة من الخاص الى العام، وتختبر فكرة الشرف والعار عند الطبقة العليا والدنيا، وتربط مأساة شفيقة بمآسي الوطن وأحواله، أما أبو زيد، ابن البلد الشهم، فهو لن يستطيع أن يغير شيئا، شفيقة نفسها ترى أنها غير جديرة به بعد أن سقطت، تصبح الحكاية اغتصاب وطن وليس مجرد سقوط شفيقة، ويبدو ما فعله الأوغاد دياب والطرابيشي بك ويسري بك أسوأ بكثير مما فعلته شفيقة، ما فعلوه في السر هو العار الحقيقي، ولذلك ستفضحهم شفيقة في أغنيتها الشهيرة “بانوا بانوا ” من تأليف صلاح جاهين ومن ألحان كمال الطويل، شفيقة صاحبة الفضيحة في الحكاية الشعبية هي التي تفضح الآخرين، تتحدث عن الحلو المتعايق “أبو دم خفيف”، وعن الطبع الرديء، وعن ذلك الذي يبدو شهما من الخارج، وهو من داخله وضيع و”بياع يبيع حتى والديه”، وتنهي أغنيتها بقولها: “دوّروا وشكوا عني كفياني وشوش/ ده أكم من وش غدر بيا ولا ينكسفوش/ وعصير العنب العنابى/ نقطة ورا نقطة يا عذابي/ يكشف لي حبايبى وصحابي/ يوحدني وانا في عز شبابي/ القلب على الحب يشابي/ والحب بعيد عن أوطانو”، كانت تحلم بالحب، فأخذها الأوغاد الى الضياع.
أفكار ومعالجات عظيمة تبرر تحمس الكثيرين للفيلم، وقيام يوسف شاهين وأفلام مصر العالمية بإنتاجه، تحمس شاهين أيضا لإخراج الفيلم، وصل المشروع أيضا للمخرج سيد عيسى، الذي صور بعض المشاهد مثل مشهد المولد، وتذكر بعض المصادر أنه اختلف مع سعاد حسني، فتم إسناد المشروع الى المخرج علي بدرخان ليقدم في رأيي أحد أفضل أعماله كمخرج.
الصورة في هذا الفيلم تكتسب ثراء غير عادي، وبصمة المشرف الفني ناجي شاكر الفنان الكبير واضحة في الملابس وفي اختيار الألوان وفي كل تفاصيل المشاهد، ليست ألوانا والسلام، ولكنها مرتبطة بالدراما وتحولات الشخصية، شفيقة مثلا تبدأ الفيلم بجلباب أسود تحته جلباب برتقالي نرى حوافه عندما يطيرها الهواء، وكأن البرتقالي يجسد طموحها في التمرد والخروج والبحث عن الحب، بينما تستقبل شفيقة أخاها متولي في المشهد الأخير وهى ترتدي جلبابا أسود تحته جلباب أبيض، لقد عادت لتتطهر مما فعلت، ولكنالأسود في الحالتين هو لون مأساتها، وهو أيضا لون جلبابها وهي ترقص بعد أن خدعها دياب، سقوطها بإرادتها كغانية ليس فرحا، ولكنها صميم المأساة، أما اللون البنفسجي فهو لون جلبابها عندما ذهبت لاكتشاف عالم المولد، لون مختلط غامض، لم تحسم أمرها بعد، إنها تقدم رجلا وتوخر الرجل الثانية.
هكذا تصبح الألوان عنصرا دراميا أساسيا، وليست مجرد زينة: هذه البهرجة في أزياء فريق الغناء تترجم فوضى الطلاء و”البوية” التي تخفي الوجوه الحقيقية، وعندما يبيع الطرابيشي بك محظيته ل يسري بك يبدو بألوانه الفاقعة مثل البهلول والمغنيين في الفرقة الجوالة.
هيئة شفيقة نفسها، وشعرها المنكوش، وملابسها الفضفاضة، توحي أيضا بالإنطلاق، إنها تبدو كامرأة وحشية الطبع، متمردة، أكثر من كونها امرأة منحرفة بالسليقة، وملابسها الأوربية الفاخرة تبدو غير مناسبة لشخصياتها، وغير ملائمة لحركتها المنطلقة.
قدم على بدرخان تكوينات ممتازة تعبر عن الدراما، مشاهد غزو الغزّ للقرية، والقبض على الفلاحين، تذكرنا في قوة تنفيذها بمشاهد غزو الهجانة للقرية في فيلم “الأرض”، ولقطة وجه يسري بك داخل الكرباج تكشف عن حجمه وضعفه، ومشهد تقليده لعجين الفلاحة ونوم العازب يبدو مثل لوحة وحشية وفاقعة الألوان، هناك اثنان من مديري التصوير الكبار اشتركا في الفيلم هما عبد الحليم نصر ومحسن نصر.
توظيف بدرخان للأغنيات بحيث لا تؤثر على إيقاع السرد كان أيضا ممتازا بشكل عام، معه في المونتاج أستاذ كبير هو سعيد الشيخ، أغنية “بانوا بانوا” هي النموذج، فرغم طولها إلا أن بناءها كان سلسا، وظهور أحمد مظهر وجميل راتب فيها كان محسوباوفي مكانه بالضبط.
أجادت سعاد حسني التعبير عن مأساة شفيقة في كل مراحلها: الأخت العطوفة، والمرأة الباحثة عن الحب، والغانية المحترفة، والفتاة الباحثة عن الأمان والثراء حتى لو على درجة “محظية”، وأخيرا المرأة المذنبة التي تريد ان تتطهر من ماضيها، والتي تنتظر عقاب أخيها.
أحمد زكي في أحد أدواره الطويلة الهامة، وكأنه متولي بمصريته وبساطته وقوته وجسارته، المصري البائس الذي يعاند قدره، والي لا يعرف من أين تأتيه الضربة، زكي سيظل بعد ذلك في أفلامه عنوانا للمصري العادي قديما وحديثا، جلبابه ألأبيض في الفيلم كان عنوان البراءة التي يجب ألا تتلوث أبدا.
محمود عبد العزيز وأحمد مظهر وجميل راتب جسدوا ببراعة ألوانا ثلاثة من الإنتهازية، مظهر وراتب قدما من قبل أدوارا لأشخاص في منتهى الخسة، ولكن دور محمود عبد العزيز كان انتقالا ممتازا له من أدوار بسيطة تعتمد على وسامته، الى أدوار أكثر تعقيدا.
في أدوار مساعدة لامعة فنانون كبار: ملك الجمل في دور هنادي، عبد الوارث عسر في دور الجد، ونعيمة الصغير في دور فلّة.
ورغم الدورين القصيرين، إلا أن محمود الجندي في دور البهلول، ويونس شلبي في دور بلبل، كانا أيضا مميزين، الشخصيتان تمثلان الفقراء الذين يتلخص دورهم في تسلية البكوات، أو خدمتهم حتى الموت.
حمزة الشيمي في دور أبو زيد كان أيضا لافتا، الشخصية مشاهدها قليلة، ولكنها تمثل ابن البلد الشهم، الذي حاول تغيير قدر شفيقة فلم يستطع، فرد واحد لن يستطيع أن يفعل شيئا، وسط هذه الفوضى، التي تجعل كل شيء، وليس شفيقة وحدها، عرضة للبيع والشراء.
“شفيقة ومتولي” لم يغير المكان في الصعيد وجرجا، ولكنه لم يجد نفسه ملتزما باللهجة الصعيدية، لأن الحكاية خرجت من الخاص الى العام، ولأن في كل مكان شفيقة أخرى بتنويعات مختلفة، لم تجد من يحكي قصتها.
ولأنه عندما ينتهك الوطن ويباع، فإن الأفراد لن يكونوا أبدأ بمأمن من البيع والإنتهاك.