“سينما الجنة” مرثية المشاهدة في القاعات السينمائية بعد ثلاثين سنة
تحتفل الأوساط السينمائية في إيطاليا والعالم يوم 17 نوفمبر الجاري بمضي ثلاثين سنة على انطلاق العروض الأولى لفيلم “سينما الجنة”Cinema Paradiso لجوسيبي تورناتوري، وغير خاف على المتتبع بأن الفيلم هو واحد من أكثر الأعمال التي أسالت مداد النقد بشكل يصعب معه على أية كتابة نقدية أن تضيف الجديد.
لكن بعد ثلاثة عقود أرى أن ثلاثة وقائع تشفع في العودة إلى هذا العمل المفعم بالحنين، أولها أن وضعية المشاهدة في القاعات السينمائية نهاية الثمانينات حين خروج الفيلم كانت صعبة، لكنها لم تصل للدرجة التراجيدية التي وصلتها اليوم في كثير من بقاع العالم، فمع كل إغلاق لقاعة سينمائية تتراءى نهاية فيلم“سينما الجنة” والأسباب فصلها سبكافيكو مالك الصلة في الفيلم “منذ مدة لم يعد يأتي عندنا أحد، مع الأزمة والتلفزيون وأشرطة الفيديو لم تعد السينما في عصرنا إلا حلما”.
اليوم أكثر من أي وقت مضى صار الفيلم وثيقة تاريخية عن واقع المشاهدة في العصر الذهبي للسينما ومرثية راهنة للمشاهدة في القاعات السينمائية؛ وهنا اكتسب الفيلم أهميته التي أدخلته خانة كلاسيكيات الفن السابع.
الواقعة الثانية أنه بعد خمس عشرة سنة من طرح الفيلم، اكتشف عشاق السينما عبر أقراص دي في دي وبلو راي ما سمي بالنسخة المطولة أو الكاملة التي تزيد عن النسخة الدولية التي شاهدوها في الصالات بأكثر من خمسين دقيقة. في النسخة الجديدة أعاد المخرج كل المشاهد التي قصها من النسخة الأولى بشكل خلق للفيلم نسختين؛ كانت قصة الحب في الأولى مجرد خلفية للسينما، بينما صارت السينما في النسخة الجديدة مجرد خلفية لقصة الحب، أظهرت النسخة الجديدة حقيقة سبق وأبرزها كثير من النقاد المتحررين من وطأة التقييم الانطباعي؛ وهي أن الفيلم إن كان فيلما جميلا، إلا أنه لم يصل إلى درجة اعتباره تحفة سينمائية.
بعد مضي ثلاثين سنة، مازال الفيلم تتنازعه نظرتان؛ نظرة عشاق السينما التي تدرجه ضمن الروائع، ونظرة النقد التي ترى فيه مجرد نوستالجيا عن السينما، كل ذلك لا ينزع عن الفيلم ميزة جعلته واحدا من أكثر الأفلام سحرا في تاريخ السينما، وتلك هي الواقعة الثالثة التي أوحت بكتابة هذه السطور التي تتوخى استكشاف أسباب نجاح هذا العمل الجميل وإبراز مكامن السحر التي جعلت كثيرا من عشاق السينما يقعون في أسره.
سينما المؤلف المدعومة بالإنتاج المشترك وأجواء فيلليني
ينتمي الفيلم إلى سينما المؤلف، إذ قام تورناتوري علاوة على الإخراج بكتابة السيناريو، وغني عن التذكير أن نظام سينما المؤلف السائد في أوربا وكثير من بقاع العالم، يتيح للمخرج الإمساك بجميع عناصر فيلمه بخلاف نظام المخرج المنفذ الهوليودي حيث تتوزع النظرة في الفيلم بين ثلاث جهات؛ المنتج أو الاستوديو وكاتب السيناريو ثم المخرج مع ترجيح لنظرة الأستوديو عند الاختلاف، أتاح هذا النظام لتورناتوري وهو سينمائي موهوب ومتحكم في أدواته، أن يفرض نظرته الفنية في شموليتها مستندا على عنصر آخر هو الإنتاج المشترك، هنا يجمع كل المتتبعين بأن فرنسا وإيطاليا شكلتا دوما أفضل ثنائي في الإنتاج المشترك على صعيد العالم؛ وهي حقيقة تؤكدها الروائع السينمائية وليدة الإنتاج المشترك من الجانبين.
في الأصل كان الإنتاج المشترك ثمرة اتفاقيات ثنائية بين البلدين اللذين تتمتع فيهما السينما بدعم حكومي، مما كان يتيح لبعض السينمائيين الطموحين إنجاز أعمال ذات عمق فني يصعب أن ينهض بها القطاع الخاص في البلدين، كان هذا الإنتاج يٌمكن أيضا من تبادل الخبرات ولم يكن غريبا أن يحل مارشيللو ماسترويانيأو صوفيا لورين ضيفين على بعض الأفلام الفرنسية كما حل فيليب نواريه وجاك بيران ضيفين على فيلمنا هذا.
ينتسب حوسيبي تورناتوري إلى الموجة الثالثة في السينما الواقعية الايطالية المفروض أنها تحررت من إرث الرواد، لكنه في هذا الفيلم عاد لعوالم وأجواء فيدريكو فيلليني، وليس مبالغة إذا اعتبرنا فيلمه فيلما فيللينيا بامتياز، إذ تحضر كثير من مواقف وشخصيات فيلليني خصوصا من فيلميه “روما” و”أماركورد”، ففي هذين الفيلمين سبق للمايسترو أن عرض لعادات مشاهدي الصالات الشعبية أثناء مشاهدتهم للأفلام وتصرفاتهم الساذجة التي عبر بها عن طريقتهم في تلقي السينما، غير ذلك حضرت أجواء “أماركورد” في كثير من مشاهد الفيلم وهو ما ليس غريبا مادام تورناتوري يدرج هذا الفيلم ضمن أبرز الأفلام التي صنعت شغفه السينمائي.
الاحتفاء بعشق السينما
لاحظت كثيرا من نظريات التحليل النفسي التي تصدت لعلاقة السينما بجمهورها وجود لعبة تماهي يمارسها الجمهور في علاقته بأفلام السينما وأبطالها بشكل يجعله يعيش عالم الفيلم كما لو أنه داخله، وكانت الأفلام التي تحقق هذه الميزة دوما بمثابة الدجاجة التي تبيض ذهبا لمنتجيها؛ لأن الجمهور لا يقبل عليها فقط وإنما في حالات كثيرة كان يعود لمشاهدة نفس الفيلم مرات ومرات، مما يرفع إيراداته وأعداد مشاهديه مقارنة بأفلام المشاهدة الوحيدة .
في فيلم “سينما الجنة” ربما قلة قد تتماهى مع البطل سلفاتوري كشغوف ثم كعامل عرض فهاو للتصوير بكاميرا 8 ملم وانتهاء بمخرج كبير، لكن كل من عايش تجربة الفرجة داخل القاعات السينمائية إلا وتعرّف على نفسه فيالصالة وفي جمهورها، الجميل أن الفيلم سلط الضوء على جمهور الترسو ونقل أدق طقوس فرجته فيما لم يهتم كثيرا بجمهور البلكون واللوج، وكلما قلة من هذه الفئة مُتفرجان إثنان جسدا التعالي الطبقي الذي ساد المجتمع الايطالي بتاريخ الأحداث؛ أحدهما كان ينفض سيجارته على رؤوس جمهور الطابق السفلي من الصالة، والثاني كان يتعمد البصق على رؤوسهم.
يعود النجاح الكبير الذي حققه الفيلم إلى جانب النوستالجيا والحنين الذي حركه في أجيال من المشاهدين عبر العالم، أن كل جيل من أجيال عصر السينما الذهبي وجد في الفيلم تأريخا لأجواء الفرجة في عصره، من الرقابة الصارمة على المشاهد الجريئة، ثم بداية التعامل الليبرالي من الرقابة مع المشاهد الساخنة، فالانتقال من الأبيض والأسود إلى الألوان ومن الشاشة المربعة إلى الشاشة العريضة (سكوب) دون إغفال تجربة المشاهدة الصيفية في الهواء الطلق، حرص الفيلم أن يصاحب كل ذلك لقطات من عيون الأفلام وأنجحها جماهيريا اختيرت بعناية لتعبر عن مراحل تطور السينما وأساليب تلقيها من المتفرجين.
ظاهريا يٌؤرخ فيلم “سينما الجنة ” لتاريخ صالة سينمائية في أقاصي صقلية، لكنه في عمقه يؤرخ لطقوس الفرجة في صالات السينما، وبعمق أكبر يؤرخ للشغف بالسينما كفرجة وفن.
في آخر الفيلم، يوصي ألفريدو قبل موته بتسليم سلفاتوري علبة شريط سليولويد، يكتشف الأخير عند مشاهدتها في روما بأن ألفريدو جمع فيها بعناية كل المشاهد الساخنة التي قصتها الرقابة حين كان يشتغل عامل عرض، كان الشريط تجميعا للمقاطع التي رفض ألفريدو تمكين سلفاتوري منها طفلا وها هو يهديها إليه كبيرا ليذكره بجزء من الأفلام التي أثرت في مخيلته السينمائية، لكن ليمكنه أيضا من إتمام مشاهدة تلك الأفلام بعد كل تلك السنين، في تجربة مماثلة يحكي فيللني في مذكراته أنه حين كان يعرض التلفزيون بعض الأفلام القديمة كاملة، كان كمن يستعيد قطع ضائعة ويملأ بها في ذاكرته الفجوات التي كانت وقعت في وسط كثير من الأفلام التي شاهدها.
فضول الجمهور لاكتشاف عوالم السينما الساحرة
تَمَلَّكَ جمهور السينما دوما الفضول لاستكشاف عوالمها، لذا لم يكن غريبا أن يحالف النجاح الساحق أغلب الأفلام التي جعلت السينما محورا لموضوعاتها ابتداء من” شارع الغروب” و” لنغني تحث المطر” حتى” الفنان ” الذي نجح في العصر الرقمي للسينما بالأدوات البدائية للسينما الصامتة.
حقق فيلم “سينما الجنة” واحدة من أمنيات أجيال من مشاهدي العصر الذهبي للسينما بالصعود يوما إلى قُمْرة العرض، ومعاينة كيفية تشغيل الفيلم وطريقة اشتغال عامل العرض، هنا قدم الفيلم التفاتة لعامل العرض باعتباره إحدى أهم مهن العرض السينمائي، بل وبوأه دورا مهيمنا في الفيلم كله من خلال شخصية الفريدو.
يرسم ألفريدو وهو يُحاول أن يُبعد سلفاتوري عن امتهان هذه المهنة، بورتريها إنسانيا مؤثرا لعامل العرض “في هذه المهنة تعيش مثل عبد، تظل وحيدا طول اليوم، تُشاهد نفس الفيلم مئة مرة لأنه لا تعرف ماذا تعمل، تتكلم طيلة اليوم مثل مجنون مع جريتا جاربو وتيرون بوفير، وتعمل في جميع الأيام حتى في أعياد الميلاد، وحدها الجمعة المقدسة لا تعمل ولولا أنهم لم يصلبوا فيها المسيح لعملت فيها أيضا.. تظل محبوسا في القمرة، في الصيف تموت من شدة الحر وفي الشتاء تتضور من شدة البرد، تستنشق الغارات والدخان طيلة اليوم ، وفي الأخير لا تربح إلا أجرا بئيسا “.
لا يمثل ألفريدو عامل العرض فقط، وإنما هو ضمير السينما في بلاده، فيحكي أن ابتدأ هذا العمل في العاشرة من عمره في عصر السينما الصامتة، حين كانت ألآت العرض تستخدم الجهد العضليلإدارة مقبض آلة العرض، وتطور عمله مع تطور السينما، حتى عندما توقف، صادف الحريق الذي تسبب في إعاقته البصرية عرض فيلم تزامن تاريخه مع وصول أولى أجهزة التلفزيون إلى البيوت الايطالية، ثم تصادف موته مع هدم صالة “سينما الجنة” ليكون رمزا وشاهدا على عصر كامل من تطور السينما في إيطاليا.
ثلاث قصص متقاطعة
صدر فيلم “سينما الجنة” في ثلاث نسخ، الأولى النسخة الايطالية وكانت في حدود ساعتان و35 دقيقة وعانت من مشاكل مونتاج أثرت على استقبال الفيلم عند عرضه الايطالي، عندما اشترى المنتج الأمريكي الشهيرهارفيوينستينحقوق النسخة الدولية أقنع مخرجها بتقليص مدة الفيلم إلىساعتين و18 دقيقة بالتركيز على جانب السينما في القصة، ورغم النجاح المنقطع النظير للنسخة الدولية ظل تورناتوري يعتبرها خيانة لفيلمه كما تصوره، لذا قدم فيلمه في سنة 2002 في نسخته المطولة الكاملة في حدود ساعتان و53 دقيقة.
ترتب عن اختلاف النسخ كما سبق ونوهنا تغليب لقصة السينما في النسخة الدولية، وتغليب لقصة الحب في النسخة المطولة، لكن في حقيقة الأمر تقاطعت في البنية السردية للفيلم ثلاث قصص هي:
قصة الصالة
صور الفيلم قصة صالة سينما في بلدة صغيرة بجزيرة صقلية، ومن خلال الأحداث التي مرت بهذه المعلمة أرخ الفيلم لفترة مهمة من تاريخ الفن السابع امتدت من نهاية الأربعينات التي تعرف عند مؤرخي السينما بالعصر الذهبي للمشاهدة حتى فترة الانحدار في الثمانينات حين تراجعت السينما تحث تأثير منافسة التلفزيون والفيديو وهي الفترة التي عبر الفيلم عن تراجيدياتها بإقفال الصالة وهدمها.
قدم العمل موازة مع التأريخ للصالة تأريخا للمجتمع في علاقته بالسينما؛ ففي إيطاليا كما في مناطق كثيرة من العالم كانت صالة السينما المكان الذي لا بديل عنه بالنسبة لكثير من الأفراد والجماعات للاستمتاع بلحظات الفرجة المشتركة، واقع عبرعنه القس في الفيلم متحسرا على حريق السينما “ماذا سنفعل الآن وقد أصبحت البلدة دون مكان للهو”، تورناتوري نفسه عبر عن ذات المعنى في أحد أحاديثه قائلا “قديما كانت صالات السينما النافذة الوحيدة المفتوحة على العالم في المدن الصغيرة “.
قصة الحب الرومانسية
حوت النسخة المطولة للفيلم تمطيطا ملحوظا لأحداث قصة الحب التي جمعت بين سلفاتوري وإلينا، جعلت المتفرج يكتشف تفاصيل لم تكن موجودة في النسخة الدولية منها دور الفريدو في إفشال اللقاء الأخير بين العاشفين والذي فقد عقبه سلفاتوري أي أثر لمعشوقته.
بُنيت خيوط القصة حول الحكاية الكلاسيكية عن الحب المستحيل بسبب الفوارق الطبقية الذي يكون الفشل فيه مُحرضا للبطل على النجاح بطريقة أفلام الميلودراما المصرية القديمة. كشفت النسخة المطولة كل الخيوط وأسهبت في التفاصيل بشكل أسقط القصة في أسلوب خطي لم يعجب كثير من متذوقي السينما ذات الأبعاد المتعددة، وأكدت صواب نهج هارفيواينستين عند تسويقه للفيلم خارج ايطاليا باختزال أحداث قصة الحب وإعطائها ترتيبا ثانويا في البنية العامة للفيلم، ربما شفع لتورناتوري رغبته في تقديم حكاية حب رومانسية تتوازى مع رومانسية عشق السينما في ذلك الزمن الجميل.
قصة الأبوة الروحية
لا نُشاطر كثيرا من النقاد الذين أدرجوا علاقة سلفاتوري بألفريدو ضمن خانة الصداقة، فالطفل فقد والده مجهول المصير في الحرب العالمية الثانية في سن مبكرة، وقد لعب الفريدو دور الأب البديل في كثير من المواقف، بدا ذلك من توجيهه المستمر لسلفاتوري طفلا وشابا، فأقنعه بأن مستقبله ليس في مهنة عامل العرض، وحاول أن يبعده عن قصة حب غير متكافئة طبقيا (رواية الجندي مع الأميرة)، بل وتصرف من واجب الأب بإبعاده فعليا عن طريق معشوقته البورجوازية، وحين هم الشاب بالسفر إلى روما لدراسة السينما كانت النصيحة أبوية قاسية “لا تعد أبدا، لا تفكر فينا، لا تنظر إلى الوراء، لا تكتب إلينا، لا تسقط في الحنين إنسنا جميعا “، كان تنفيذ هذه الوصية مفتاح نجاح سلفاتوري الذي صار من كبار مخرجي السينما، وحتى عندما عاد إلى بلدته بعد غياب ثلاثين سنة لم يرجع لتأبين صديق وإنما عاد لتوديع أب قد لا يكون أبا بيولوجيا لكنه أب روحي بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
في وجدان كثير ممن شاهدوا الفيلم، تفوقت قصة الأبوة الروحية في تأثيرها على قصة الحب الرومانسية، وكانت في اعتقادي هي أهم رسالة سعى الفيلم إلى التعبير عنها وكانت عن دور الأجيال المتعاقبة في نقل عشق السينما إلى بعضها.
فيلم فيليب نواريه وحضور لافت لجاك بيران
شكل سلفاتوري كاشيو الذي لعب دور الطفل توتو اكتشاف العمل، لكن مسيرته توقفت مع الآسف بعيد فيلم آخر وأخير، على أن الفيلم يدين في نجاحه إلى ممثل كبير وصفه تورناتوري في الندوة الصحافية خلال تقديم الفيلم في مهرجان كان بدٌب السينما، وكذلك كان، يحكي فيلب نواريه أنه لم يستطع أن يحبس دموعه وهو يقرأ الصفحات الأخيرة من السيناريو، وقع في عشق القصة التي شكلت تحديا بالنسبة إليه جعلته يتحول من شخصية البورجوازي الفرنسي التي التصقت به في السينما إلى شخصية البدوي الصقلي التي تقمصها روحا ومظهرا خارجيا، أقنع أيضا في شخصية عامل العرض في صالة السينما، لكن إضافته الحقيقية كانت في النسخة الفرنسية للفيلم التي أبرزت أدائه المقتدر، إذ لم يستطع الدوبلاج في النسختين الايطالية والانجليزية أن ينقل صوته الفخم وطريقة نطقه لمخارج الحروف وأسلوبه الفرنسي المفعم بالكلاسيكية في التعبير عن مواقف شخصيته في العمل، حمل نواريه الفيلم على كاهله، وقدم أحد أكبر أدواره في مسيرة امتدت لأكثر من خمسين سنة.
بجانب نواريه، برز مواطنه جاك بيران الذي قدم شخصية سلفاتوري في كهولته، كان دوره الأكثر اقتصاد من جانب الحوار، لكنه نجح بأحاسيسه وقسمات وجهه في التعبير يشكل ملفت عن مشاعر الحنين إلى طفولته الصقلية وقصة حبه المستحيلة وعوالم صالة السينما.
بصمة مؤلف موسيقى الويسترن سباغيتي
لم يحد فيلم “سينما الجنة” عن التقليد الايطالي في الإبهار بالموسيقى التصويرية للأفلام، وتعاون تورناتوري مع إنيو موريكوني أحد أعظم مؤلفي الموسيقى التصويرية في العالم، الذي قدم على امتداد الفيلم ست عشرة تنويعا على اللازمة الرئيسية في ميلوديا الفيلم التي دارت في مجملها حول تيمة النوستالجيا والحنين، ووظف المؤلف آلة البيانو بنقرتها الساحرة لتحقيق التوازن بين القيمة الجمالية والوظيفة الدرامية للموسيقى، فيما وفق مخرج الفيلم في اختيار المشاهد والمواقف المصاحبة بالموسيقى بشكل كان يذكي بعد كل خفوت الوتر الذي لعب عليه المخرج طيلة الفيلم ألا وهو تأجيج مشاعر الحنين في المتفرج .
نستطيع أن نقول إن الشريط الأصلي هو ما يتبقى من الفيلم بعد أن ينسى أو يركن على الرف، وموسيقى سينما الجنة ستظل خالدة تذكر بفيلم لم يفارق هو ذاته ذاكرة الشغوفين بالسينما طيلة ثلاثين سنة.
الأكيد أن جمهور الصالات بشغفه وطقوسه الفرجوية بدأ ينقرض بل وانقرض فعلا في كثير من مناطق العالم التي ولدت فيها أجيال وشبت دون أن تلج صالة سينما، لكن سيظل فيلم “سينما الجنة ” مهما اختلفنا في تقييمه وثيقة تاريخية تذكر بالعصر الذهبي للمشاهدة في القاعات السينمائية.