سينما أصغر فرهادي.. التخلص من الموروث الكياروستامي!
في عالم النقد، السيناريو هو حجة الضعفاء، هو أول ما يلجأ إليه الناقد المتواضع ليداري عجزه عما يفترض أن يقوم به أساسا من تحليل لجماليات الفيلم، فتارة يحكي قصة الفيلم وكأنه مشاهد خرج من السينما ليحكي الفيلم لأصدقاءه، وتارة يتصيد الأخطاء المنطقية في الحكاية، وهو مجهود يحترم، ولكنه لا يجب أن يأتي أبدا منفردا، لأن الفيلم ببساطة هم كيان أكبر بكثير من حكايته، وإلا فكان من الممكن أن نتخلص من الوسيط برمته. ولكن..
ولكن عند لحظات بعينها يجب حتى علينا أن ننحي هذه القناعات جانبا، وأن نقف احتراما لأحد السيناريوهات، ليس لأنه مشوق أو مكتوب بعناية أو متماسك الأوصال، فكلها صفات تنطبق بدرجات متفاوتة على وسائط أخرى كالرواية والمسرحية وحتى الحكي الشعبي، ولكن لأنه يمثل الصورة النموذجية للسيناريو السينمائي باعتباره جمالية من جماليات الفيلم، جمالية تستمد قوتها من كونها عنصرا سينمائيا بحتا، فربما لو رويت نفس الحكاية في رواية، لما كانت بهذا التأثير. وإذا حاولت اختيار صانع أفلام ينطبق الوصف السابق على سيناريوهات أفلامه، فلن أجد نموذجا أوضح من المخرج الإيراني أصغر فرهادي.
ميراث لم يعد مثيرا
فرهادي صنع أربعة أفلام طويلة متفاوتة المستوى والنجاح، قبل أن يقدم تحفته “انفصال نادر وسيمين”، الذي صار حديث العالم في 2011، وحصد عشرات الجوائز مختتما مسيرته بالحصول على أول جائزة أوسكار في تاريخ إيران، ثم تبعه في العام الحالي بفيلمه السادس “الماضي”، الممول من قبل فرنسا، والذي تدور أحداثه بها وبلغتها، ولكنه وبالرغم من الانتقال المكاني والثقافي، يظل منتميا بالكامل لعالم مخرجه الذي تبلور منذ فيلمه الرابع “عن إيلي”، ليأتي الانتقال لفرنسا كوسيلة للتخلص من عوائق تتعلق بشكل المجتمع الإيراني ونوعية الحكايات التي قد تحدث داخل سياقه.
والحقيقة أن تخلص فرهادي من هذه العوائق ليست أولى محاولته للتخلص من موروث يقيد حريته كمبدع، ولكن الخلاص الأهم في نظري هو تخلصه من ميراث السينما الإيرانية الحديثة، الكياروستامية إن جاز لنا التعبير، نسبة للمخرج الأشهر عباس كياروستامي، بكل ما فيها من انحياز للسيناريو المختزل، واللقطات فائقة الطول، والحديث عن المشاهدة التفاعلية التي يكمل فيها المشاهد الحكاية بإسقاط هواجسه وأفكاره عليها.
لست ضد النوعية السابقة من السرد، بل وأضع عددا لا بأس به من نفس النوعية في قائمة الأفلام التي أعتبرها من التحف السينمائية، ومازلت أعتبر أعمال سميح قبلان أوغلو ونوري بيلجي سيلان، وبعض أعمال كياروستامي وجعفر بناهي من تحف السينما الشعرية، ولكن أعترف بأن النوعية نفسها أخذت مع الوقت تصبح أقل إثارة وإمتاعا، خاصة مع اختلاط الحابل بالنابل، وتحول النموذج السابق لكاتالوج محفوظ لأفلام تقدرها بعض المهرجانات، ويدافع الكل عنها، بينما تجد نفسك تعجز كمتخصص ـ فما بالك بالمشاهد العادي؟ ـ عن التفاعل معها. فبعد أن استمتعت بمساحات الصمت كثيرا، وأسقطت هواجسي مرات ومرات، لم يعد لدي المزيد لأسقطه، وصرت بالفعل أحتاج لمشاهدة حدثا فيلميا!
لقطة من فيلم “إنفصال نادر وسيمين”
السرد الكياروستامي هو العلامة المميزة للسينما الإيرانية في العقدين الأخيرين، فأصبح من الطبيعي عندما تشاهد فيلما إيرانيا ـ طويلا أو قصيرا ـ أن تفترض انتماءه إلى نفس المدرسة إلى أن يثبت العكس. لذلك فإن أبرز إنجاز لأصغر فرهادي، وقبل خروجه من إيران ليصير أكثر حرية في أوروبا، هو أنه اتخذ قرارا بصناعة أفلام تعتمد على نموذج مغاير يكاد يقف على طرف النقيض من الموروث، نموذج الكلمة العليا فيه للسيناريو، الذي لا يكتفي فقط بتقديم حكاية واضحة المعالم، بل ويزيد على القوالب الكلاسيكية بإعلاء قيمة المشهد الواحد، كوحدة لا بد وأن تضيف في كل مرة للحكاية الرئيسية.
من موقف لموقف
يمكننا ببساطة تطبيق النموذج على فيلمي “انفصال نادر وسيمين” و”الماضي”، لنفهم سر التكنيك السردي المثير والعسير الذي ينتهجه أصغر فرهادي. فهناك دائما حدث صدامي، يقف على جانبيه شخصين قدم الفيلم في مشاهده الأولى ما يجعلك قادرا على معرفة دوافعهم في الصدام بشكل أولي، ثم تتوالى المشاهد الكاشفة لتغير موقف من الشخصيات تباعا، ففي كل مشهد تكتشف معلومة جديدة، تلقي لك الضوء على جانب لم تدركه من دوافع طرفي الصراع، فتتعاطف مع الطرف الأول وتتفهم شعوره بأنه على حق، ثم تنقلب الآية مع المشهد التالي والمعلومة الجديدة لتميل للطرف الثاني، وهكذا دواليك.
من مشهد لمشهد، ومن موقف لموقف، تنحاز تارة لنادر الذي فقد سيطرته على أعصابه عندما وجد والده مربوطا في السرير كالحيوانات يكاد يفقد حياته، ثم تميل لتصديق الخادمة التي تعاني من أجل القوت في ظروف اقتصادية سيئة، ثم تعود لصف نادر مجددا مع معلومة جديدة، قبل أن تلاحظ ابنته أمرا لم تنتبه له يجعلك تنظر له نظرة مغايرة تماما. الأمر يتكرر مجددا في “الماضي” شدا وجذبا بين المرأة الراغبة في الطلاق من زوجها للزواج من حبيبها الجديد، والزوج الذي يشعر بأنها تتعمد إهانته والانتقام منه، والإبنة الرافضة للزواج الجديد.
مع كل مشهد تكتشف الجديد، وتتكون لديك شحنة انفعالية في اتجاه ما، مع تكرار الأمر تتراكم الشحنات سلبا وإيجابا، يمينا ويسارا، حتى تصل في نهاية الفيلم لحالة من التصالح مع طرفي الصدام، تصالح تعجز فيه عن اتهام أحد بالخطأ، لأنك تعرف بالضرورة أنه شخص غيرك، وأنك لا تعرف عنه كل شيء، وإنه بالتأكيد يمتلك دوافعا، مثلما يمتلك خصمه دوافعه. حالة من التسامي تخلقها الديناميكية الدرامية، وتجعل من الفيلم موقفا إنسانيا معلنا بوضوح عنوانه: لا توجد مواقف واضحة!
لقطة ثانية من فيلم “إنفصال”
أدوات هذا الموقف
تحقيق الحالة السابقة بنجاح في فيلمي فرهادي الأخيرين احتاج منه لاختيار أدواته بوضوح، وأولها بالطبع السيناريو المبهر الذي يمكن اعتباره هنا أساس كل شيء. يليه في الأهمية التعامل شديد الوعي مع الممثلين، فعندما ترغب في سرد حكاية بها هذا الحراك المستمر في موقف المشاهد من الشخصيات، والمماثل بالمناسبة لموقف العالم من نفس الشخصيات، فعليك أن تختار الممثل القادر على نقل هذا الزخم الداخلي.
ممثل يمكنه أن يعبر في اللحظة الواحدة عن إشكالية (ما تعرفه الشخصية ويعرفه المشاهد / ما تعرفه الشخصية ولا يعرفه المشاهد / ما لا تعرفه الشخصية ولا يعرفه المشاهد)، أما الخيار الرابع وهو ما لا تعرفه الشخصية ويعرفه المشاهد، فهو خيار يكاد يكون غائبا عن الأفلام التي اختار صانعها أن ينأى بنفسه عن ألاعيب الإثارة الرخيصة، وأن يجعلنا نخوض المغامرة مع الشخصيات وليس ضدها، فدورنا أن نكتشف معهم لنكتشفهم، لا أن نعرف قبلهم فنحكم عليهم.
الأداة الثالثة هي السيطرة على الجو العام، اختيار لغياب الموسيقى بشكل كامل عن شريط الصوت، وعدم التقيد بزمن وبناء محدد للمشهد، فهناك مشاهد تدور في زمنها الواقعي، وأخرى مختزلة تعرض المعلومة وحسب، المعيار الوحيد هو نقل الجو العام المناسب لهذه اللحظة من الحكاية، عنيفا كان أو هادئا، مضطربا كان أو مشبعا.
كل ما سبق يجعل من أصغر فرهادي نموذجا لصانع سينما العصر الحديث، السينما الدؤوب في بحثها عن صيغ ومعادلات سردية جديدة، تتخلص من إرهاق الموروث الذي أخذ يفقد بريقه مع مرور السنوات وتراكم التجارب، وتطرح الإنسان كموضوع أساسي للفيلم السينمائي. وما السينما إلا تعبير عن الإنسان بتركيبه وزحمه وتناقضه؟