سينفيليا راديكالية: سبع ملاحظات حول مشاهدة الفيلم الصامت المرمّم
كتقديم: في ترميم وصف “الصامتة”
غالبا ما ننظر للتطوّر بناء على هذه القناعة التي تفسِّره كنوع من الحركية المنطقية المتَّجهة نحو التَّحصيل والكسب وبلوغ الكمال، والتي تحمل في خلفيتها هذه النظرة المشفقة على إحياء الماضي والأشياء التي كانت تسكنه، متمثلة إياها ككائنات تعاني النقصان والحرمان.
وارتباط السينما كفن بالصناعة والتقدم التكنولوجي يجعل من هذه القناعة المؤطر الرئيسي للنظرة الإنتقاصية التي يحملها الكثير عن سينما الفترة الصامتة. فمن داخل الوعي المترسِّب كليا أو جزئيا لهذه القناعة، والتي قد يحملها شعوريا أو دون ذلك، كلا الطرفين المتقابلين من منتجي ومستهلكي السينما، تتأسس أحكام القيمة التي جعلت توصيف “الصامتة” عبارة عن مظلة مفهومية لقاموس خصب من الدلالات التي تحوم في حيز النّقص والبدائية وعدم النُّضج. وهي دلالات ترسَّخت مع الزمن بحكم جهلنا المبرمج لهذه السينما، حين نتمثلها، داخل الحدود الشكلية لأحد أنواعها من جهة؛ وحين نترك طريقة تلقّيها تؤثت للمعيارية التي نحكم بها على قيمة منتوجها من جهة أخرى.
فالسينما الصامتة، في نظر ونظرة الأغلبية، هي هذه السينما الفكاهية التي أنتجت في النوع الكوميدي فقط، ونعرفها من خلال أفلام شارلي شابلن وباستر كيتن ولوريل وهاردي. وكون فيلموغرافية شارلي شابلن صمدت لهذه المدة، عبر الإقبال عليها الذي لم ينقطع بعد، فقد رُسِّخت هذه القناعة أكثر فأكثر وصارت عابرة للأجيال. إلى جانب هذه الإختزالية الحاذفة، تدخل طريقة عرض هذه السينما كعنصر رئيسي ساهم هو الآخر في بلورة النظرة الإنتقاصية لها وسكِّ التمثل المغلط والمغرض لكينونتها. فلفترة طويلة، كانت القيمة النوعية للسينما الصامتة هي المقابل النوعي لجودة العرض الذي نشاهده في القاعات والتي كانت، في جلها، تفتقر لمسلاطات مصممة لأربعة وعشرين لقطة في الثانية، عوض ستَّة عشر لقطة كما يتطلب الفيلم قبل دخول الصوت، وأحيانا كان يتم عرض الفيلم بشرائط مبعثرة النظام أو تنقصها بكرة، أومجردة من العناوين المصاحبة. كما أن مشاهدة هذه السينما عبر شاشة التلفاز حيث لا تنصاع صورتها للشكل الضوئي لهذا الأخير كان يجعل منها عبارة عن صور تتلاحق بطريقة مسرَّعة تسمها الضّبابية وكثرة البقع الصفراء. وكون الفيلم الصامت رهين بالمستوى البصري قلبا وقالبا، فقد كانت رداءة النسخة المعروضة هي المعيار الذي يُستعمل في الحكم على المستوى الفني للأصل.
من هذا المنطلق تصبح عملية Restorationالتي أصبحت، في سياق الفن السابع، مقترنة بالسينما الصامتة تتضمن كل المراحل والحالات التي تحيل إليها المفردات التي تدخل في حقل الكلمة السيمانتيكي مثل الترميم، والإستعادة والتجديد وكل ما من شأنه إرجاع القماشة البصرية للفيلم، وكنتيجة لذلك، بعث كل الأبعاد الفنية والجمالية التي كان يتضمنها في النسخة الأصلية. في هذه العملية، التي سنقتصر على الإشارة إليها في مقاربتنا باصطلاح الترميم – وبشكل من الإختزال الذي لا ينقصه بعض التعسف – تعود الحياة للفيلم الصامت، لتعود معها عملية مشاهدة السينما من داخل اعتبارات همِّها الأولي والأصلي، أي كفن بصري يبحث عن تميُّزه عن باقي الفنون الستة التي سبقته. حين نشاهد الفيلم الصامت المرمَّم، وبصوت مصاحب مُتفرِّد ومُفرَد، كمقطوعات مباشرة على البيانو، يشارك عازفها المشاهد في حضوره داخل قاعة العرض، حتما سندخل في طقس شفاء- تدليل آخر لكلمة Restoration– من هذه النظرة القاصرة للسينما الصامتة، وربما نعيد إحياء طقس المشاهدة السينمائية بالتركيز على السينما مباشرة وعدم التيه في حيثيات تضيِّع الفيلم وتبتعد به أكثر فأكثر عن كنه السينما الجمالي والتعبيري البصري.
لكن هذا لا يعني أن السينما الصامتة تستقل بالنموذج المثالي والمعياري الذي لا تشوبه شائبة في إنتاج الفن السابع. فمعايير الجودة التي تقيِّم العمل السينمائي، عبر كلِّ فترة من فترات تاريخ السينما، تنسحب كذلك على إنتاج السينما الصامتة حين نجد فيها الجيِّد والمتوسِّط والرديء. والسينما الصامتة ليست كذلك هذه السينما الصافية التي تقدّم الجانب الشكلاني وتعنى به دون أي حساب لمحتواها المضاميني الحكائي. فالفيلم الصامت كان كذلك فيلم الحكاية والسردية، والمجتمع والفرد، ولا ينقصه هذا البعد الإثنوغرافي أوالأنثروبولوجي الذي يجعل من السينما عينة تعبيرية تحفِّز على المقاربة من خلال المنظور الاستقرائي لمباحث الدراسات الثقافية عموما، وليس فقط الإطار المحصور للنظرية الفنية. غير أن هذه الإعتبارات في كليتها أو في جزء منها، لا تطفو إلى السطح لتطغى وتسيطر على مقصودية استبصار ولمس البعد الجمالي والفني بالدرجة الأولى، والتي تشكّل الحافز الأولي وراء إقبال أغلب مشاهدي الألفية الثالثة على الفيلم الصامت حين يظهر من جديد في نسخة مرمّمة. فعودة السينما الصامتة في الآونة الأخيرة للشاشات المتعددة والمتنوعة عبر المجهودات الترميمية، تعني كذلك عودة الاهتمام الصرف بالسينما في تجلياتها التعبيرية والإستطيقية والذي يضع جانبا المادة المضامينية للفيلم. وهو النوع من المشاهدة الذي لا يتحقق إلا في حالات ما يمكن أن نصطلح عليه بالسينفيلية الراديكالية، حيث لا يساوم عاشق السينما في حقِّه الضّمني في العثور على صورة سينمائية صرفة.
من الصعب على عاشق السينما اليوم أن يشاهد الفيلم الصامت المرمّم دون أن يندمج في طقس من التعالقات المشهدية التي تتحاور فيها سينما الأمس مع سينما اليوم، أو دون أن تكون مشاهدته نوعا من الحوار الداخلي المفتوح بين الآراء والمواقف التي تحوم حول الخطاب النظري الذي تناول الفنِّية artistryالسينماتوغرافية عموما. مشاهدة السينما الصامتة اليوم هي من ثم إنخراط في نوع من المشاهدة المقارنة التي تعادل في فعلها ونتائجها ما يتحقق في القراءة المقارنة داخل سياق الحقل الأدبي.
في هذه المشاهدة لا يُسلِّط إنجاز الماضي السينمائي صورته في شاشة الحاضر، بل يقترح نفسه كخلفية مرجعية يمكن المعاينة على ضوءها، وبالمعنى الحرفي للعبارة، ما يسكن في هذه الشاشة من سينما الحاضر، مقدِّما بالتالي محكّات إضافية يمكن القياس من خلالها إنجاز هذه الأخيرة. في تجربة هذه المشاهدة التناصية، والتي يمكن أن نقول أنها بقيت اليوم الأثر الوحيد الذي يمكن أن نقتفي فيه الطريق نحو العشق الخالص للسينما وسط عباب الهرج الإعلامي الذي أصبح يُحسب على السينفيليا، نقدم الملاحظات السبع التالية.
(1) المشاهدة كمقارنة
في المشاهدة المقارنة للفيلم الصامت المرمَّم قد نعثر في سينما الأمس على مفتاح العبقرية الخارقة لبعض الإبداعات الحاصلة والمحصلَّة التي تتميَّز بها سينما اليوم. قد نصفّق أكثر للممثل ليوناردو دي كابريو عن الأوسكار الذي منحته إياه الأكاديمية الأمريكية، لا عن الأداء المنفرد لدوره في فيلم “العائد” The Revenant، داخل ظروف طبيعية لا تصفها كلمة القاسية بإنصاف، بل لكون هذا الأداء اعتمد على ملامح الوجه وحركة العينين وإمالات الرأس، وتفعَّل في شروط صمت وجمدة فرضتهما ظروف الإعاقة الجسدية التي تعاني منها الشخصية في حكاية الفيلم ووجد مرجعيته في السينما الصامتة. هذا الأداء جعل من ليوناردو دي كابريو ممثلا عابرا للزمن نقلنا ببراعته وحرفيته إلى فترة بدايات السينما حيث كانت التعبيرية الكوريوغرافية محور التعبيرية السينماتوغرافية، وكانت الصورة السينمائية، بناء على ذلك، تغني عن ألف كلمة حوارية. في السينما الصامتة قد نعثر كذلك على شخصيات بول توماس أندرسون المعروضة أمام كاميرا تابثة، من زوايا جانبية وعبر تصاميم تنتمي للمدرسة التعبيرية، تبديها وكأنها ترغب في الخروج من الإطار؛ نعثر عليها كأشباح سينمائية، بحياة أخرى داخل زمنية سبقت زمنيتها بما يزيد عن مائة سنة.
في مشاهدة السينما الصامتة اليوم، نؤثت كذلك لوعي سينمائي محض، يدمجنا في جمالية هذه الصورة التي تميز سينما بيلا تار وثيو أنجيلوبولوس أو نوري بيلج جيلان، على سبيل المثال لا الحصر، وتقول ما تقول بمنطق صمتها الفصيح. في هذه المشاهدة المقارنة التي تتفعَّل عبر الذاكرة السينمائية، نعثر كذلك على سند هذه التعبيرية والجمالية الغنية لأسلوبية راهن عليها مخرجون معاصرون، يَشغرُ البياض مساحة كبيرة في سيناريو أفلامهم الأدبي، وتتمركز الأنساق التواصلية لديهم على سينماتوغرافيا تُخرج الكلمة الحوارية من أفقها التدليلي، وتعتني بالإمكانيات الإيحائية للمشهد، أوالتعبير الجسدي، أوالفضاء الترميزي للوجه كحيز زمكاني مصغَّر أو الفضاء الطبيعي، كأليغورية وجودية تسمو بالعين من أداة للمشاهدة إلى أداة للتأمل. في فضاء ليف كوليتشيف الخارجي والطبيعي نجد حيز الإشراقة الصوفية الذي يشدنا بصمته وسكون كائناته في أفلام أندري تاركوفسكي. وفي نظرة بطلة فيلم الشروق (1927) لفرديرك ولهيلم مورنو نعثر على الطاقة الحوارية التي تحملها نظرة بطلات الأخوين جون بيير وليك دردين.
(2) الصمت الفيملي: بين الفنان والقبيلة
المشاهدة المقارنة التي تمنحها السينما الصامتة قد تكون عملية واعية ومباشرة تشترطها بعض الأعمال السينمائية، وبالخصوص منها هته التي تفصح عن حضور السينما الصامتة كموضوع يُعالج بشكل قصدي ومباشر في المستوى المضاميني للفيلم. في هذا السياق يبرز فيلم “الفنان” The Artist(2011) للمخرج ميشيل هازانفيشيوس.
في هذا الفيلم ترتبط كل من المادة الحكائية وابعادها التيماتية، كما قماشته السينماتوغرافية، بعوالم الفيلم الصامت قلبا وقالبا. فيلم الفنان يتناول هذه الفترة الإنتقالية الحساسة والإشكالية جداًّ بين مرحلة السينما الصامتة والسينما كما نعرفها ونستهلكها اليوم. بأسلوب ينحاز إلى السخرية، لا تنقصها جرعة كافية من التهكم، عالج المخرج تيمة الكلام المنطوق في السينما عبر نسق تعبيري ينتمي للسينما الصامتة. طريقة أداء الممثلين الرئيسيين، جون دي جردان وبيرنيس بيجو، لأدوار تتمحور حول شخصيتين تدافع الأولى فيها عن سينما الصمت وتناصر فيها الثانية سينما الكلام، كانت نوعا من التَّفعيل المقصود للسِّجل الأدائي والتمثيلي الخاص بالسينما الصامتة. أداء استطاع به المخرج أن يوصل رسالته دون الحاجة للبيان المنطوق عبر الحوار المسموع.
نجح فيلم “الفنان” في إعادة تقييم إنجازات الفن السابع إبّان فترة تطوير إمكانياته التعبيرية، وحين حقَّق نتائج خارقة تجاه إثبات ذاته كفن يتمتَّع بخصوصيته الجمالية. وهو يبرز مظاهر هذا الإنجاز، كان الفيلم يكشف كذلك على أوجه إخفاقات سينما سيناريو الحوار الناطق، ليترك مشاهده يميل باستنتاجاته نحو فكرة محددة وهي قدرة السينما على السرد والحكاية دون حاجة منها لسيناريو يحمل بصمة الكلمة المسرحية أو الأدبية. بهذا الإستنتاج، قد يعيد المشاهد النظر في النمط الحكائي السينمائي الذي سرَّع بسقوط السينما في ابتذال المحاكاة المجانية الواقعية ذات الطابع الروائي الأدبي، والذي كانت إوالية “المنطوق” حصان طروادتها الأول.
من فيلم “القبيلة”
حضور السينما الصامتة المباشر في فيلم “الفنان”، بشكل علني وصريح في أهدافه ومقصوديته ومستسهل على مستوى استراتيجية الفيلم التواصلية، يوازيه هذا الحضور المستبطن والمتطلِّب لحساسية سينفيلية كالذي تحققه مشاهدة فيلم القبيلة The Tribe (2014) للمخرج الأوكراني ميروسلاف سلابوسبيتسكي. تدور قصة هذا الفيلم حول المتجمع المصغر لشريحة شبابية من الصم البكم، أدَّى أدوارها ممثلون ينتمون لهذه الفئة من ذوي الاحتياجات الخاصة التي تنتمي لها شخصيات الفيلم. في معالجة هذه القصة، اعتمد المخرج على سيناريو بُنيت جمله الحوارية وبشكل مطلق، على لغة الإشارات Sign Language، وبإلغاء مقصود، ومعلن عنه مباشرة في عتبة الفيلم، لأي عنصر سينماتوغرافي مساعد كالصوت المعلق أو العناوين التوضيحية.
بمعطياته الغنية والمتفرّدة، وهذه الدرجة العالية من المتعة التي يخلقها، يحوِّل فيلم القبيلة المشاهد العادي إلى مشاهد مشرَّط codified ينتمي لهذه الشريحة التي تعشق السينما وتقبل على مشاهدة متنها الصامت كلما أتيحت لها الفرصة. وهي هذه الشريحة من الجمهور التي رغم شروط وإرهاصات استهلاك الصورة في الألفية الثانية، لا زالت تجد نشوة ومتعة في حالة الجمود في مقعد داخلة قاعة مظلمة، ولمدة تزيد على ساعتين لتشاهد فيلما صامتا. أما السينفيلي فقد يجد في هذا الفيلم مرافعة قوية، سواء في المعنى الإصطلاحي القانوني الدقيق للكلمة، أو في استقراءها المجازي الواسع داخل السجال النظري المحيط بسياق السينما الصامتة. في هذه النقطة يقترح فيلم القبيلة ذاته كمرافعة، وبنتائج إيجابية مضمونة، ضد سينما الثرثرة السيناريستية التي أجهضت الطاقة الجمالية والتعبيرية للسينما، وجرّاء ذلك، انحازت بهذا الفن من حيز الصورة وشموليتها التواصلية، إلى حيز الكلمة وإطارها التدوالي المحصور في أفق المركزية اللفظية للثقافة المشتركة بين المرسل والمتلقي. وبحكم هذا الإنحياز، وهنا تكمن طاقة الفيلم كمرافعة قانونية حقوقية، يضعنا الفيلم في حالة تماهي مباشرة مع الضحية الأولى التي أُلغيت من أفق السينما التّفاعلي، حين صار متمحورا حول المنطوق والكلمة، وهو هذه الفئة من ذوي الإحتياجات الخاصة التي تفتقد قدرة السمع والكلام.
يخضع مشاهد فيلم القبيلة لحالة التماهي المشروط مع شخصيات الفيلم من ذوي الإحتياجات الخاصة بناء على دورها وتموقعها الدرامي. وحين يفتقد هذا المشاهد لقدرة التواصل المشروطة بمعرفة ابجدية لغة الإشارات ينخرط رغما عنه في عملية تبادل للمواقع تجعله يعاين – ويعاني كذلك – ما تعانيه هذه الفئة من إقصاء حين يتعلق الأمر باستهلاك الإنتاج السينمائي. من نفس المنطلق، قد تجعله حالة التماهي هذه يخلص لرؤية أكثر تقدمية تتعلق بالنظرية الفنية والتداعيات الإنسانية لهذه الأخيرة. ففنّ السينماتوغراف قد يشكّل مجال فضاء مشترك بالمعنى الهيبرماسي يشمل في طريقة استهلاكه والمتعة التي يخلقها هذه الشريحة الإجتماعية أمامه في الشاشة لو راهن الفاعلون فيه على الصيّغ التعبيرية التي تطورت في الفترة الصامتة.
عنوان فيلم القبيلة الفرعي، “الحب والكراهية لا يحتاجان لترجمة”، قد يرجع بالسينفيلي إلى التخمين في متن سينمائي غني، يمتد من دفيد وورك غرفيت وجون رونوار إلى تشارلي شابلين وجيليان دي فيفيي وياشيروأوزو في مرحلة من مراحل إبداعه، تناولت فيه سينما الأمس بالطرح والمعالجة كل قضية إنسانية تحتاج فيها سينما اليوم إلى دعم كلمة الشارع أو الجملة الأدبية. هذه العتبة الفرعية قد يحملها المشاهد السنيفيلي كذلك على معنى الشعار الحقوقي المناصر للسينما الصامتة من جهة، ولحق ذوي الاحتياجات الخاصة من الصم البكم في سينماهم الخاصة بعد أن أزاحتهم السينما العامة للهامش بتمركزها اللا مشروط حول اللفظ والحوار المنطوق.
فيلم القبيلة يحقق الفرجة التي يطمح لتحقيقها كل مخرج سينمائي همّه الأول هو السينما، أي خلق فيلم تتمُّ مشاهدته من داخل الوعي السينمائي بالدرجة الأولى، فهو فيلم للسينفيلي الذي تطبَّع بالمتن الصامت بالدرجة الأولى. أما بخصوص هذا السينفيلي من نوع خاص، أي الذي يحترف السينما في إحدى مراحل الإنتاج، فإن هذا الفيلم يشكّل فرصة لمراجعة المهارات المهنية الإنتاجية في السينما، والتفكير أكثر جدية بهذه التقنية الخاصة بالكتابة السيناريستية والتي تتطلب التفكير بالصورة بمنطق الصورة أي ما هو معروف ب ideation The. فموضوع الحب في الفيلم بين البطل المضاد ومعشوقته تأثت على عناصر سينماتوغرافية محضة كانت كفيلة، وكافية، لتفعيل هذه التيمة وتخصيبها كذلك بالبعد الشاعري المناسب. وحين يكون هذا المشتغل في السينما ممثلا فستكون مشاهدته للفيلم قاصرة إن لم تقترح عليه إعادة التأمل في كراسات ستانيسلافسكي أو محاضرات آن بوغارت في الإخراج وترشيد الممثل السينمائي، وقراءتها على ضوء سينما “صامتة” تعتمد “الحركة” و”المشهد” والكوريوغرافيا في نسقها التعبيري. فكاستينغ القبيلة أعطى لمفاهيم في نظرية التشخيص كالذاكرة الإنفعالية، والإيماء، ولغة الجسد، تعريفات وتفعيلات مختلفة ومغايرة تماما للتي جرت في الفهم والتداول.
بالنسبة للسينفيلي الثاني، أي هذا الذي يحترف السينما بإنتاج الخطاب الكتابي الموازي لإنتاجها الأولي، فمشاهدة فيلم القبيلة قد تكون طريقة لإقناعه بالتخلي هذه الأحكام النقدية الجاهزة والمبتذلة من قبيل “سيناريو ضعيف ومفكك”، أو”حوار يتنافى مع طبيعة الشخصية”، أو “دور تنقصه المصداقية نظرا لطريقة كلام الشخصية”، أحكام في عمومها تتجه بالسينما نحو المسرح المصور وتختزلها في الحبكة الأدبية، وبالتالي تعتِّم على الكثير من الأبعاد الشكلانية التي تتمتع بها القماشة السينماتوغرافية للفيلم. كما قد تكون فرصة يسترجع من خلالها ذاكرة النقد السينمائي حين كان لا يقاوم مغناطيسية الممثل بالدرجة الأولى، وكان هذا الأخير هو العنصر المستبدّ بالمقاربة السينمائية؛ أي قبل الكتابة عن السينما تحت تأثير سياسة المؤلف ومجلة الدفاتر السينمائية. فمن الصعب التجرّد من الإنجذاب نحو الممثل أثناء مشاهدة عمل متفرّد ومستقل بجماليته كفيلم القبيلة تلتهمك فيه الشخصيات بشكل كانيبالي، ناتج عن الأداء المتميّز والإستثنائي لممثيلن كغريغوري فيسينكو Grigoriy Fesenko ويانا نوفيكوفا Yana Novikova . وخاصية النقد المتمحور حول الممثل ترتبط هي الأخرى بفترة السينما الصامتة.
من فيلم “البحث عن الذهب” لشابلن
(3) الذاكرة والتقنية
مشاهدة السينما الصامتة المرمّمة تمنح كذلك هذا التمرين المعرفي الذي يجمع بين السينما والميتاسينما. أي بين السينما كمادة للاستهلاك والسينما كحقل للتأمل. فهي هذا الدرس الفيلولوجي، إن جاز الإقتراض من حقل اللغة، بالنسبة لمشاهد الألفية الجديدة، والذي أصبح يستهلك سينما تنهل من كل الحقول المعرفية والفنية، لتصير هذا النسيج التعبيري الذي يعبّر عنه الإصطلاح الجديد cinematrix(ريتشارد بورتون وروبيرت ستام. 2015)، وعبر كل الوسائط المتنوعة في الحجم وفي تقنيات وطرق خلق التفاعل والتجاوب مع المشاهد. من سينما القصة الكلاسيكية إلى سينما الفيديو كليب، ومن شاشة الأيماكس إلى الشاشة التي تسع الجيب، ومن نمط الأبعاد الثلاثة 3D الى نمط البعد الرابع 4D، ومن هذا الأخير إلى النمط الذي يجمع البعد الرابع والواقع الإفتراضي جنبا إلى جنب VR4D، أصبحت المشاهدة السينمائية تتجاوز الحكاية والقماشة الشكلية إلى هذه التجربة التي ترمي بالمشاهد، مجازا وتقريرا في فضاء العوالم المحيطة بالفيلم ليعيشها عبر انفعاله النفسي والجسدي معا. في الفيلم الصامت المرمّم قد يعثر المشاهد على رحم هذه السينما الشمولية كما يعثر على جنينية هذا الطموح في تحقيق التّفاعل المباشر مع المشاهد، وبمحفِّزاته الإنفعالية كذلك. تقنيات أوّلية كتنويع أحجام التصاميم وتغيير مواقع الكاميرا الثابتة، كانت لها وقع على حساسية وعصبية المشاهد، قبل أن تأخذ الثورة التكنولوجية هذا الوقع إلى أبعد حدوده المرسومة في جسد و”انفعال” هذا الأخير.
من منطلق التقدم التكنولوجي وثورة المعلوماتيات، وفي واقع يخلق فيه كل مشاهد محتمل سينماه يوميا عبر كاميرا الهاتف الذكي، تقدم مشاهدة فيلم صامت مرمَّم فرصة معاينة مرحلة تكوين أبجدية الصورة المتحركة، من تصاميم وإطارات ومونطاج داخلي وخارجي وتنويعات الروابط بين اللقطات، حين كانت هذه الاختيارات المرفولوجية تنمُّ عن موقف إبداعي وتكشف عن الخلفية الإستطيقية للمخرج، إن لم تعرِّي على الإيديولوجية التي تحرِّكه كمبدع، قبل أن تصبح مستبطنة ومستهلكة، لكي لا نقول مبتذلة في الاستعمال اليومي المتكرر، ومفروغة من كل خلفيات الوعي التي ذكرنا.
الفيلم الصامت المرمَّم من ثمَّ يشكِّل ذاكرة أيقونولوجية بالمعنى المزدوج لهذه العملية الذهنية. فهو يحمل صورة عن الماضي، في مادة مضمونه، وفي نفس الآن يمنح صورة عن الأداة التي كانت تُستعمل في الماضي لإنتاج هذه الصورة. بالتالي يمكن مقاربة السينما الصامتة المرمّمة في تاريخانية المشاهدة الآنية كنموذج آخر لحامل الذاكرة الغير المباشر، إذ بنقلها للماضي تنقل كذلك فكرة عن “طريقة النظرة” في هذا الماضي، لتصير هذه السينما عيّنة أخرى في النسق الذاكراتي التقني memotechnical system الذي تناوله المفكر الفرنسي برنارد ستايغلير Bernard Stiegler في كرّاساته الثلاث حول التقنية والزمن وكان الجزء الثالث منها يعنى بالسينما (La technique et le temps, tome 3. 2001– اعتمدنا الترجمة الإنجليزية لهذا الكتاب).
تقنية الأبعاد الثلاثية 3D وكيف تجاوزت المشاهدة الحكاية الشكلية
بناء على هذا لن نجد صدفة أن تكون متاحف الفنون الجميلة هي الحيز الأنسب لمشاهدة الأفلام الصامتة مباشرة بعد العثور على “أشلائها”، وإعادة ترميمها، واسترجاعها من غياهب النسيان والإندثار، إلى عالم الشهادة والمشاهدة. داخل جو القداسة الفنّية الذي يميِّز حيِّز متاحف الفنون الجميلة تكتسب هذه الأفلام المرمَّمة حياة جديدة مثل ما تكتسبه لوحة لدافينتشي أو تمثال من عصر مصر الفرعونية. في هذا الشّرط الزمكاني الذي يمنحه المتحف يحظى الفيلم الصّامت المرمَّم والمستعاد بنفس الإهتمام الذي تحظى به أي مادة خرجت للوجود كنتيجة لمجهود أركيولوجي، بالمعنى الحَرْفي والحِرَفي لهذه الكلمة، وكذلك بمعناها داخل القامو الإبستيمولوجي المقترن بفكر ميشيل فوكو.
فمن الجانب الأول يشكل الفيلم الصامت المرمّم عملية بلينتولوجية paleontologis من نوع خاص. فهو إلى جانب نمط إخراجه الأول المقرون بظرفيته الزمنية، إخراج من الدرجة الثانية يتدخل فيه مخرجون سينمائيون ومختصّون في تاريخ السينما وتاريخ الفنون عامة، وكميائيون وتقنيون من عدة اختصاصات، قد يكون بعضها لا علاقة له بالسينما، بغرض حفظ “الإخراج” الأول الأصلي وإعادة إنتاجه مع تفادي الحد الأدنى من الخسارة. كنتيجة لهذه المهمة الحفرية بالمعنى الأركيولوجي، يمنح الفيلم الصامت المرمَّم كصورة “تصورا” فنيا وإبداعيا نستنطق عبر سياقاته واقعا سوسيوثقافيا، يمنحنا، كحفرية أركيولوجية في اصطلاح الفيلسوف الفرنسي، فرصة للعبور نحو هذه المرحلة التاريخية التي بدأت فيها الحداثة تعلن عن وصولها للحدود التي جعلتها تبحث عن شقوق تتسلّل منها لتمثلات أخرى تحمل علاماتها اليوم في بادئة “ما بعد”.
وكما كل مبحث معرفي من هذا النسق، قد نخلص من مشاهدة الفيلم الصامت المرمَّم إلى طرح إشكالية تفتح موضوع الحداثة نحو آفاق تأملية أخرى متعددة وسجالية بتعدّد وجهات النظر تجاهها. فأول سؤال يمكن أن يطرح نفسه، يخصّ استفهام هذا التاريخ، الذي يحفظ ذاكرته عبر الفيلم الصامت، عن حقيقة ضياع واختفاء سبعين في المائة من المنتوج السينمائي الذي ينتمي للفترة الصامتة، وهل هذا الضياع يرجع لعبثية الزمن أم لقصدية اليد البشرية؟ وقد يجد هذا السؤال ما يشرعنه في كون غياب هذا الكم الهائل من المنتوج السينمائي يعني كذلك إلغاء ذاكرة جنينية لتكوين تعبيرية expressivity جديدة تحمل في ثناياها طريقة تفكير جديد قد يقوِّض بنيان الإرث الحضاري الإنساني، المكرَّس والمتكلِّس، مع الكلمة والمتمحور على مركزية اللَّفظ، وبكل تداعيات هذا التمركز فكريا وأيديولوجيا والذي تناوله ميشيل فوكو حين تشريحه لمعادلة جدلية السلطة والمعرفة. فإعلان السينما كفن “جماهيري”، هذا الشعار المرتبط هو الآخر بفترة السينما الصامتة، كان في جوهره رد فعل تجاه الفنون “الإنتقائية”، خصوصا المسرح، التي تختار جهمورها طبقا لإملاءات الإنتماء الطبقي، وتنحصر في الدوائر المؤهلة بالقدرة على إنتاج واستهلاك المعرفة المحيطة بالكلمة، وتتمتع بحيز من السلطة الناتجة عن ذلك، والتي تحدّد، بناء على ذلك، مقاصد وصيغ هذه الفنون لكي تنصب في خدمة مصالحها والحفاظ على قيمها البرجوازية.
بالتالي لا يمكن استبعاد الفرضية التي تقرن ضياع واختفاء سبعين في المائة من المنتوج السينمائي الذي ينتمي للفترة الصامتة، بهدر فرصة لاستحضار مجهود وسائطي لغوي لهذه العملية الجذرية التي تكمن في خلق وتنسيق لغة تجريدية وتعميمية كانت قطعا ستصوّغ وتسوّغ القيم الإنسانية والعلاقات الناتجة عنها بشكل مختلف عن الذي نتمثلها به اليوم. نطق السينما يعني فيما يعني سقوطها كذلك في شرك التجنيد الذي جعل منها صدى لبرامج أيديولوجية أنتجتها الكلمة وترسانتها الخطابية الأيديولوجية.
(4) النظرية والمواقف
مشاهدة فيلم ينتمي لأوائل فترة السينما الصامتة، حيث كان تسمى السينما وكفى، هي مشاهدة الفن السابع من منطلق الطاقة وليس من منطلق الفعل. هكذا يتمثل المجتمع السنيفيلي هذه السينما حين يقبل أفراده بنفس النَّهم والفضول اللذان يحرِّكان مشاهد اليوم العادي أمام المنتوج الهوليودي الذي صار في أغلبه مجرَّد توليف يكررُّ نفسه لتيمات مستهلكة، وبوفرة لافتة للنظر على مستوى الإثارة البصرية. فانبعاث كل فيلم صامت بفضل المجهودات الجبارة للمؤسسات والجمعيات المهتمة بالفن السابع، أوالفنون عموما، هو باعث على الإكتشاف لما هو سينمائي فنّي محض. فما يحرّك الإقبال على الفيلم الصامت المرمّم كمادة بصرية هودافع استكشاف أوجه التنويعات التعبيرية والصياغات الجمالية المحصّلة فيه بغض النظر عن محتواه المضاميني. فمشاهدة الفيلم الصامت المرمّم توجّهها نية التأمل لكيفية معالجة مضمون فيلمي عوض الإستسلام الفاتر للحبكة التي يحملها. إنه اهتمام بالتعبير السينمائي على حساب القصة التي تشتركها السينما مع فنون أخرى. وهذا هو النوع من التّلقي الميثالي للسينما، والذي قطعا قد نتمرس عليه ونمارسه بمشاهدة المتن الفيلمي الصامت المرمّم، وهوالذي يتوخاه كل مؤلف سينمائي من جمهوره.
من فيلم “شيرلوك الصغير” لبستر كيتون
لكن هذه الحساسية الإستطيقية المحضة قد تختلف في الدرجة وطريقة التفعيل من جيل سينفيلي لآخر. فالجيل الذي تطور لديه الهمّ السينمائي عبر مشاهدات تشارلي تشابلين وباستر كيتن ودفيد ورك غرفيت، مع قراءات، وإن كانت متواضعة، لمتن سيرغي إزنشتاين في النظرية الفيلمية، تختلف أولوياته المعرفية من وراء مشاهدة هيتشكوك أو ياشيرو أوزو في الفترة الصامتة، عن جيل لم تعد الشاشة الكبرى تمثل لديه سوى مجرَّد “حامل آخر” من حوامل السينما، وغالبا ما تؤرخ بداية السينما لديه مع كوينتن تارانتينو كما ما سبق وعلَّق في ذات حوار المخرج النمساوي ميشيل هانيكي.
مشاهدة السينفيلي للفيلم الصامت المرمَّم عملية تحليلية بالدرجة الأولى لأنها تدخل التراكم الذي حصلته السينما كمّاً وكيفا في “عين” الإعتبار. فهي مشاهدة مزدوجة عبر الذاكرة التناصية تنظر جدليا لمتن الماضي في متن الحاضر والعكس بالعكس. في هذه العملية يتحقَّق للسينما درسها الفيلولوجي، كما أشرنا أعلاه، حيث يقف السينفيلي من خلالها على دقائق تطور اللغة وطرائق القول السينمائيين بين الماضي والحاضر، وأوجه الثبات والتحوُّل في هذا التطور، ومن خلال جسم تطبيقي ملموس يضيء عتمات التجريد في المتون التنظرية المحيطة بالسينما، وبالأخص تلك التي كانت تدور في فلك السجال بين المناصرين والمعارضين للحوار المنطوق.
أثناء مشاهدة الفيلم الصامت المرمّم يجد السينفيلي المشفَّر نفسه، وبغض النظر عن رغبته أو عزوفه عن ذلك، متخندقا في جبهة المدافعين عن الفيلم الصامت كالمنظر رودولف أرنهايم، ليستنتج بطريقته الخاصة كيف كان المخرجون السينمائيون، وداخل حدود الإمكانيات المتاحة لهم، منخرطين في إيجاد صيغة أسلوبية صافية للفيلم الصامت تحوِّله، من مجرد هذا العرض الفرجوي للصور المتحركة، إلى فن قائم بذاته. بالتالي كان دخول الصوت بمثابة إجهاض مبكر لعديد من الإنجازات التي حققها الفنان السينمائي على المستوى الشكلي، وعلى حساب غرض غير فني كلية، كطلب أكبر قدر ممكن من “الطبيعية” وبكل معاني السذاجة التي تحملها هذه الكلمة في سياق الفن للفن. كما قد يجد هذا السينفيلي نفسه في الجبهة المعاكسة كمدافع عن الحوار المنطوق. فدخول الحوار المنطوق أثرى السينما بحواراتها الخالدة، وبجمالية صورها السمعية، لا بما نفهمه من وراء هذا التركيب الإصطلاحي في اللسانيات، ولكن لما نشعره في طريقة كلام شخصيات روبير بروسون أو ستانلي كوبيرك، أو هذه الدعيمة التطبيقية في الشريط الصوتي التي بنى عليها جون بولتون آراءه حول تقنية وجمالية الصوت الفيلمي (1985).
هذا التخندق لا يعني استبعاد موقف وسط يحفظ للسينما خصوصيتها الجمالية والتعبيرية كحل التوليف الطباقي counterpointبين الصورة والصوت الذي ارتآه سيرغي إزنشتاين وعالج أبعاده في النظرية والممارسة. وبغض النظر عن الموقف والموقع، قد يخلص هذا المشاهد السينفيلي المشفَّر، وبطريقته الخاصة وفي حدود معرفته، لما توصَّل إليه المفكر إيروين أنوفسكي بقوة وعمق تحليله، ومكانته في دوائر النظرية الثقافية والفنية، حين استنتج أن العلامة التي تدل على الربح أوالإضافة في مجال الفن عموما، وفي السينما بالخصوص، هي المؤشر نفسه على خسارة ونقصان ما. فمجاهدة السينما نحو تحقيق الإكتمال الإستيطيقي ، حسب تصور ما، كانت في نفس الآن عملية للتخلص مما تراكم كميا ونوعيا في حصيلة هذا الأخير (Style and Medium in the Motion Pictures).
(5) مخرج الصورة ومخرج الكلمة
وفقا لما أشرنا أعلاه، قد نجد الشريحة السينفيلية الأكثر اهتماما بالفيلم الصامت المرمّم، هذه الفئة النخبوية من منتجي الصورة السينمائية. فتحت تأثير نظري أوآخر، تنظر هذه الفئة لهذا المتن الفيلمي كتمثل لفن في بداية البحث عن خصوصيته وتطوير لغويته وأدواته التعبيرية، وقد تجد فيه ظالتها في تلقن مبادئ الكتابة بالضوء وصقل الأسلوب الخاص في التعبير بالصورة والتوليف والإنارة والتلوين، أي صناعة السينما من منطلق التفاعل بين عين الكاميرا والواقع العيني دون الحاجة إلى وسيط بينهما. إنها الفئة التي استبطنت ووعت جيِّدا نصيحة ألفريد هيتشكوك حين أقرَّ بأن السبيل الوحيد نحو إتقان هندسة الإخراج يبدأ بمشاهدة الفيلم الصامت.
درجة الإهتمام بالفيلم الصامت المرمَّم تأخذ شكل خط تنازلي حسب شخصية كل مخرج، وقد تكون المؤشر الدّال على مدى حرفية هذا الأخير ووضوح الرؤية التي يحملها في مشروعه الإخراجي. فالمخرج السينماتوغرافي، طبقا لما يعنيه الاصطلاح في قاموس المؤلف السينمائي الفرنسي روبير بروسون، لا يكلُّ ولا يملُّ من معاودة زيارة المتن السينمائي الصامت باحثا في ثناياه عن أسرار حرفة صناعة الصورة وبديع اللغة السينمائية. مخرج من هذه الفئة قد ينخرط هو نفسه في مشاريع الترميم وإعادة الحياة للكثير من هذا المتن كما أتبثت التجربة والممارسة، والتي يتجلّى فيه الإسم البارز مارتن سكورسيزي الذي لم يساهم في ترميم واسترجاع سينما الماضي فقط، بل كتب مقدمات لمؤلفات نقدية تعنى بالسينما الصامتة.
مقابل المخرج السينماتوغرافي، نجد مخرج “المسرح المصور”، حسب استعمال التوصيف في كتابة رائد النحويين والسيميائيين الفرنسي كريستيان ميتز، في أسفل سلم درجة الإهتمام بالفيلم الصامت المرمّم. فبشكل وصيغ تختلف تماما عن تجربة إدماج المسرح في السينما كما نعرفها مع مؤلفين سينمائيين من طينة ألان روني وجون كاسافتيس على سبيل المثال لا الحصر، يبني مخرج المسرح المصور هيكل تواصله الفيلمي على الكلمة ويستثمر في الحوار أكثر من الصورة ولغويّتها. وقد يبدي هذا المخرج اهتماما بالمتن السينمائي الصامت المرمّم، وطبعا لن تغيب مناسبة حوارية لا يردّد فيها عناوين وأسماء تنتمي لهذا المتن، ولكن جرده لعناوين إنمار بيرغمان البدايات أوكارل ثيودور دريير غالبا ما تظل مجرَّد ادعاء ثقافي سينفيلي سرعان ما تفضحه الهشاشة النوعية لأفلامه التي “تقول” لجمهورها أكثر مما “تُريه”.
من فيلم “نابليون” لأبيل غانس
(6) كاتب السينما
مقابل الفئة المنتجة من مخرجين وكتاب السيناريو وموضِّبين، نجد كذلك الفئة المشتغلة في الصناعة السينمائية الثالثة، كما كان جون ليك غودارد يصطلح على كتاب السينما من نقّاد ومعلّقين ودارسين. لدى هذه الفئة نجد طبيعة الهمِّ الثقافي السينمائي الذي تحمله، كما القاعدة النظرية والرؤية النقدية التي تنطلق منها، هما المتحكمين في نوعية مقاربة الخطاب الوصفي الذي تُنتجه حول الفيلم الصامت المرمَّم. فمن هذه الفئة من يحيل نعت “الفيلم الصامت” لديه على كل ما يتضمنه الحقل السيمانتيكي من جمالية وإستطيقا راكمها الفن الوحيد الذي شهدت الإنسانية تاريخ ولادته، حين كان منخرطا في البحث الجوهري essencialistعن خصوصيته وتفرّده، وانطلاقا من هاجس الإبتعاد ما أمكن عن ما حصلته وراكمته الفنون الستة التي سبقته، سواء في طريقة التفاعل مع الواقع كمادة، أو في طريقة تعبيره عن هذا الواقع كصورة.
فالناقد الذي يقدم السينما على الحكاية، أو الحدوثة الإجتماعية في الفيلم، يجد في الفيلم الصامت المرمّم ما يبرّر مواقفه ويعزّز قناعاته في ثقافة الفن السابع. هذا الناقد قد يجد كذلك في القماشة النصّية للفيلم الصامت وثنائيته التلوينية، الأبيض والأسود، هذا الغموض الحميد واللااختراقية التي تعكس، وتقدم تبريرا ضمنيا في نفس الآن، لاختياره الأسلوبي في الكتابة. فكما الفيلم الصامت الذي ينسج دلالاته وإحالاته عبر قماشته البصرية دون حاجة الأولية للحوار المنطوق، يستسلم هذا الناقد كلية للسينما كفن بصري بالدرجة الأولى، لتأتي كتاباته مليئة بلوغاريثمات تعبيرية خاصة بالفن، وغنية بقاموس تقني يحصر أفق خطابه في الدوائر الضيقة للمهتمين من دارسين وأكاديميين ومؤرخي السينما. هذا الناقد السينماتولوجي يجد في الفيلم الصامت المرمّم سر وجود السينما والمرتبط جدليا بسرِّ وجوده شخصيا كأنا ثقافية كذلك.
امام هذا الناقد الذي يستنطق النص الفيلمي من داخل ما يقدمه الفيلم بعناصره التركيبية الخمسة، الصورة المتحركة، النص المكتوب، الموسيقى، الضجيج، ثم الكلام الذي يغيب بعده الصوتي في حالة الفيلم الصامت، نجد ناقد السياق الذي يعي الفيلم السينمائي داخل أبعاده السياقية ولا يقدم له هذا الأخير إلا حافزا للكتابة ومن داخل المفهوم الأدبي الكلاسيكي لهذه العملية. هذا الناقد، والذي للإشارة لا تنقصه الخبرة الثقافية السينمائية، ولا يخلى عمله في ثنايا هذه الأخيرة من أهمية تُذكر، يعنى هوالآخر بالفيلم الصامت المرمّم ويقبل على مشاهدته ولكن، على عكس الأول، عوض الدخول مباشرة في تفكيك نصّيته السينماتوغرافية، يُسقط عليها نصا أدبيا موازيا. ناقد السياق، الذي لا شك يعتري نواياه الحسنة، غالبا ما تكون كتابته عملية غير مباشرة لإلغاء السينما في الجملة الأدبية. وبالتالي، وغالبا دون شعور منه، حين يكتب هذا الناقد عن الفيلم الصّامت بقصد الإحتفاء به قد يَنتُجُ عن كتابته عكس ذلك تماما. فمقاربته الأدبية للسينما، جملة وصيغة، قد ترقى لنص أدبي جميل ينتهي بإخراج هذه الأخيرة من عين الإعتبار، وبتكريس، مرّة أخرى، السلطة الرمزية للّفظ وأبيسية الكلمة.
متن السينما الصامتة المرمّم قد يخرج من أفق الإهتمام لبعض النقاد كلِّية، اللهم بالتغطية الصحفية لمهرجان يعنى بها، والتي غالبا ما تنحصر في جرد للعناوين والأسماء وتعليقات مقتضبة على المداخلات والنقاشات. مرجع عدم الإهتمام هذا قد نجده في بعض القناعات المسوغة في أوساط العديد من السينفيليين، ويشاركونها جمهور السينما عموما، والتي بنيت على سداجات موجودة في الثقافة المحيطة بالسينما، خصوصا في المحيط الثقافي لمجتمعات حديثة العهد بهذا الفن وتفتقد الشروط التاريخية والثقافية التي أنتجته. قد نستجلي هذه القناعات في التشابيه المؤنسنة التي تصف سينما الفترة الصامتة بعدم النضج والقصر، اعتبارا منها أن الكلام المنطوق، كما في حالة البشر، هو المؤشر الرئيسي على مرحلة البلوغ؛ أو تقيِّم غياب التقنيات التي تخوّل للصورة السينمائية النطق كحالة “إعاقة”. هذه التوصيفات لا تعبّر فقط عن سطحية الثقافة السينمائية الناتجة عن المعيارية التحقيبية التي تحصر وتختزل السينما كلية في نوع محدد، زمنيا ونظريا، في سينما خاصة، بل تعبّر كذلك عن جهل حقيقي بتاريخ الفن السابع، والذي كانت تقنية الصوت المصاحب كما تقنية التلوين في حوزته منذ البداية، وكان التخلي عنها مجرد اختيار ناتج عن رؤية إبداعية محضة. هذه التشابيه المؤنسنة قد تتجاوز السطحية والجهل، إلى الحطِّ من فئة إنسانية عمرية أو من ذوي الإحتياجات الخاصة كما سبق وأشرنا أعلاه.
هذه الفئة من النقاد، وإن تلقى كتابتها حظا وفيرا من الصدى، ولأسباب سوسيوثقافية تدخل في أفق تمثل مغلوط لفن السينما قد يتقاسمه الكاتب مع دوائر متلقيه، تشاهد الفيلم الصامت على ضوء فكرة تخلط بين السيناريو “الأدبي” والأدب، وتسيئ فهم الرؤية المتضمنة في فكرة “الواقعية الجوهرية” realism essentialالتي صاغها المنظر والناقد أندري بازان حول ارتباط السينما كجهاز بالواقع العيني، كمرادف لبراكسيس سينمائي يختزل السينما في المضمون الإجتماعي الذي ينهل من الواقعية من داخل مفهومها وإجراءها الأدبي.
(7) ترميم الصورة لبناء المشاهدة
شيء مهم أثبته المهرجانات السنوية التي تهتم بالسينما الصامتة، كمهرجان سان فرانسيسكو أو مهرجان بوردينوني بإيطاليا، هوأن هذه الأخيرة لازالت محط دراسة واهتمام خرجا عن دوائر الأوساط الأكاديمية وعشاق السينما إلى زوار القاعات السينمائية العاديين. فناهيك عن الطاقة التي لا يذخرها منظمو هذه المهرجانات في الحفاظ على الأشرطة التي عُدَّ الكثير منها في عالم الضياع، وترميمها وإعادة إنتاجها، يظل نجاح هذا المهرجان والإقبال عليه من طرف المهتمين بقطاع الفن السابع، ومن مختلف المرجعيات والمشارب، نتاج رغبة جمهور، يتزايد سنة بعد أخرى، في سينما لازالت تحتفظ بسحرها الخاص الذي ضاع في هذه الخلاسية التقنية التي تصهر حبكة فيلمية مبتذلة مع نمط الإثارة البصرية للعبة الكترونية. وهو ما يترك أي حضور لهذا المهرجان يَخلُصُ لنتيجة واحدة وهي أن السينما، عكس ما توقَّعه أندري بازان، حين حكم عليها كفن بدون مستقبل، لا زالت تستمر زمنيا ونوعيا في شكل تطور يثور على أي خطية زمنية ولا يخضع في جماليته وطاقته التعبيرية لأي تحقيب. الإقبال على مشاهدة الفيلم الصامت اليوم، يعني أن إستمرار السينما في المستقبل يبدأ بإعادة النظر، مشاهدة ومعرفة، في تجربة الماضي.
مهرجان الفيلم الصامت سواء في سان فرانسيسكو، أو طوكيو أو براغ أو بروكسيل، هو نوع من تعميم فائدة الدرس السينمائي الذي لا محالة سينهض بقطاع الإنتاج في السينما، ويُطَبِّعُ الجمهور مع ثقافة سينمائية متينة تمشي جنبا إلى جنب مع هذا الإنتاج. من هذا المنطلق يظل ضروريا الاهتمام بمتن السينما العربية الصامتة وتكريس المجهودات للحفاظ عليها وترميمها والعناية بها، سواء بتعميم مشاهدتها عبر مختلف الأنماط الوسائطية والشاشات، أو تناولها بالدرس والتحليل على المستوى الأكاديمي والخطاب الثقافي الشمولي. فالحفاظ على إيقاع تصاعدي لوثيرة إنتاج سينمائي يتراكم في الكمّ وكما يتميَّز في النَّوع، يشترط دراسة ومعاينة متن السينما الصامتة الغني والمتنوع كخطوة لا غنى عنها، تعادل في الأهمية عملية تلقين مادة النظرية السينمائية التي تراكمت هي الأخرى وتنوعت، بتصوراتها الواقعية والشكلانية، منذ ريتشيوتو كنودو في بداية القرن الماضي إلى توماس إلسايسر في الفترة الراهنة.
فالنظرية السينمائية، أو الفيلمية كما يفضل البعض تسميتها، تشمل الرؤية والمنهجية الناتجة عن إسهامات المباحث الإبستمولوجية في أصولها وفروعها من السيميائيين إلى مدرسة فرانكفورت، على سبيل المثال لا الحصر، كانت في كليتها تأخذ بعين الإعتبار متن السينما الصامتة. لذى فمتن النظرية المعرفي، والضروري لخلق ثقافة سينمائية حقّة، لا يمكن هو الآخر معالجته بالجدية اللازمة وتوليد استراتيجيات البحث والدراسة من خلاله، دون معاينته على ضوء متن السينما الصامتة الذي غذى الكثير من أفكاره ومقارباته. واللافت للنظر، في هذا السياق، هو أن الأسماء الكبيرة في الفترة الصامتة لم تعرف أي تكوين أو تمدرس تقليدي وكانت في أغلبها عصامية وتعتمد الحدس في ممارستها الفنية، هي التي شكَّلت الدعيمة الأكاديمية في تدريس الفن السينمائي. هذه المفارقة هي الأخرى تقترح على نقاد ودارسي السينما اليوم التعامل مع إنتاج هذا الفن بنوع من المرونة ورحابة الصدر وتقّبل التجارب الجديدة، وحتى المارقة منها، عوض الحكم عليه من منطلق الصنمية الفكرية لنظرية معينة أوأي تصور اختزالي يحكم على الفيلم بما يجب أن يكون فيه وليس بما فيه.
قبل دخول الحوار الناطق للسينما العربية سنة 1932 مع فيلمين مصريين أحدهما من إخراج يوسف وهبي، كانت السينما المصرية تعرف إنتاجا منتظما لفيلمين في السنة بدأ مع إخراج محمد بيومي لفيلم البشكاتب سنة 1923. قبل هذا العمل بسنة، أخرج المخرج التونسي ألبير شماما المعروف بلقب تشيكلي فيلم زوهرا (1922) ليليه فيلم عين الغزال (1924) الذي يعتبر أول شريط مطول تونسي صامت. نفس الحقبة عرفت إنتاج أول شريط مطول سوري المتهم البريء من إخراج أيوب بدري. العناية بهذا المتن والذي، طبعا، لا يمكن أن يُختزل وينحصر في العناوين التي ذكرنا، يعني البحث في ذاكرة ثقافية عربية تؤرخ لبدايات إحتكاك العرب مع خطاب ثقافي غريب عن أرضيتهم. في عملية إعادة النظر هذه، بالمعنى الحرفي عبر مشاهدة هذا المتن، والمجازي عبر التأمل في نصيته، يمكن أن نقف على مواطن الإشكال والتأزم المتولِّد عن هذا الإحتكاك، وكذلك الفرضيات والحلول التي لجأ إليها الرواد في التواصل مع جمهورهم عبر نسق تعبيري غريب عن أرضيتهم، وجدُّ غربي بالنسبة لذائقتهم وحساسيتهم. دون شك سنكتشف جذور عبقريات سينمائية عربية أورقت لاحقا مع حسين كمال وناصر لخمير ومومن السميحي. فقط تناول هذه السينما بالإهتمام المناسب يجعلنا نقف على حدود وآفاق تجارب العرب الأولية في الكتابة بالضوء، أي قبل اللجوء إلى الحلول المستسهلة في الأغنية العربية مع كلاسيكيات محمد عبد الوهاب أو السيناريو الذي يستند على القاموس اللفظي الشعبي في واقعية صلاح أبو سيف.
فاسترجاع واستعادة السينما العربية الصامتة قد يعني أخيرا تفعيل ذاكرة عربية يختلف في خطّته ونتائجه عما يعنيه التفعيل العقيم لذاكرة الماضي الذي أصبحنا نعاني يوميا من نتائجه الوخيمة، ولا مجال هنا لذكرها؛ لأن هذه الذاكرة السينمائية تتجه ضرورة نحو المستقبل. فترميم السينما العربية الصامتة هو خطوة أخرى في بناء سينما المستقبل وليس مجرّد إحتفاء فاتر بسينما الماضي.
أوستن، سان فرانسيسكو. سبتمبر 2017