سيرجيو ليوني.. الكاوبوي الإيطالي
ننشر هنا نص مقدمة كتاب “سيرجيو ليوني وسينما الويسترن اسباجيتي: الذي صدر حديثا للناقد والكاتب المصري أمير العمري، وهو الكتاب الأول في المكتبة العربية عن أعمال هذا المخرج الكبير.
بدأت علاقتي بأفلام سيرجيو ليوني في الطفولة. كنت وقتها مغرما، مثل معظم الأطفال في سني، بأفلام “الو يسترن” التي كنا نطلق عليها أفلام الكاوبوي. كانت تبهرنا البطولة الخارقة التي يتمتع بها أبطال تلك الأفلام القادمة من هوليوود، وخصوصا الأفلام التي كان يقوم ببطولتها جون وين، مثل “الباحثون” مع جيفري هنتر، و”ريو برافو” مع دين مارتن، و”إلدورادو” مع روبرت ميتشوم، و”معركة آلامو” مع ريتشارد ويدمارك، وكنا نصفق عندما ينجح البطل- الكاوبوي في قتل أكبر عدد من “الهنود الحمر” المتوحشين الذين يضعون الريش فوق رءوسهم، ويصرخون صرخاتهم الغريبة التي كنا نقلدها، ويهجمون فجأة على الكاوبوي وقبيلته أو صحبه، ويلقون بالرماح والسهام، بينما كان الأمريكيون من جماعة الكاوبوي، يضربونهم بالرصاص ويستخدمون في ذلك البنادق الحديثة. كنا نراها على نحو ما، معركة بين رموز الحضارة الحديثة، وقوى التخلف العتيقة، ولم يكن الوعي العام قد نضج بعد بشأن حقوق السكان الأصليين، والأقليات الإثنية، كما لم تكن نظرتنا كأطفال إلى هذه الأفلام، تتجاوز بالطبع، جانب المتعة والتسلية والإثارة، وأظنه كان الجانب الذي يجذب أيضا الكبار في العالم إلى أفلام الغرب الأمريكي.
مرت سنوات قليلة، ثم ظهر فجأة فيلم قادم من المجهول هو فيلم “من أجل حفنة دولارات”. لم يكن مثل سائر أفلام الكاوبوي. كان بطله أكثر غموضا، قليل الكلام، باردا تماما في انفعالاته، ولكنه كان شديد البأس والقوة والعنف، يمكنه أن يفتك بفصيلة كاملة من المسلحين الأشرار بمسدسه الذي يجيد إخراجه بسرعة فائقة. ولعل ما كان يلفت النظر إلى هذا الفيلم، غياب “الهنود الحمر” الذين تم استبدالهم هنا بالمكسيكيين. لم يكن الصوت طبيعيا تماما في الفيلم فكنا نشعر بأن هناك عدم سلاسة في العلاقة بين حركة الشفاه وأصوات الممثلين. وعرفنا بعد أن كبرنا أن غالبيتهم كانوا من الممثلين الإسبان والإيطاليين، وكان الدوبلاج هو الوسيلة التي تستخدم لجعلهم “أمريكيين” أو حتى مكسيكيين يتحدثون الإنجليزية بطريقتهم.
عندما بدأت الاهتمام بالسينما لم تكن أفلام برجمان وجودار وفيلليني وفرنسوا تروفو، هي التي تشغل اهتمامي. لم يكن الوقت قد أتى بعد، فهذا الاهتمام لم يأتِ سوى بعد الالتحاق بـ “نادي السينما”. إلا أنني كنت أيضا مهتما بمعرفة من الذي يصنع هذا النوع الجديد المختلف من أفلام “الويسترن” الغريبة التي لم يكن يظهر فيها أبطالي الأسطوريون من أمثال جون واين وروبرت ميتشوم ودين مارتن وجاري كوبر ولي مارفن. وقد لفت نظري بشدة، كما أظن أنه لفت أنظار الصغار والكبار وقتها، ذلك الممثل ذو الوجه المتجهم الغامض الذي يدعى كلينت إيستوود. لم يكن أحد منا يعرفه من قبل. وكان الأكثر مدعاة للتساؤل هو اسم مخرج فيلم “من أجل حفنة دولارات” الذي عرض في مصر تحت هذا الإسم وليس تحت اسم “حفنة دولارات” كما هو عنوانه باللغة الإنجليزية. فقد كان اسم المخرج الذي ظهر على الشاشة هو “بوب روبرتسون”. ولم يكن هناك مخرج أمريكي معروف بهذا الإسم. وعندما جاء الفيلم الثاني لنفس “الكاوبوي” الجديد، أي فيلم “من أجل مزيد من الدولارات”، ثم الفيلم الثالث “الطيب والشرس والقبيح” ظهر الإسم الحقيقي للمخرج وهو سيرجيو ليوني. وأصبح السؤال: ومن هو سيرجيو ليوني هذا؟ هل هو إسم مستعار لمخرج أمريكي يتخفى تحت إسم لاتيني أو إيطالي؟
عن طريق البحث والقراءة عرفت أن ليوني مخرج إيطالي اختار لنفسه ذلك الاسم المستعار، وضعه على فيلمه الأول من نوع “الويسترن” الذي يدور في الغرب الأمريكي، للإيحاء بأنه مخرج أمريكي، ولكنه كان يصور أفلامه هذه في الريف الإسباني، وفي مدينة السينما بروما، ومناطق أخرى بالقرب من مدريد، وعرفنا أن هناك موجة كبيرة من هذا النوع من الأفلام أطلق عليها النقاد “الويسترن سباجيتي” للتفرقة بينها وبين الأفلام الأمريكية “الأصلية”.
وقد حققت هذه الأفلام نجاحا شعبيا هائلا بين جمهور السينما في مصر، وأصبح أبطالها نجوماً يشار إليهم بالبنان، وامتد هذا النجاح، فيما بعد، إلى سلسلة أخرى من الأفلام تحمل اسم ترينيتي مثل “يدعونني ترينيتي” و”مازال اسمي ترينيتي”، و”دائما ترينيتي” وغير ذلك. وكان يشترك في بطولة هذه السلسلة التي حققت شعبية كبيرة في عروضها في دور السينما المصرية، في القاهرة والمحافظات المختلفة، اثنان من الممثلين الإيطاليين هما: تيرانس هيل وبد سبنسر. وسيتضح لنا فيما بعد أن هذه الأفلام إيطالية الصنع أيضا، وأنها صورت أيضا في اسبانيا وإيطاليا وليس في أمريكا كما توحي أحداثها، بل واتضح أيضا أن الاسم الحقيقي للممثل بد سبنسر هو “كارلو بيدرسولي”، أما تيرانس هيل فاسمه الحقيقي هو “ماريو جيروتي”. ولكن اختيار الأسماء الأمريكية جاء لنفس السبب الذي جعل سيرجيو ليوني يخرج في البداية تحت اسم “بوب روبرتسون”. وقد ظهرت هذه الموجة التي اتخذت طابع الكوميديا، بهدف السخرية والنيل من الطابع الجاد والمتجهم في أفلام الويسترن سباجيتي التي كان قد صنعها ليوني، وهو ما سأتعرض له خلال أحد فصول هذا الكتاب.
عرفنا بعد ذلك واستمتعنا كثيرا بأفلام جوليانو جيما وفرانكو نيرو وغيرهما، وكانا يظهران بأسمائهما الإيطالية، كما كان كل مخرجي هذه الأفلام “الاسباجيتي” من الإيطاليين بالطبع. وكان من الغريب ألا يحظى أحد نجوم أفلام الويسترن الإيطالية وهو جيان ماريا فولونتي، بالشهرة نفسها التي تمتع بها غيره. ربما بسبب صعوبة نطق الإسم، وربما أيضا لأنهم كانوا يسندون إليه دائما دور الشرير وليس البطل رغم أنه قام ببطولة الفيلم الشهير من الموجة نفسها وهو فيلم “رصاصة للجنرال” إخراج داميانو دامياني. ولكن السبب يرجع غالبا، إلى انتمائه السياسي وقراره الجريء بالامتناع عن العمل في هذا النوع من الأفلام، وتكريس موهبته الكبيرة للعمل في كثير من الأفلام السياسية التي تحمل رسالة ما. وهو نوع انتشر كثيرا في إيطاليا في الستينيات والسبعينيات.
أما القنبلة التي رفعت من أسهم تلك الموجة من أفلام الويسترن، فقد جاءت مع فيلم “الطيب والشرس والقبيح” ثم “ذات مرة في الغرب”، وكلاهما بالطبع من إخراج سيرجيو ليوني، وكما أن جميع أبطالهما من الممثلين الأمريكيين. وأتذكر أن “ذات مرة في الغرب” أصبح حديث الشارع في مصر وقت عرضه، كما أتذكر أن الحديث حول هذا الفيلم، رغم أنه عُرض مبتورا منه مشاهد عديدة، امتد إلى حصة الرياضيات في مدرستي الثانوية. وكان مدرس هذه المادة شابا رائعا متفتحا، وكان يتعامل معنا نحن طلابه، كأصدقاء، وهو الذي أخذ يحدثنا عن الفيلم، ويشيد بما أطلق عليه “السيناريو” ويقوم بتحليله وتحليل شخصياته، وهو ما لفت نظر أحد زملائي الذي أخذ يحدثني بعد انتهاء الحصة مبهورا من فكرة أن مدرس الرياضيات يعرف كيف يحلل “السيناريو”. كنا نشعر أننا قد أصبحنا في ورشة لتدريس السينما لا تعليم الرياضيات.
مضت الأيام، وغاب الاهتمام بأفلام ليوني، فقد انقضى عهدها بعد أن قل الاهتمام كثيرا بأفلام الويسترن عموما، مع ظهور موجات وحركات التجديد السينمائية، مثل الموجة الجديدة الفرنسية، والسينما الحرة البريطانية، وسينما الأندرجراوند الأمريكية، كما امتد التجديد إلى سينما بلدان أوروبا الشرقية: تشيكوسلوفاكيا والمجر وبولندا ويوغسلافيا بل وإلى الاتحاد السوفيتي نفسه. ولم يكن غريبا في ظل الاهتمام بهذه الحركات الجديدة ألا يعرض نادي القاهرة للسينما طوال تاريخه كله، فيلما واحدا من أفلام سيرجيو ليوني ويناقشها كما كان ينبغي، أي كأعمال فنية متميزة بملامحها الخاصة، تركت تأثيرا كبيرا على عشرات المخرجين وصناع الأفلام في هوليوود نفسها.
على الرغم من اهتمامي الكبير الممتد منذ أربعين عاما أو أكثر، بالسينما الفنية، أو ما يعرف بـ”سينما المؤلف” أكثر من اهتمامي بالتيار العريض في السينما (مثل أفلام سبليبرج وجورج لوكاس وإيرفن كيرشنر.. إلخ) إلا أنني ظللت مهتما بل ومولعا دائما بثلاثة أنواع من أفلام التيار العريض: أفلام سلسلة جيمس بوند، وأفلام ألفريد هيتشكوك، وأفلام سيرجيو ليوني. وكنت دائما أعود لمشاهدتها واستعادة مشاهدها وأساليب مخرجيها، وأستمتع بها كما أستمتع بأرقى الأعمال الفنية، في المسرح أو الفن التشكيلي أو الموسيقى، أو بالطبع، في السينما. كانت أفلام جيمس بوند، وهي سلسلة مازالت ممتدة حتى اليوم، تعيدني إلى براءة العلاقة مع السينما في زمن الطفولة، وكانت أفلام هيتشكوك دائما، مجالا لاكتشاف العالم من خلال نظرة شديدة الخصوصية والغرابة، أما أفلام سيرجيو ليوني فقد أصبحت محفورة في الذاكرة والوجدان بفضل طابعها البصري المتميز وموسيقاها التي لم تكن مألوفة، وكلما مضى الزمن عليها، زادت أهميتها وقيمتها الفنية، واكتشف فيها المرء، وهو يعيد المشاهدة والبحث والتدقيق، جوانب كثيرة كانت خافية، وسحرا ربما لم يعد له وجود في سينما اليوم.
قبل عشرين عاما راودتني فكرة تأليف كتاب عن سينما سيرجيو ليوني وأفلامه وعصره. إلا أنني كنت أؤجل دائما الفكرة وأتجه للاهتمام بمواضيع أخرى، وربما كنت أشعر أيضا، بأن الفكرة تقتضي بحثا مكثفا مرهقا، رغم أن ليوني لم يخرج عمليا أكثر من سبعة أفلام فقط، لكنه عمل في عشرات الأفلام كمنتج وكاتب سيناريو ومخرج مساعد بل وكممثل في أحيان قليلة. ويعتبر فيلمه الأخير وحده “ذات مرة في أمريكا” (1984)، تحفة فنية نادرة التكرار، وقد تركت تأثيرها الكبير على أفلام غيره من المخرجين العظام في السينما الأمريكية وغيرها. وعندما كنت أشاهد أفلام ليوني كنت أجد فيها الكثير مما يذكرني بأفلام أخرى محفورة في تاريخ السينما. فقد كان ليوني أولا وأخيرا، عاشقا كبيرا للسينما، وللسينما الأمريكية خصوصا، ولأفلام الو يسترن والعصابات بوجه خاص. وكان يحفظ عن ظهر قلب، تفاصيل مشاهد كاملة من الأفلام الكلاسيكية من هذه النوع، كما يحفظ ويردد حواراتها الكاملة، ولعله كان أفضل مخرج غير أمريكي صنع أفلاما عن أمريكا التي حلم بها قبل أن يزورها. وهو يرى أن أمريكا ليست مثل غيرها، فبينما فرنسا هي بلد الفرنسيين، وإيطاليا بلد الإيطاليين، وألمانيا بلد الألمان.. إلخ، إلا أن أمريكا هي العالم بأسره. وليس من الممكن فهم أفلام ليوني والاستمتاع بها سوى من خلال فهم علاقته الخاصة جدا بأمريكا: وبالغرب الأمريكي خصوصا. دون أن يعني هذا أنها لا تصبح أيضا علاقة (حب- كراهية) وهي العلاقة التي كانت وراء صنع الكثير من التحف الفنية في العالم.
في هذا الكتاب أروي قصة ليوني وعلاقته بأمريكا والعالم، من خلال تحليل أفلامه، والتوقف أمام مناطق الجمال فيها، بعد العودة لمشاهدتها ومراجعة الأصداء التي تركتها في زمانها أي عند عرضها الأول، خصوصا داخل الولايات المتحدة. ولكن كان لابد أن أبدأ الكتابة من البداية، أي من قبل أن يصنع ليوني أفلامه “الأمريكية” إذا جاز التعبير، سواء قبل أن يطأ بقدميه أرض الولايات المتحدة، حينما كان يصور في اسبانيا إيطاليا، أو بعد أن أتيحت له الفرصة للتصوير هناك مع فيلميه الأخيرين على وجه التحديد. لذلك فقد عدت إلى تجاربه الأولى في الفيلم “التاريخي” المليء بالحركة والمغامرات، وكان هذا النوع ينتج في إيطاليا، ثم انتقلت إلى أفلام الو يسترن التي أخرجها وصنعت مجده، لكي أنتهي إلى فيلمه الأخير المختلف تماما عن سائر أفلامه.
ليس لدي شك في أن سبب نجاح أفلام ليوني عند الجمهور في مصر والعالم العربي، يرجع إلى أن أفلامه كانت ذات نكهة شرقية، فيها نفس قريب من قصص البطل الشجاع الذي لا يهاب الأشرار، رغم أنه قد يكون قاسيا جدا، وشديد القسوة. كما أن موسيقى إينيو موريكوني أضفت عليها جوا ساحرا قريبا من أذن المستمع العربي ووجدانه. وقد لمست بنفسي كيف كان الجمهور يصطف كل ليلة تقريبا، لمشاهدة فيلمه الأخير “ذات مرة في أمريكا” عندما عرض بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي عام 1986. وكان ليوني حاضرا المهرجان ضمن وفد إيطالي كبير أحضره فاروق حسني عندما كان رئيسا للأكاديمية المصرية للفنون في روما، وكان من أشهر أعضاء هذا الوفد أيضا الممثل فرانكو نيرو. وقد حضرت المؤتمر الصحفي مع سيرجيو ليوني الذي أداره الناقد الراحل يوسف شريف رزق الله، ووجهت أيضا سؤالا إلى ليوني يتعلق بتصويره المرأة في أفلامه عموما، وفي فيلمه الأخير بوجه خاص. ثم حضرت مع ضيوف المهرجان عرضا خاصا نظمه المهرجان لضيوفه، من عروض الفرقة القومية للفنون الشعبية في مسرح البالون بالقاهرة. وكان ليوني يجلس أمامي مباشرة. وقد أخذ يلتفت ويتطلع إلى سقف خيمة السيرك الكبرى (التي أقيمت في الماضي بالتعاون مع الاتحاد السوفيتي) وكانت مرفوعة على أعمدة نحيفة ولا أعرف كيف أصبحت اليوم. وشعرت أن ليوني لم يكن يشعر بالارتياح، وربما كان يعاني أيضا من نوع مخفف من “فوبيا” الأماكن المغلقة أو الأسقف الغير مسواة، فبعد أن رفع رأسه أكثر من مرة، ونظر بتمعن إلى سقف خيمة المسرح التي تشبه خيام السيرك، انسحب من العرض قبل أن ينتهي. ولم أكن أعرف أنه سيغادر الحياة بعد أقل من ثلاث سنوات.
كانت شخصية ليوني دائما شخصية تتصف أيضا بقدر ما من الغموض، شأنه شأن الكثير من أبطال أفلامه. وهو لم يكن يعتبر نفسه من جماعة سينما المؤلفين من أمثال فيسكونتي وفيلليني وأنطونيوني وبازوليني، كما كان يرفض المفهوم السياسي للسينما الذي شاع في وطنه إيطاليا ومن أعلامه المخرج فرنشيسكو روزي. ورغم ذلك، كان ليوني يميل لليسار، وقد أعلن غير مرة انتماءه الاشتراكي، وكان يوجد في طيات أفلامه من نوع “الو يسترن سباجيتي” التي لم يكن النقاد وقتذاك يتعاملون معها بجدية، رسائل أو إشارات سياسية تعكس أيضا موقف مخرجها ورؤيته، لكن ليوني كان يفضل أن يكون الفيلم ذا مستويين: المستوى الأول الذي يحقق المتعة والتسلية والإثارة، والمستوى الثاني الذي يرسل بعض الإشارات الخافتة أو التعليقات الاجتماعية والسياسية كما سنرى في فصول هذا الكتاب.
وقد اخترت أن أبدأ بتناول نشأته في بيئة سينمائية خالصة وتأثير هذه النشأة عليه، ثم اتجاهه الطبيعي إلى السينما وعمله كمساعد للإخراج، ثم عمله في الفيلم الأول “أيام بومبي الأخيرة” كمخرج مشارك، تماما كما كانت بداية فيلليني عندما شارك في فيلم “أضواء المنوعات” مع صديقه المخرج ألبرتو لاتوادا، ثم أتوقف أمام فيلم ليوني الثاني الذي أخرجه بمفرده وهو فيلم “تمثال رودس”، قبل أن ينتقل إلى عالمه المفضل، أي إلى “الو يسترن سباجيتي” ويستكمل مشروعه السينمائي الخاص في “اكتشاف” أمريكا من وعيه وخياله الشخصي.
وكما كان مهما أن يعرف القارئ كيف استقبل النقاد أفلامه، داخل وخارج إيطاليا، كان من المهم أيضا أن أضمن هذا الكتاب فصلا أخيرا، أو ملحقا، يتضمن ترجمة شهادات بعض الذين عملوا معه من السينمائيين والتقنيين، ومنهم من أصبحوا بعد ذلك من مشاهير المخرجين وفناني السينما عموما. وأضفت في النهاية قائمة كاملة بأفلامه، أي “فديموغرافيا” تفصيلية، كما حرصت على ذكر المصادر التي استعنت بها في طيات هذا الكتاب، ووضعتها في متن الفصول نفسها وليست كهوامش بعيدة عن عين القارئ، ثم وضعت قائمة بها باللغة العربية في نهاية كل فصل، ثم عدت ووضعت في النهاية، قائمة كاملة بالمراجع التي وردت في الكتاب كله في لغاتها الأصلية، حتى يمكن لمن يريد، العودة إليها للاطلاع والمراجعة والحصول على مزيد من المعلومات.
جاء هذا الكتاب، مدفوعا أولا وأخيرا، بحب السينما، وعشقي لأفلام سيرجيو ليوني، وإعجابي بأسلوبه السينمائي الذي يبدو بسيطا ولكنه شديد التركيب، ويمكن لمن يدقق، أن يجد له علاقة وثيقة بالفن التشكيلي، وبالعصر الباروكي خصوصا، ويلمس كيف أنه يميل إلى الابتكار والتنويع، وخلق إيقاع خاص، ولغة بصرية خاصة حتى في أكثر أفلامه ميلا إلى “الأكشن” والعنف والمبارزات التي تجري بالرصاص. وكما غير ليوني شكلَ أفلام “الو يسترن”، فقد غير أيضا طريقةَ استقبالِ الجمهور للسينما، حينما جعل شريطَ الصوت يحكي ويسردُ ويعبر، وقدم لنا الشخصيات من دون حاجة إلى شروح كلامية عبر الحوار. وبسبب اهتمام ليوني الكبير بتكوين الصورة، وبحركة الكاميرا ومقاسات اللقطات، ودقة المونتاج وبناء المشهد بطريقة مبتكرة، فإنني أعتبر أفلامه تنتمي للسينما الخالصة التي لا تشبه أيا من الفنون الأخرى حتى ما يستند منها مثل فيلمه الأخير، على أصل أدبي مكتوب.
وأخيرا أود أن أهدي هذا الكتاب إلى كل عشاق السينما عموما، وعشاق سينما سيرجيو ليوني خصوصا.
الكتاب صدر عن دار المرايا للنشر- 23 شارع عبد الخالق ثروت- القاهرة